الاثنين في السبعين .. مؤشر إنسانية وشارة كرامة
بقلم/ حمود عبدالله الأهنومي
بينما كان أحد القادة اليمنيين في الإسلام – وهو مالك الأشتر النخعي المذحجي- يتفقّد مقاتلين من وحدات في جيشه، في يوم من أيام صفين، إذا به يرى القائد اليمانيَّ تلو الآخر، يُحْمَلون على الأعناق بعد أن يستشهد أحدُهم أو يجرح، فلا يملك إلا أن يقول: هذا والله هو الصبر الجميل، إنه ليستحي الرجل أن ينصَرِف من هذا الموقف من غير أن يَقْتُل أو يُقْتَل؛ والآن ونحن على أعتاب العام الرابع من الصمود والثبات، ومن العدوان الغشوم الظلوم، ألا يستحي أن ينصرف أحدنا لا مرابطا في الجبهات، ولا حاضرا في ساحات الشرف؟!
بعد كل هذه التضحيات من جانب شعبنا، وبعد كل تلك الانكشافات الفاضحة لقوى العدوان ومرتزقتهم، وبعد كل تلك الجرائم البشعة والفظيعة، ألا يحق لأي يمني حر أن يتصوَّر بأنه لو أسرَعَت بنا وتيرةُ الزمان وعبرت بنا نحو تخوم المستقبل، لنجد أنفسنا في حضرة أحفادنا، إذ تُعرض عليهم أخبارنا، وتقص لهم آثارنا، وتحكى مواقفنا، وأينا كان له دور محمود، وأثر محشود في مواجهة العدوان، فينبري أبناء الشهداء والجرحى والأسرى وذووهم ليحمدوا الله عز وجل أن وفق وسدّد ذويهم بأن كانوا في صف وطنهم، وحريتهم، وكرامتهم، وفي مواجهة ألعن عدوان وأرذل بشر وأقذر مرتزقة.
ثم لنتصوّر كم سيسجل التاريخ لأبناء وأحفاد بعضنا الذين قنِعوا بحياة الذل، وغرهم موقف التواري ..لنتصور حفيدا يتذكَّر أحدَ أجداده وأقربائه وقد كان في صفوف المرتزقة ومن أحذية العدوان ماذا يكون موقفه؟
إنني لأوقن بأنه سيتوارى من القوم من سوء ما جنَتْ عليه مواقف قريبه هذا، أيمسكُ خزيَه وعاره على هون، أم يدس فضيحة جده في تراب الفرار، ولو أن الفضيحة هنا كفيلة بتلويث الأزمان.
إذ يَستهدِف العدوانُ الوحشيُّ كلَّ شيء يمُتُّ لليمن وأهله، وكلَّ شيء يتصل بدينهم وهويتهم وكرامتهم وحياتهم وحريتهم وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم فإنه من العار الذي لا يتسع له الزمان ولا المكان أن يقف أحدُنا مكتوف اليد، لا يسجِّل أثرا محمودا، ولا تطأ رجلاه موطئا يغيظ الكفار والمعتدين.
هناك ألف سبب قد تجعل الإنسان يموتُ قريرَ عين، فكيف بالحال حين تجتمع كلها، لتجبرَك بأن تكون آدميا حرا كريما يشعر بالمسؤولية الدينية والوطنية والتاريخية، فتختار أن تكون حرا، فترصد لك ملائكة الله وكتبة أعمالك مواقفَ جهادية هامة في مواجهة المعتدين قتالا وإنفاقا وتثبيتا ونضالا.
وإذا كان المعتدون من اليهود والنصارى وأعداء الدين لهم الدور الرئيس في هذا العدوان على المسلمين الأبرياء، وقد قتلوا عشرات الآلاف من أهلنا رجالا ونساء وأطفالا، فمتى سنكون مسلمين بحق ونلبِّي داعي الجهاد ولو بكلمة أو موقف؟
وإذا كان هذا العدوان متفلِّتا من كل القيم والأخلاق، ومتفرِّدا في انتهاك حريتنا وكرامتنا وآدميتنا وإنسانيتنا، قتلا وحصارا وتدميرا، للرموز الدينية والمقدسات والمقابر والمدارس والمساجد الأثرية وغير الأثرية، فمتى سننتصر لكرامتنا، ونتحرك من أجل حريتنا؟
وإذا كان هذا العدوان – بحسب محللين وخبراء – استباحة لقيم ومقدسات وحقوق العالمين جميعا، وأنه سيلقي بتبعاته الخطيرة والخبيثة على بني الإنسان جمعاء، أفلا يليق بالإنسان اليمني الحر والكريم أن يكون في مقدمة الصفوف لإنقاذ البشرية من هذه النتائج الخطيرة والشرور المستطيرة؟!
إن القتال في سبيل الله هو الواجب الطبيعي، أما الخروج إلى السبعين فهو موقف فطري إنساني، يعتبر من أقل أنواع الجهاد وأضعفها، إذ هو انتصار للكرامة الإنسانية والإسلامية واليمنية، وهو تصدٍّ صلب للانحراف الحضاري الوقح والخبيث الذي أنتجته علاقات الحضارة الغربية المادية ومتطلّباتها الفجّة، غليظة الحس وبليدة المشاعر.
الخروج إلى السعبين هو المؤشر الأدنى بإنسانية مَنْ يخرُج، وهو دليل على إيمانه، ونقاوة فطرته، وأصالة كرامته، وعزته، ونخوته، وانتصاره للدماء، وللأشلاء، وللجرحى، وللأسرى، وللتضحيات الجسيمة، والبطولات الكريمة، وبرهانٌ على أن فيه بقية من دماء الحرية، وفضائل الإنسانية، ومقاييس الشرائع الإلهية.
إنه انتصار لكل المظلومين، وانتصار للمغتربين الذين طُرِدوا من أعمالهم ظلما وعدوانا، بل وانتصار لإخوتنا في فلسطين الذين يَسامون سوء الصفقات، ويذاقون ألوان المؤامرات، من نفس العدو الذي يستهدف بلدنا، وذات الحلف الذي يقتل نساءنا وأطفالنا، إنه انتصار للتاريخ، تاريخ اليمن، وتاريخ العالم العربي والإسلامي والتاريخ الشرقي والإنساني والحضاري.
فرحم الله يمنيا حرا كريما شهما ذا مروءة أراهم يوم الاثنين قوة من نفسه، وقوة في صموده، وقوة في ثباته، وقوة في عزيمته، وقوة في مرابطته، وقوة في صبره وتحمُّله للحصار، وقوة في وعيه، وقوة في انتصافه للمظلومين، ورحم الله يمنيا جدّد بيعتَه لله، بأن كان من المجاهدين في سبيله، وقد رأى أحلاف الشر تتلون بالإجرام ألوانا، وتتبختر به كبرا وتيها وعدوانا.
إن بين فظاعة العدوان وفرادة الصمود علاقة طردية لا يقوى عليها إلا ذوو العزائم من الشعوب، وأهل الكرامات من الرجال والنساء، وتلك الأمم التي نفخ إرثُها الحضاري وموروثُها القيَمي وأصالتُها الدينية في عزائمها، وأنار في وِجهاتها، وسما في اتجاهاتها، فذهبتتسجِّل في كل صفحة من المجد سطورا من العزة والكرامة، وترقُم في كل دفتر رقوم الفخر، وأسانيد الوطنية، ومساند الهوية اليمنية الإيمانية.
ألا إن النصر قريب من أصحاب الهمم والمواقف، وهو صبر ساعة، وهو حليف الأفذاذ من الرجال، والعقائل العربيات من النساء، والذين لا يترددون عن المشاركة في أي موقف يغيظ الكفار، وينال منهم نيلا، فعند ذاك كسبوا الرئاستين، ونالوا المجدين، وكسبوا الرهانَين.
ألا من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن كان يمنيا حرا عزيزا كريما، فلا يتنفس صباح الاثنين إلا بأنفاسه الطيبة في السبعين، أو في طريقه إليها، والسلام.