هكذا أفهم المسيرة القُـرْآنية
بقلم | ئصلاح الدكاك
أُحاوِلُ أن أحتفظَ بقُدرتي على الحزن حتى لا يصبحَ التجلُّدُ قسوةً ومَوَاتاً عاطفياً، فلا أملَ إلا من ألم، ولا كمال إلا من نقصان ولا قوة إلا من ضعف..
بقلبٍ كبير رَحْبٍ جيّاش بالعواطف ومترعٍ بالإيْمَـان، حمل ذلك المقاتلُ الأسطوري اليمني الأَنْصَـاري رفيقَه الجريحَ، وعبر به في اختلاج أمواج الموت وتأويل هذه الواقعة بالشجاعة النادرة والحنكة الاستثنائية وفرط رباطة الجأش هو تجريد للمقاتل من إنْسَانيته بخلع أوصاف الجمادات عليه..
إنّني – بخلاف كثيرين- أرى في مشهد الإخلاء الشهير الذي أذهل العالمَ فيض أمومة رؤومة لا فرط شجاعة وحنكة، وأرى دَفْقَ أحاسيس مرهفة لا جسارةً وجرأةً، وأرى عاشقاً عظيماً لا مقاتلاً غيرَ آبهٍ بالموت، وأرى إنْسَاناً في ذروة كمال الإنْسَانية لا سوبرماناً خارقاً مفارقاً لجبلة البشر مبرأً من نواقصهم.
لا تمعنوا النظرَ في الأشلاء حتى لا يفقد الجسد البشري حُرمتَه في نفوسكم، كما فقد حرمته في نفوس تحالف المسوخ والقَتَلَة، فيُصبِحُ الموتُ لديكم اعتياداً كما باتت صناعة الموت لدى الجلادين اعتياداً..
احزنوا للدم المسفوك ظلماً وعدواناً؛ لكي يكون بمقدوركم أن تغضبوا له فلا غضب بلا حزن..
إن الفرقَ الجوهريَّ بين المرتزِقِ القاتل والشريف المقاتل يكمن في أن الأول استرخَصَ عِرْضَه وأرضَه وآدميته وأغلى المال فخسرها جميعاً، بينما أغلى الآخر عرضَه وأرضَه وآدميته واسترخص دمَه ونفسَه ومالَه في سبيلها، فربحها جميعاً ومثليها معها كرامةً ومنزلةً وحياةً أبدية وخلوداً في الأرض والسماء والأولى والأُخرى.
التقيت مجاهداً في جلسة ضمَّت كوكبةً من شعراء القصيد والزامل، وقد توجه إلينا بلين ورِقَّة طبع ناصحاً إيانا بتجنُّب توصيفِ المجاهدين بـ (الوحوش والنمارة والحنشان،…) في سياق وصف شجاعتهم كما وعدم التلذذ بمَوت العدو والتشنيع والنكاية بمشهد موته..
هكذا أفهم المسيرة القُـرْآنية ورجالها الأشداء بلا جور والرحماء بلا وَهْنٍ ولا ذِلّة..
وهكذا أفهم حَثَّ سيدِ الثورة لأسر الشهداء على الكَفِّ عن إطلاق الزغاريد والأعيرة النارية في مواكب تشييعهم والسير بوقار واتئاد فيها..
وهكذا أفهمُ تلطُّفه في معرض حديثه عن جَيش بني سعود الذين (يفتقرون لدوافعِ القتال لا للشجاعة)، بحسب سيد الثورة أبو جبريل..
ما زلتُ أتذكّرُ غيمةَ الأسى النبيل الوقور التي جلّلت قسمات وجه السيد القائد عبدالملك بدرالدين في حضرة جُثمان الشهيد القائد حسين بدرالدين رضوان الله عليه وخُشوعه الحزين المهيب إثر انقضاء الصلاة على روحه الطاهرة وأزوف مواراة الجثمان الطالع فيض نور من ظلمات تسعة أعوام تغييب..
هكذا أفهمُ فضيلةَ الحزن ومغبة مَوَات الشعور به في معرض الصمود بوجه عالَمِ القتَلة والمجرمين!