بحثاً عن أبجدية المشروع الوطني
بقلم / عبدُالعزيز البغدادي
من الناحيةِ النظريَّةِ، ليس من الإنصاف ولا من الحكمة الادّعاء -من أيٍ كان- أننا نبدأ دائماً من الصفر في عملية التنظير بحثاً عن مشروع وطني تلتف حوله القوى الوطنية اليمنية المستشعرة للمسؤولية، فقد طُرحت في مراحلَ عديدة كثيرٌ من التصورات النظرية لمشاريع وطنية من شخصيات وأحزاب، سواء على مستوى دولة الوحدة أَوْ على مستوى الدولة الشطرية قبل وحدة 1990 التي صنِّعت كما أكرر دائماً لتكونَ الطريق إلى التشطير الحقيقي أَوْ التمزيق.
وقد أُطلقت تلك التصورات غالباً في محطات تأريخية حرجة؛ تعبيراً عن إحساس واضعيها بمسؤولية البحث عن طرق بناء الدولة اليمنية وكيفية التعامل مع خيارات وطموحات المجتمع اليمني وحلمه بالتوحد بالقدر المطلوب من الاحترام والاهتمام، إلا أن قوى الفساد في الداخل بالتحالف مع قوى الهيمنة الإقليمية والدولية الطامعة في السيطرة على موقع اليمن ونهب خيراته قد تمكنت مع الأسف من إعاقة أية خطوة عملية جادة؛ لإنجاح المشروع الوطني المنشود واستطاعت من خلال السلطة الفاسدة التي دعمت بقائها لعقود تشويه تجربة الوحدة لتتحول بفعل الفساد الممنهج من حلم إلى كابوس وبخَاصَّـة عند أصحاب الرؤى الانفعالية أو التي لا تهتم برؤية حجم المؤامرة على الوحدة الحقيقية سواءً نتيجة معاناة أو سوء فهم أَوْ استسلاماً لدعايات المنكرين لوجود نظرية المؤامرة وهم من يقودها وربما يقوده أيضاً!.
ومع ذلك لا تخلو مرحلة تأريخية من وجود الوطنيين المخلصين الحريصين على تلمس الرؤى الملائمة للحفاظ على الكيان الوطني اليمني من الانهيار والتشظي والاضمحلال بفعل الممارسات وَالأخطاء القاتلة التي أساءت وأفسدت الدولة الشطرية وامتد فسادها ليَلتهم دولة الوحدة التي كان أمامها فرصة لتكون الدولة الأولى ليس فقط في شبه الجزيرة العربية بل وفي الوطن العربي إن لم أبالغ لو وجد المشروع الوطني الحاضن بحكم حجم اليمن ومقوماتها ليس وجوداً نظرياً يرفع للمزايدة والابتزاز؛ بهدف تحقيق مصالح شخصية ومقومات اليمن موقعاً وحضارة واقتصادا وإنْسَاناً وغيرها محل إجماع الباحثين الجادين عن الحقيقة.
نعم لا تخلو مرحلة من وجود ذوي الروح الحية ممن يقذفُ اللهُ في قلوبهم الحماسة والإحساس بالمسؤولية الوطنية والدينية والأَخْــلَاقية؛ لتستمر عملية البحث عن الصيغة التي يتفق عليها الشعب أَوْ يؤيدها بإرَادَة حرّة وصادقة يصاغ بها المشروع الحلم؛ لأنَّ التمسك بالحرية والصدق في التعامل هي محور كُلّ عملٍ ناجح؛ ولهذا نرى أن اليمن هذا الوطن الأصيل والمهم بقي ويبقى عصياً على الابتلاع وغير قابل للاضمحلال رغم حجم كُلّ هذا التآمر الرامي إلى محو وجوده أو مسخ هويته.
صحيحٌ أنه ليس من الإنصاف أن يدّعي أحد البدءَ نظرياً بصياغة مشروع وطني ينقذ اليمن مما تعانيه، لكن يمكن القول إن البدءَ بالخطوات العملية لهذا المشروع لا يزال حُلماً تتجاذبه الإرادات نتيجة تكاتف قوى المصالح غير المشروعة والتي تتنقل في حربها بين العدوان المباشر على هذا البلد والمؤامرات والمعارك السياسية التي تجنّد لها عملاء وأتباع من كُلّ الأشكال والألوان والمستويات، مستغلة حالة انهيار القيم وعدم مبالاة القوى الوطنية الخيرة؛ ولهذا نرى أصحاب المصالح غير المشروعة تجدّد جلدها على الدوام وتعمل بكل طاقتها في كُلّ الظروف لإعاقة أي تحَـرّك وطني يحاول البدء بخطوات عملية جادة تنقل المشروع الوطني من مرحلة النظرية إلى مرحلة العمل وتعمل على إقصاء أبنائه الشرفاء بشتى الوسائل، وبذا تعددت الأصفار لتكون صفراً كبيراً يسيطر على العقول التي ظلت طريقها؛ لأنَّ أغلب من في الساحة مسكون بهاجس التمحور حول الذات وجشع المال والسلطة وكراهية الآخر أَوْ في أحسن الأحوال عدم الاكتراث لوجود هذا الآخر ومن لا يكترث لوجود الآخر لا يجد ذاته ومن المستحيل وجود وطن قوي مستقل سيد دون شعب قوي متماسك يدرك كنه ومعنى الوطن ويتجاهل حقيقة البداية للخروج من هذه الدوامة التي تدور حولها هذه القوة الوطنية والتي أراها تكمن في تقوية الشعور بالمسؤولية الوطنية الحقة الرافضة للتبعية واستقواء طرف سياسي على آخر بأي طرف خارجي أياً كان الاختلاف معه، إذ من المعلوم بداهة ووفق كُلّ الأصول والقواعد والمبادئ أن من يستعين بالخارج على أبناء وطنه كي يعيدوه حاكماً عليهم هو خائن بإجماع فقهاء الماضي والحاضر والمستقبل ووفق كُلّ الأديان والقوانين والنظم والأعراف!!
ومن السهل تبادل الاتهامات المرسلة بالعمالة والارتهان للخارج، لكن مصداق كُلّ اتهام هو الدليل الذي يثبته، وهل يوجد أوضح دليلاً وأقوى حجة من لجوء قيادات سياسية في الوطن إلى دولة معروفة بعدائها لليمن ونهبها لأراضيه للاستعانة بها على إعادتها للحكم؟!.
وهل يوجد عاقل أَوْ مثقف أصيل لا يعي ولا يدرك دور السعوديّة في تدمير اليمن والتآمر عليه من الداخل والوقوف ضد قيام دولة يمنية عزيزة مقتدرة ذات سيادة منذ نشأت المملكة السعوديّة وعلى مدى وجودها الذي تكون من أجزاء من أراضي اليمن والعراق والإحساء ونجد والحجاز وكل الكيانات والدول الأصيلة المجاورة، وهل يوجد من لا يحس بكل هذا العدوان المباشر بآلاف الغارات المستمرة منذ 26/03/2015م وحتى كتابة هذه الأحرف الذي ارتكب خلاله كُلّ المحرمات المنصوص عليها في جميع القواعد والمواثيق والنصوص والاتفاقات الدولية مع الحصار الاقتصادي والعسكري لكل اليمن براً وبحراً وجواً؟؟
ومع كُلّ هذا لا زلنا نسمع بعض الأصوات التي تتخيل بأن بمقدورها إقناع بعض السذج بأن هذه السعوديّة والإمارات ومن آزرهما بعد كل ما فعلته باليمن يمكن أن تكون ضمن من يصوغ المشروع الوطني ليمنٍ حرّ أو تساهم في صياغته وأن كُلّ هذا الاستهداف إنما يأتي دعماً لإعادة الشرعية المزعومة؟!!
إنَّ هذا التخيلَ لا يعني سوى الاستمرار في متاهة الضياع وعدم الجدية في تلمس البداية الجادة للطريق نحو مشروع وطني حقيقي، وأنا هنا لا أقصد بالصياغة الاعتماد على المشاريع النظرية المسكونة بأجندة العملاء والمرتهنين للخارج المعتدي على اليمن الطامع في خيراته، مستعيناً بعصابة لصوص اعتقدت أن هذا الخارج ومصدر الشرعية ولهذا فقد سلّمها زمام أمره ليقومَ هذا المعتدي برفع شعار الشرعية والمشروعية للاعتماد عليها في استمرار عدوانه في سابقة هي الأخطر بين كُلّ انتهاك للشرعية الدولية في العالم، ولكنني أبحث عن المشروع الوطني الذي يستمد وجوده من معاناة اليمنيين الذين اكتووا بنيران العدوان والحصار.
من هنا يمكن الجزم أن تظافرَ وتكاتُفَ الجهود الوطنية الشريفة التي وقفت ضد العدوان وقوفاً حقيقياً صادقاً رافضا للتبعية بكل صورها هي بداية المشروع الوطني، أما من وقف موقفاً سلبياً أمام هذا العدوان فلا أعتقد أنه مؤهل للإحساس بأهميّة وجود مشروع وطني.
والأرجح أن موقفَه السلبي يندرج ضمن مساندة العدوان وتنفيذ أجندة أُخْــرَى لا علاقة لها بالوطن ولا بمشروعه!!.
إذاً لتجاوز صفر التنظير لا بد أولاً من تظافر الجهود والبدء بتنفيذ المشروع الذي طال انتظاره ووضع خطة عمل مدروسة يقع الدفاع عن اليمن واسترداد السيادة الوطنية وإخراج القوى الأجنبية في مقدمة أولوياته، وكذا العمل على اجتثاث الفساد الذي استشرى على مدى عقود والبدء ببرنامج عمل وطني تنموي شامل يضع الأولويات ضمن خارطة توائم بين الضرورات والاحتياجات.
إن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هو أحدث مظهر من مظاهر الهمجية الدولية في هذا العصر الذي يؤكد من خلال العدوان البشع على اليمن مستوى النفاق الدولي وسيادة شريعة الغاب والمفترض ونحن في بداية القرن الواحد والعشرين أن يكون الإنْسَان قد وصل إلى مرحلة من رقي التفاهم بين البشر، ما يجعله يتعايش مع غيره بإدراك أن أعلى درجات الفهم لحماية المصالح هو الاعتراف بسيادة الدول وإيجاد آلية للتفاهم حول المصالح المشتركة بينها هو المدخل للأمن والسلام القائم على العدل والحرية في العالم ومن أبجدية الوعي القانوني أن حرية الأفراد في التعامل هي ملكٌ للأفراد وهم يعبرون عنها أُم حرية الشعوب فإنها لن تكون أبداً رهن إرَادَة الرؤساء والملوك العملاء للخارج أَوْ الهاربين إليه يتسولونه أن يعيدهم حكاماً على الشعب مقابل التنازل عن السيادة والاستقلال والحرية.