تعز .. حرب الذرائع فتحت الطريق لمليشيا “الكاش والكلاش”
أبوبكر عبدالله / خاص..
وحدَهم مقاولو الحروب من حَوَّلَ نصفَ تعز مدينةَ أشباح ونصفَها الآخر مساحةً تكتظُّ بفقراء ونازحين يجاهدون نهاراً على كيس الخبز وقنينة مياه الشرب وينصتون ليلا لدوي القذائف وغارات العُـدْوَان الغاشم وسط همسات عن ضحايا وعمليات نهب وعمليات إنزال لأسلحة وأموال وتقاطعات “مقاومة” لا يعرفون من أين أتت ولا من أوكلهم إنتاج كُلِّ هذا الخراب.
كأنها القيامةُ عصفت بالحاج عَبْـدالقادر الحميري (60 عاماً) عند ما ترك دكانه مفتوحاً في حي حوض الأشراف بتعز هارباً مع مدنيين آخرين؛ نتيجة رصاص كثيف أطلقه في الهواء عشراتُ المسلحين الملثمين الذين اجتاحوا الأَحْيَـاءَ الشرقية لمدينة تعز وانخرطوا في حرب شوارع عنيفة مع قوات الجيش واللجان الشعبية عندما كانوا في طريقهم للسيطرة على مبنى المحافظة ومرافقها الرسمية.
المواجهاتُ في هذا الحي القريب من مستشفى الثورة العام تركت آثاراً مدمرةً على المشفى الذي توقفت فيه سائرُ الخدمات الصحية، بما في ذلك عملياتُ غسيل الكلى!!، كما تركت آثاراً مرعبةً على واجهات المنازل وأبواب المحال التجارية وأَكْثَر من ذلك آثارها المدمرة في النفوس.
في هذا الحي كانت التداعيات فجائيةً، فأَكْثَر المدنيين هنا لم يتوقعوا تدهور الأوضاع على هذا النحو، فقبل أيام قليلة كان رموزُ السلطة المحلية يتغنون بانجازاتهم التي جعلت تعز، على حد زعمهم “مدينة آمنة وأُنموذجاً للمدنية” وفقدت اليوم البوصلة بعدَ ما دفع نفوذ “الإخْـوَان” ومخططاتهم بالجميع في أتون خراب ومواجهات كشفت تداعياتها الخارجية أنها كانت مخططةً ومدفوعة الثمن.
احتدمت المواجهاتُ في كثير من أَحْيَـاء مدينة تعز بعد أن اجتاحتها مليشيا الإخْـوَانِ بعتادها المتوسط والثقيل الآتي من معسكرات اللواء 35 مدرع الموالي للجنرال الهارب على محسن، ما تسبب في عمليات نزوح كبيرة للسكان، كما فقد كثير منهم القدرة على مغادرة منازلهم أو فتح محلاتهم التجارية، شأنهم شأن كثيرين في سط المدينة وأحيائها الشمالية والغربية.
لا رواية واحدة ذات صدقية لدى مسؤولي المحافظة وسكان المدينة عما حدث، وما يعرفه الناس أن مئات المسلحين من أتباع الشيخ حمود سعيد المخلافي تدعمهم قوات اللواء 35 مدرع الموالية لجماعة الإخْـوَان أخضعوا العديد من أَحْيَـاء المدينة لسيطرتهم تحت قوة السلاح، وتحولت هذه المناطق تالياً إلى ساحة مواجهات شاركت فيها وحدات من قوات اللواء 35 مدرع الذي خسر معسكرَه غربَي المدينة، وانتقل مسلحوه إلى شوارعها وأحيائها في حرب شوارع يقودها حمود سعيد المخلافي، الذي أعلن قبل أيام تشكيل ما سماه” المقاومة الشعبية”.
صورة وأداء هذه “المقاومة” أذهلت الجميع، إذ حُصرت مهماتها السريعة في نشر المسلحين لإقفال الأَحْيَـاء والشوارع بالحجار والإطارات المشتعلة قبل أن تباشر اجراءات للسيطرة على المرافق الحكومية وشن هجمات على المصارف.
حرب المليشيا
بعدَ ما أيام من إعلان حزب التجمع الـيَـمَـني للإصْـلَاح تأييدَ العُـدْوَان السعودي الأَميركي الغاشم دخلت مدينةُ تعز معادَلةَ الحرب بعدَ ما باشرت قواتُ اللواء 35 مدرع الموالية للجنرال الهارب على محسن ومعها المئاتُ من مسلحي مقاول حرب المدن حمود سعيد المخلافي إشْعَـال حرب داخلية مساندة للعُـدْوَان السعودي الأَميركي الغاشم.
حتى يوم السبت الماضي كانت العديد من أَحْيَـاء المدينة مقفلة، من منطقة حوض الأشراف وُصُولاً إلى فندق الأخوة، مروراً بشارع جمال عَبْـدالناصر بوسط مدينة تعز ووادي القاضي وُصُولاً إلى الحصب وسائر الأَحْيَـاء المحيطة، ولا سيما الواقعة في الجهة الشمالية وبعض الأَحْيَـاء في غرب المدينة وجنوبية وشرقها.
المواجهاتُ تدورُ منذ أسابيع بين هؤلاء وقوات الأَمْن الخاص وكذلك قوات اللواء 22 المرابط في منطقة الجند، في حال كر وفر، فيما يواجه السكانُ ضغوطاً هائلةً تزايدت مع تصاعد وتيرة غارات الإسناد للمسلحين التي تشنها طائراتُ العُـدْوَان الغاشم على معسكرات الجيش والأَحْيَـاء في مناطقَ عدة بالمدينة.
سوى المناطق التي تنتشر فيها قواتُ الجيش واللجان الشعبية جنوبي المدينة (أَحْيَـاء المرور وصينة والقاهرة وباب موسى) تحولت العديدُ من الأَحْيَـاء التي تشهد مواجهاتٍ إلى مدُن أشباح، وفي ساعات الصباح فقط تشهد هذه الأَحْيَـاء حركة خفيفة للسكان والسيارات، في حين أن أَكْثَرَ المحال والمرافق مقفلة ولا تجد أثراً للحياة فيها سوى متارس لمسلحين ملثمين من أتباع المخلافي ومدرعات تابعة لما تبقى من قوات اللواء 35 مدرع، وهؤلاء يسمحون للسكان التنقل صباحاً وحتى ساعات الظهر، ومن بعد صلاة المغرب يقفلون أَكْثَر الشوارع بالحجار، كما ينصبون حواجز للتفتيش.
في الأَحْيَـاء الشمالية يسيطر مسلحو المخلافي على جبل جرة المطل على مدينة تعز، وهو يوفر للمسلحين المنتشرين في الأَحْيَـاء المقابلة التأمين، ومن هناك تنطلق قذائف القصف على بعض أَحْيَـاء المدينة بالمدفعية وقذائف الهاون وخُصُوصاً الأَحْيَـاء الجنوبية الغربية، حيث تتمركز وحدات من قوات الجيش واللجان الشعبية.
أُمنياتٌ تحالف السلم
قبلَ أَحْـدَاث العنف العاصفة حالياً في تعز الحالمة كان المسؤولون المحليون ينسجون القوافيَ على سلمية محافظة تعز وريادتها المدَنية، بل إن الحماسة أخذت بالبعض إلى الإعلان بأن تعز سوف تصدَّر تجربتها المدَينة إلى كُلّ المدن التي انزلقت في أعمال عُنف ومواجهات مسلحة.
هذه المعادلة سهَّلت لمطابخ الأزمات التابعة لـ” الإخْـوَان” المتمرسة في إدارة الأزمات لقيادة مشاريعَ ذكية زجَّت من خلالها بالعديد من القوى لتشكيلِ “مَجلس السلم”.
في الواقع كانت شعاراتُ السلام والمدَنية أمنياتٍ تسوّقُها مراكز نفوذ “الإخْـوَان” المسيطرة على مفاصل السلطة المحلية لتخدير القوى السياسية التي لم تسعفها تجربتها السياسية المريضة في التعرف على ما يخفيه الإخْـوَان وفي الصدارة هيمنته على اللواء 35 مدرع بكامل عتاده بعد ما أبقته مراكز النفوذ الإخْـوَانية بَعيداً عن خطط الهيكلة الخَاصَّـة بالجيش ومحتفظاً بالولاء للجنرال الهارب وحزب التجمع الـيَـمَـني للإصْـلَاح.
فجأة تحوَّل “تحالف السلم” الذي قاده “الإخْـوَان” لتضليل القوى السياسية وجرّها للتورط في حربهم الجديدة إلى تحالف من نوع آخر خرج فيه إلى العلَن الشيخُ حمود سعيد المخلافي رئيساً، مزيحاً شعارات السلام جانباً ومفسحاً في المجال لولادة الإخْـوَان تكتلاً جديداً أسموه “المقاومة الشعبية” وانخرطت فيه سائرُ القوى العسكرية الموالية لجماعة الإخْـوَان والجنرال الهارب على محسن.
التحالُفُ الإخْـوَاني هذا هو ذاتُه الذي بادر إلى حشد المسلحين من الأرياف وقواعد حزب الإصْـلَاح وتنظيم القاعدة، وصار تالياً يتلقى دعماً سعودياً مباشراً بالسلاح والمال عبر عمليات إنزال مظلي، كما صار يستدعي طائرات العُـدْوَان الغاشم لإسناد مسلحيه في عشرات الغارات التي استهدفت معسكرات الجيش والقرى والأَحْيَـاء.
الراجح أن كثيراً من رموز القوى السياسية ضعيفي الخبرة لم يخططوا لهذا الوضع المزري، لكن الأمر بالنسبة لمراكز نفوذ “الإخْـوَان” في تعز كان مختلفاً، فوصولُ كتيبة عسكرية لتعزيز مواقع قوات الأَمْن الخاص من صنعاء كان بالنسبة لهؤلاء ذريعةً كافيةً للإطاحة بكل شعارات السلم الأهلي التي توافَقَ عليها الجميعُ في وقت سابق.
هذه الذريعة أَيْضاً كانت كافية لإشهار حزب الإصْـلَاح مكامنَ جيشه السري في اللواء 35 مدرع الذي أسقطت التداعيات الأخيرةُ قناعَه، فظهر باعتباره مليشيا تابعة فقط لتنظيم الإخْـوَان، كما حال كثير من وحدات الجيش التي كانت تشكّل سابقاً منظومة الذراع العسكرية لتنظيم الإخْـوَان المنفق عليها من خزينة الدولة.
سريعاً اتجه حزبُ التجمع الـيَـمَـني للإصْـلَاح وبشكل منفرد إلى تشكيل مليشيا مسلحة تولّت وحدَها إشْعَـال حرب شوارع في المدينة، تسببت في مقتل وإصابة العشرات ودمّرت عشرات المساكن والمرافق، كما شردت مئات الأسر وإصابة الحياة العامة في هذه المدينة بالشلل الكامل.
مقاولو الحروب
التداعياتُ المتسارعة في تعز بكل ما حملته من عنف وخراب وذعر، لم تأتِ من فراغ قطعاً، ففي قاعات الاجتماعات كان قادة حزب الإصْـلَاح يرضخون للقرارات الجماعية ويرفعون شعارات السلم الأهلي، وفي الغرف المغلقة كانون ينهمكون في تحضيرات سرية لدور قادم لم يتوقعه أحد.
العملية -كما يقول رشاد سعيد البريهي- لم تكن سوى “تساقط أقنعة” لمراكز نفوذ تنظيم الإخْـوَان التي أبقت على هذه المحافظة في قائمة خيارات العنف المؤجَّلة وعندما تحركت فجَّرت حرباً شاملة دفعة واحدة.
خاضت المليشيا الجديدةُ التي انخرط فيها مسلحو حمود المخلافي مع قوات اللواء 35 مدرع حروباً شعواء مع قوات الجيش المسنودة باللجان الشعبية أسفرت عن سُقوط عشرات الضحايا، وامتدت المواجهاتُ من الأَحْيَـاء الشمالية باتجاه عصيفرة وشارع الخمسين وُصُولاً إلى شارع جمال وامتداده من جهة الحصب وبير باشا والمطار القديم، ومن جهة فندق الأخوة وحوض الأشراف وسوق الصميل وسائر الأَحْيَـاء المحيطة بها.
احتدام الحربُ بهذه الصورة وما رافقها من حملات إعلامية شعواءَ كان مثيراً للأسئلة لكنها سَرعانَ ما تكشفت مع بدء تدفُّق قوافل المسلحين من محافظة إب ومن ضواحي مدينة تعز للانخراط في ما أسموه” المقاومة الشعبية ” التي سَرعانَ ما كشفت عن قناعها؛ بكونها جيشَ مرتزقة، وكشفت تفاصيله وملامحه المغيبة جُسورُ الإمداد التي تعهَّدها العُـدْوَان السعودي الغاشم لهؤلاء بالسلاح والمال.
أحمد الخليدي -مهندس اتصالات- فسَّر ما حدث بإيجاز: “هؤلاء لم يعدوا أنفسهم لمشروع وطني، بل اختاروا مُنذ وقت مبكر؛ لأن يكونوا أدوات عمالة وخيانة للخارج.. ولذلك تجدهم اليوم يقاتلون قوات الجيش تحت مسمى “مقاومة شعبية” في حين أنهم يدمرون مدينتهم ويستدعون العدو الخارجي لقصفها بالصواريخ والقنابل”.
جسورُ الإمداد
آمالُ الكثير من سكان مدينة تعز الذين انطلت عليهم أكاذيب “مجلس السلم” ومن بعده “المقاومة” انهارت دفعةً واحدةً مع نزول أولِ شحنات السلاح والمال عبر طائرات العُـدْوَان السعودي الغاشم، زاد منها إسرافُ العُـدْوَان بضرباته الجوية وارتكابه مجازرَ وحشية بحَقِّ المدنيين بالتزامن مع غاراته التي استهدفت دعمَ المرتزقة الذين تساقطت أقنعتهم، فصاروا ينفذون أدواراً تخريبية لصالح العُـدْوَان السعودي الأَميركي الغاشم على الـيَـمَـن جهاراً نهاراً.
لم يكن الدعم الذي قدمه العُـدْوَان الغاشم لهؤلاء محدوداً كما يتخيل البعض، فكثير من سكان مدينة تعز تفاجأوا عندما شنت طائراته غارات كثيفة على معسكر اللواء 35 مدرع بعد ساعات من سيطرة قوات جيشنا الوطني واللجان الشعبية عليه.
الانفجاراتُ التي نتجت عن هذه الغارات كشفت عن مستودعات أسلحة وذخائر بكميات هائلة كانت قوى العمالة قد أدخلتها إلى هذا المعسكر سراً في وقت سابق، لتكون عُدتها في هذه الحرب لكنها خسرتها دفعة واحدة مع كميات هائلة من الوقود استمرت انفجاراتها عدة ساعات.
أما الشحنات التي نزلت من الجو في عمليات إنزال مظلي نفذتها طائرات العُـدْوَان الغاشم فقد تضمنت بنادق قناصة مزودة بمناظير ليلية وأسلحة رشاشة متوسطة وصواريخ محمولة وكميات من قذائف الهاون وصواريخ “لو” المضادة للدروع والموجَّهة بالليز، فضلاً عن منظومات اتصالات مشفرة عبر الأقمار الصناعة وأجهزة كشف الأهداف وعتاد عسكري متنوع.
فاتورة الخسائر
لا تقديرات في شأن الخسائر الناجمة عن الحرب الجديد لـ”الإخْـوَان” في تعز، كما لا توجدُ إحصائياتٌ رسمية في شأن الخسائر في الأرواح والعتاد، وما تتناقله وسائل الإعلام المحلية والدولية ليس سوى شائعات، لكن المؤكد أن هذه الحرب التي حظيت بإسناد عملاني وإعلامي كبير للغاية من الداخل والخارج خلفت خسائرَ كبيرة في الأرواح والعتاد والممتلكات.
أبرزُ الخسائر تمثلت في أرواح الأبرياء التي زهقت نتيجة تصعيد العُـدْوَان الغاشم غاراته الجوية بصورة عشوائية وأدَّت في إحدى نماذجها إلى تدمير قرية للمهمشين في منطقة الجند، فضلاً عن جرائم أخرى في أَحْيَـاء بضواحي المدينة.
يضافُ إلى ذلك حجمُ الخراب الذي خلّفته الغارات في معسكرات الجيش والمرافق الحيوية وفي العديد من المباني والمرافق التي تعرضت ولا تزالُ لغارات العُـدْوَان الغاشم بصورة عشوائية.
أما الخسائرُ الحكومية نتيجةَ التوقف الكامل لمرافق العمل وكذلك خسائر المواطنين وأصحاب العمل فلا تكاد تُحصى.