عن التفكير بصوت مسموع!
بقلم / عبدالعزيز البغدادي
أن تفكِّرَ بصوتٍ مسموع يعني أن تكونَ حريصاً بشكلٍ كلي على الإرسال والاستقبال بل وأن يكونَ حرصُك على الاستقبال (الاستماع) والإنصات أكثرَ من حرصك على الإرسال (الإسماع)، ما أعنيه هنا أنّ صوتك وحروفَ كلماتك المعبّرة عن مضمون ومستوى تفكيرك وطريقته المضمَّن في الرسالة التي ترسلها لمن تريد أنت إرسالها ويريد هو استقبالها سواءٌ أكان مؤيداً لك أَوْ معارضاً، محباً أَوْ مبغضاً واعياً أَوْ جاهلاً، منفتحاً أَوْ منغلقاً، أَوْ… أَوْ… أَوْ… أَوْ… بمعنى آخر ينبغي أن تكون العلاقة بين الأنا والآخر المرسل والمستقبل علاقةَ حوار وحوار جاد لا حوار شكلي شبيه بالحوار الذي قاده من لا يقدر على التفريق بين الحِوار بكسر الحاء والحَوار بفتحها بل ولا بين الأُخرى بضم الهمزة والأَخرى بفتحها!، وأياً كان هذا المستقبل فإن ما يهمك أنت كمرسل أن تكونَ رسالتك في المستوى الذي تريده وتؤمن به وتسعى إليه.
هذه العلاقة الحوارية بين البشر تشكّل أداةً للتغيير والتغير نحو الأفضل وتحتاج لإعطائها حقها من الاهتمام، سواء في الحياة العامة أَوْ الخَاصَّـة، وهي في الحياة العامة ملزمة لكل أياً كان موقعه في السلطة لكن أثرها يختلف باختلاف المواقع وأثره في حياة الناس.
من هُنا كان لا بد وأنت تنتقي كلمات رسالتك أن يتبين حرصك على البحث عن الحقيقة وإحساسك العالي بالمسؤولية تجاه قضية ما، ومثل هذا الحرص في انتقاء مكونات ما ترسله لا بد كذلك من الحرص عل فهم ما تستقبله والمقصود بالاستقبال هنا استقبال ردود الأفعال على رسالتك بروح المتقبل الفاحص للنقد البناء وغير البناء طالما كان خاضعاً للتقييم والفحص للاستفادة منه، ومن المؤكد أن ما قد يكون بناءً لدى (س) من الناس قد لا يكون كذلك لدى (ص) بل قد ينظر إليه على أنه هداماً وربما يكون جريمة من نوع ماَّ من جرائم التحريض!.
والتفكير بصوت مسموع الموجب للاستماع أكثر من الإسماع يتطلب التحلي بقدر من الصبر والحكمة والأناة لدى المفكر الجاد اللبيب والقاضي العادل أَوْ المسؤول الحصيف، وكلاهما يستلزم الصدق في البحث عن الحقيقة وتلمس طريق الحق والعدل؛ ولذلك يلزم على القاضي على سبيل المثال الاستماع إلى الخصوم جيداً والمساواة بينهم في حقوق الادعاء والدفاع حسب مقتضى الحال لكل قضية وإشعارهم بالإحساس بالمسؤولية عن تحقيق العدالة قبل إصدار حكمه وإذا تعجل في إبداء رأيه أثناء النزاع أي قبل أن يقفل بابه كان من حق أي من الخصوم طلب رده عن الاستمرار في نظرها وفق قواعد الرد المحددة قانوناً.
فإذا كان هذا هو الشأن في قضية نزاع خَاصَّـة، فإن المطلوب في القضية الفكرية العامة التي يتلمس المفكر الاهتداء إلى كشف أغوارها وبناء الفكرة الأكثر تماسكاً وقوة أَوْ قضية الرأي التي يسعى السياسي إلى معرفة تفاصيلها ووقائعها ليتخذ القرار المناسب إزاءها فإنَّ المطلوب من المفكر والسياسي وهو يفكر بصوتٍ مسموع أن يرد نفسه إلى الحق وفقاً لما يوجبه الإسماع والاستماع من إعمال للعقل والبُعد عن الهوى والغريزة (الذين يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَه أولئك الذين هداهم اللهُ وأولئك هم أولو الألباب ) الأحزاب آية (18)، وبذلك يكون السعي إلى الكمال الإنساني عملية مستمرة استمرار الحياة من بداية دخول الإنسان سنَّ التكليف إلى الموت مهما بلغ الإنسانُ من صفات الكمال؛ لأن الكمال المطلق إنما هو لله سبحانه.
قيل لأحد الحكماء: من يعلم كُلّ شيء.. يقصد من علم الشهادة، فقال: كُلّ الناس أي أن كُلّ إنسان لديه جزء من معرفة المشهود، أي المشاهد والمحسوس في هذه الدنيا، باعتبار أن علمَ ما في الوجود وما وراءه يشمل (علم الغيب والشهادة) فإذا كان الناس يتوزّعون ما هو مشهود من العلم مع الاختلاف في المستويات الحضارية بين الأفراد والشعوب وفق مستوى تفكيرهم وذكائهم الفطري والمكتسب، فإن الله وحده هو (عالم الغيب والشهادة) أي العلم الكلي اللا نهائي.
إذاً فالسلطة الأمينة على أداء رسالتها والحريصة على أن تكونَ كذلك لا بد أن تستمِعَ بحرص لكل صوت معارض سواءٌ أكان جاداً في معارضته أَوْ غير جاد؛ لأن وراء كُلّ كلمة هدف والسلطة دائماً مدعوةٌ لأن تستقبلَ النقد لتعملَ على تلافي الأخطاء، فهي أولى بالتقاط الحكمة وتلمس الأخطاء أنّى وجدتْها وليست بحاجة لأن تبحث عمن يشيد بمنجزاتها ويمتدحها على ما أنجزت فهي مهما أنجزت إنما تقومُ بواجبها والمديح والنفاق يخلق لديها نشوة وغرور وخيلاء يدفعها أحياناً إلى قمع كُلّ من يعارض اعتماداً على ما تسمعه من المنافق فالنفاق طريق للضلال؛ ولأن السلطة في موقع المسؤولية فإنها بحاجة دائماً لمن يذكرها بأن المسؤوليةَ أمانة وليست غنيمةً.. أمانة أمام الناس وأمانة أمام الله لمن يؤمن بالله حق الإيمان، والسلطة ليست تسلطاً ولا عنجهية أَوْ فشخرة أَوْ جبروتاً؛ لأن الدنيا لا تدوم على حال، فكم من الأمثلة من التأريخ لمَن حكموا وتحكموا لأكثر من ثلاثة وأربعة عقود وأكثر ثم انتهوا وطمسوا من التأريخ في لمح البصر وكأنهم لم يحكموا ساعات ولم يبقَ من أثرٍ لهم سوى فسادهم وطغيانهم ولعنات تلاحقهم والتأريخ لا يرحم.
فيما يخُصُّ مصالح البشر أما ما بينهم وبين خالقهم فإنه إليه، وكم من الحكام من لم تتجاوز فترة حكمهم سنتان أَوْ ثلاث ومع ذلك كانت عظمة أعمالهم الطيبة وآثارهم العظيمة في بناء الوطن كفيلة بتخليدهم في قلب التأريخ وفي قلوب الناس وبعضهم ناضل وجاهد واستشهد ولم يحكم فتخلّد عند الله بالشهادة وتخلّد عند الناس بالصدق في التوجه الذي أحسُّوه في مسلكه وفعله وجهاده.
مساكين مَن يسعون بإصرار لإسماع أصواتهم ولا يحرصون على الاستماع لأنّات الناس.. يسكرهم الاستماع لما يعجبهم من أصوات المنافقين؛ وبذلك ينخفض تفكيرهم ويضيع وتضيع مع ذلك الحقيقة وهي أبرز ضحايا الوعي الضائع!.