الخبر وما وراء الخبر

أفيون الحكومات وشركات السلاح الغربية

66

بقلم | د. أحمد الصعدي

في لحظةٍ من لحظات التمركُز حول الذات واتخاذها معياراً مطلقاً تنطلق منه وتقاس إليه القيمُ الكَونية المعاصرة، كتب الفرنسيان، الفيلسوف جيل دولوز وَالفيلسوف وعالم النفس فيليكس غتاري أن ((إنجلترا وأمريكا وفرنسا بمثابة الأقاليم الثلاثة لحقوق الإنْسَان)) (ما هي الفلسفة. مركز الإنماء القومي. بيروت، 1997 صفحة 116).

كانت هذه الكلماتُ تمُــرُّ أمام أنظارنا من غير أن تثيرَ اهتماماً خاصاً، ولكنها اليومَ تُقرَأُ قراءةً جديدةً، في ضوء المشارَكة القوية لـ ((الأقاليم الثلاثة)) في العدوان على اليمن، من خلال التسليح بأسلحة فتاكة والدعم بالخبرات والمعلومات والمشاركة الميدانية في فرض الحصار البحري وتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي مريح في مجلس الأمن وفي المحافل الأممية والإقليمية.

وتزدادُ كلماتُ الفيلسوفين الفرنسيين مجافاةً للواقع وخلواً من المعنى بقيام سفّاح دماء اليمنيين ومجرم الحرب ولي العهد السعوديّ بجولة طويلة في ((الأقاليم الثلاثة))، لقي خلالها حفاوةً وترحيباً لم تعكر صفوهما أصواتُ المنظمات الحقوقية والناشطين المعارضين لزياراته وَالمطالبين بوقف بيع السلاح لدول العدوان على اليمن وعلى رأسها مملكة ولي العهد.

طاف أميرُ المليارات في البلدان الثلاثة معبَّداً طريقَ الوصول إلى منصب الملك بوسيلتين مغريتين للغاية هما: صفقات تسليح يسيلُ لها لُعابُ صناعة السلاح وصناعة القرار السياسي وَوعود لم يسبقه إليها أحدٌ بتسكين الكيان الصهيوني في ((البيت العربي)) وقيادة تحالُف فعّال لتصفية القضية الفلسطينية.

إنَّ ملياراتِ ولي العهد جعلته يُستقبَلُ حيث يريد وكيفما يريد، حتى وسائل الإعلام التي اشتهرت بحواراتها الصريحة وأسئلتها المحرِجة لضيوفها مهما كانت مناصبُهم وَأدوارُهم حرّكت أذيال اللطافة مع الأمير وفتحت له المجالَ ليسرحَ في خيالاته ويغدِقَ على المشاهدين والقُرّاء بدرر الكلام!

أخيراً حَلَّ أميرُ الحرب وسفّاحُها ضيفاً على عاصمة ((النور)) باريس، وكما دافع رئيسُ الوزراء الفرنسي السابق، مانويل فالس، عن صفقات تسليح دول العدوان التي تقتل اليمنيين بقوله رداً على سؤال صحفي ((هل من المعيب أن ندافعَ عن وظائف عملنا؟))، فإن الحكومة الحالية دافعت اليوم بقوةٍ عن استمرار مد السعوديّة بكل ما تحتاجُهُ من الأسلحة؛ بِحُجَّة الدفاع عن الحضور الفرنسي في المنطقة وإنعاش صناعة السلاح وتوفير فرص عمل، ما يعني أن وليَّ العهد السعوديّ يعلو بملياراته على كُلّ صوتٍ حتى لو ذهب بخياله إلى ادّعاء توأمة الدرعية وباريس وتقاسمهما ((عصر التنوير))، استناداً إلى معاصَرة أعلام التنوير الفرنسي لا سيما فولتير (1694-1778) وَجان جاك روسو (1712-1778) مع محمد بن عبد الوهّاب (1703-1792)، فلن يجدَ إلا الانبهارَ بهذا الاكتشاف العظيم؛ حرصاً على عدم جرح شعور الأمير الثري.

أضاف جيل دولوز وَفيليكس غتاري القول ((إن حقوقَ الإنْسَان هي معاييرُ اصطلاحيةٌ (axiomes): يمكنها أن تتعايشَ مع معاييرَ أُخْــرَى في السوق، وخَاصَّـة تلك المتعلقة بضمان الملكية التي تتجاهَلُ هذه المعاييرَ أَوْ تعلقها أَكْثَـر مما تتعارض معها)) (ص119)، ولا شك أن معاييرَ السوق لا تلقى صعوبةً في تناسي معايير حقوق الإنْسَان وتجاهلها بإصرار وصلَفٍ إذَا ما تعلق الأمر بالشعب اليمني المحاصَر والفقير في الوقت ذاته، والذي أدرك بالتجربة أن كُلّ ما ظل يسمعُه منبهراً عن حقوق الإنْسَان من قبل سياسيي ودبلوماسيي ((الأقاليم الثلاثة))، وكل ما قالوه ويقولونه في هذا الشأن هو أنهم ((قالوا: هم البشر الأرقى وما أكلوا

شيئاً.. كما أكلوا الإنْسَان أَوْ شربوا))

إنَّ الإنفاقَ بإسراف على التسلُّح من قبل السعوديّة ومشيخات الخليج يسكر شركاتِ الصناعات العسكرية والحكومات والنخب السياسية والإعلامية في كثيرٍ من البلدان، وفي مقدمتها أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وَيصم آذانَها عن سماع أية انتقادات بشأنِ حقوق الإنْسَان ويُعمي أبصارَها عن رؤية المجازر التي تُرتكَبُ بواسطة سلاحها في اليمن، بل لعلنا نستطيعُ استعارةَ عبارة معروفة لكارل ماركس فنقول: إن صفقاتِ التسلح التي تبرمها السعوديّة ومشيخات الخليج مع الدول المذكورة وغيرها هي أفيون لتلك الحكومات والشركات وقلب عالَمٍ لا قلب له.