ما الذي ينسينا عن يوم القيامة؟
|| من هدي القرآن ||
هي أشياء تتوالى: قلة معرفتنا بالله يؤدي إلى نقص في خوفنا منه، إلى ضُعف في خشيتنا منه، فيؤدي هذا إلى غفلة ونسيان، تؤدي الغفلة والنسيان إلى غياب حالة الخوف من يوم القيامة، ومتى ما ذكِّر الإنسان أحيانا تذكر، أو رأى ميتا تذكر، أو سمع مرشدًا، أو استعرض سورة من سور القرآن الكريم تذكر، لكن ويحاول أن يعيد إلى ذهنيته الحالة السابقة، حالة اللاشعور بشيء من هذه الأشياء، غفلة.
فمن يعرف الله سبحانه وتعالى معرفة كافية لا بد أن يخشاه، لا بد أن تعظم خشيته منه، وتعظم أيضًا رغبته فيـه، فيكون دائمًا متذكرًا، متذكرًا يحرص على أن يعمل في هـذه الدنيا ما يقربه إلى الله، ويحصل يوم القيامة – من خلال عمله هذا وبرحمة الله – على الفوز بالجنة، وعلى أن يحاسب في يوم القيامة حسابًا يسيرًا، فيكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ لأنه متذكر للقيامة، تذكر القيامة له أثره العظيم جدًا، جدًا في المجالين: في مجال أن تنظر من الأعمال إلى ما فيه نجاتك يوم القيامة فتنطلق فيه، وتبتعد عن الأعمال أو عن التقصير الذي فيه هلاكك يوم القيامة فتبتعد عنه.
يوم القيامة خوَّف الله به عباده في القرآن الكريم تخويفًا شديدًا؛ لأنه يوم شديد الأهوال في حد ذاته، وفيه حساب عسير جدًا للظالمين، حساب عسير جدًا للمعرضين عن ذكر الله، حساب عسير جدًا لمن لم يكونوا يهتدون بهدي الله.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ} (الحاقة25) في [سورة الحاقة] يتحدث عن من أوتي كتابه بيمينه، وعمن أوتي كتابه بشماله، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (الحاقة:19-22) بالنسبة لمن يؤتى كتابه وراء ظهره ماذا يقول؟ {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (الحاقة:25-27) ليت أن تلك الموتة الأولى هي القاضية فلا أبعث ولا أحشر {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة:29) السلطان الذي كنت فيه، أو السلطان الذي كنت ألتجئ إليه في الدنيا هلك عني. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (الحاقة:27-28). مالي لم يغن عني، لم يدفع عني شيئًا، الذي كنت أجمعه في الدنيا، وأحرص على جمعه من حلال ومن حرام، وكنت أبخل أن أصرف منه وأنفق منه في سبيل الله لم يغن عني شيئًا، لم يدفع عني شيئًا.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة:30) يقال للملائكة: خذوه فغلوه، وكانت هذه الآية من الآيات التي يصرخ منها الإمام علي (عليه السلام) وهو يتأوه، يتصور خطورة الموقف عندما يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ}. قال: (فيا له من مأخوذ) يا له من مأخوذ!! حالة شديدة جدًا، وحالة رهيبة جدًا، عندما يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (الحاقة:30-37). كان في الدنيا لا يؤمن بالله العظيم.
نحن نؤمن بالله، أليس كذلك؟ لكن كيف هذا الإيمان؟ إيمان لا يساوي شيئًا، الإيمان بالله الذي يجعلك تخاف غير الله أكثر مما تخاف من الله ليس إيمانًا بالله، الإنسان المؤمن بالله هو من يكون خوفه من الله أعظم من خوفه من غيره، هو من يكون رجاؤه في الله أعظم من رجائه في غيره، المؤمن بالله هو من يعيش دائمًا حالة التذكر لله، الحرص على رضا الله، الخوف من بطش الله، الرغبة فيما عند الله. الإيمان بالله هو إيمان عملي يبعث – متى ما كان إيمانا صادقًا – هو يبعثك على العمل، يبعث في نفسك الخوف، يبعث في نفسك الرجاء، يبعث في نفسك الرغبة.
أما إيمان من هذا النوع مجرد تصديق، نحن نقول: كان الكافرون مؤمنين بالله على هذا النحو، ألم يكونوا مؤمنين بالله؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: من الآية87) كان الجاهليون يؤمنون بالله بمعنى أنهم عارفون بأن هناك إله اسمه: [الله]، هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي يدبر شئون
إذا ما أصبح إيماننا في واقعه كإيمان الكافرين، أي: إيمان بمجرد وجود الله، وليس وراء هذا الإيمان أي شيء في نفوسنا، في واقع حياتنا، فعلًا يكون الناس ممن لا يؤمنون بالله العظيم، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (الحاقة:34) كان في الدنيا بخيلًا، ولا حتى يحث الآخرين على إطعام المسكين؛ لأنه لضعف إيمانه بالله، أو لانعدام إيمانه بالله لا يتذكر مسألة ثواب فيرجو من عمله هذا ما يقربه إلى الله، ويحصل على الأجر عند الله. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} (الحاقة:35) أي مقرَّب في القيامة يمكن أن ينفعه، {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (الحاقة:36-37) ويقال: أن الغسلين هذا هو: عصارة أهل النار من القيح والصديد، نعوذ بالله.
يوم القيامة، يجب أن نتأمل كثيرًا في كتاب الله، فنرجع إلى القرآن كم ورد في شرح تفاصيل ذلك الموقف الرهيب، كيف تناول القرآن الكريم الحديث عن جهنم، حتى صورها وقدمها بصورة كاملة، تشخيص كامل لجهنم حتى كأنك تراها، تحدث عن وقودها، تحدث عن لهبها، تحدث عن شررها، تحدث عن أهلها وهم يصطرخون فيها، تحدث عن أبوابها، تحدث عن مغالقها، تحدث عن دخانها عن طعامها، عن شرابها، تصوير كامل.
لو تأت أنت، أي واحد منا يحاول أن يجمع ما ذكره القرآن الكريم من الآيات في جهنم، ثم ضعها في ورقة تكون أمامك ترى كيف تتصور جهنم، وتراها صورة متكاملة، تبرز لك صورة ذهنية من خلال هذا التشخيص القرآني في آيات متعددة.
إذا ما عرفت أن جهنم هي هذه المهولة الشديدة، وأيقنت بأن هذه جهنم هي التي من دخلها لا يخرج منها أبدًا {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} (الانفطار:11-16) خلود.
كان أحد العلماء – وقد مات قبل فترة رحمة الله عليه – قالوا عنه: كان ينظر إلى مسألة الخلود في جهنم هذه ويقول هي وحدها الشيء الذي يخيف، الخلود في جهنم هو الشيء الذي يخيف جدًا. لو أن البقاء في جهنم حتى ألف سنة، خمسة آلاف سنة، وهناك أمل في الخروج منها لكانت المسألة ما تزال هينة، لكن الخلود – نعوذ بالله من الخلود في قعر جهنم – وهو الشيء الذي تؤكده الآيات الكريمة: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (النساء: من الآية57) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (المائدة119) {خَالِدًا فِيهَا} (النساء: من الآية14) الخلود معناه: أن تمر آلاف السنين {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (النبأ:23) أحقابًا متتابعة، آلاف السنين، مليون سنة، مليونين سنة، مليار سنة، الخلود في جهنم – نعوذ بالله – هي الحالة المزعجة.
ولهذا تجد الآخرين من عبيد الدنيا كيف يحاولون أن يتهربوا عن الخلود في جهنم فينطلقون إلى الشفاعة لأهل الكبائر، أو البقاء في جهنم فقط بمقدار ما عمل، أو أشياء من هذه يدل على فهم مغلوط للقرآن الكريم ولمنهجية القرآن الكريم في حديثه عن العقوبات بما فيها النار، قالوا: أنت لن تقعد في الآخرة، في جهنم إلا بمقدار ما عملت!
ليست المسألة على هذا النحو، أنت عملك هو الذي أوصلك إلى جهنم حقيقة، لكن ماذا؟ هل تظن بأن الأعمال تُسطَّر ثم ينظر إلى كم يساوي، كم العقوبة اللازمة على هذا العمل الفلاني، ثم يضاف هذا إلى هذا ثم ينظر كم ستبقى؟!
إن المسألة من أساسها هو أنك عندما تعرض عن هدي الله – كما قلنا في جلسة سابقة – عندما تعرض عن هدي الله تتحول إلى إنسان خبيث، هل تعلمون أن كل معصية ليس فقط ينظر إليها من خلال أنها مجرد اقتراف لعمل في خارج إطار شخصيتك، كل معصية تترك أثرًا على نفسك، كل معصية ترسخ نسبة من الخبث في نفسك، وهكذا واحدة بعد واحدة حتى تحيط بك خطيئاتك، فتصبح خبيثًا، تصبح خبيثًا فعلًا.
الله في يوم القيامة تحدث بأنه سيكون تمييز الناس على أساس خبيث وطيب في الأخير، أهل المحشر يتميزون إلى فريقين فقط: خبيث، وطيب، الخبيث كله يجمعه فيركمه فيجعله في جهنم جميعًا، يجعل الخبيث مقره جهنم.
ولأنه فعلًا المسألة هي مرتبطة بهذا هو بخبثك أنت، أصبحت إنسانًا خبيثًا، ليست المسألة فقط أعمال اقترفتها ينظر إليها من خلال أنها أشياء في خارج إطار شخصيتك، لا؛ بل لأنها قد تركت أثرها الكبير في نفسك حتى أصبحت خبيثًا إلى درجة أن جهنم لو تبقى فيها مليار سنة ثم تخرج لعدت إلى ما نهيت عنه سابقًا، ألم يقل الله عن أهل النار {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: من الآية28)؟ لماذا؟؛ لأن نفوسهم قد خبثت، نفوسهم أصبحت خبيثة، فإذا ما خرجوا ما هم قد نسيوا الأعمال السابقة، وقد جلسوا حتى مليار سنة في جهنم؟ لكن النفوس كانت قد بلغ بها الخبث درجة أن جهنم لا يمكن لجهنم نفسها أن تطهرها فتحولها إلى نفوس طيبة فعلًا.
ولهذا الله يحذرنا عن قسوة القلوب، قسوة القلب {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (الحديد: من الآية16) نحضر كل يوم الخميس، نحضر كل ليلة، نحضر كل جمعة، وكل مناسبة، وكل كلمة نعود منها بعدما نسمعها مثلما ذهبنا إليها، يصبح هذا مجرد روتين تسير وتجي مثل طلاب المدرسة، يسرح ويجي، يسرح ويجي، تجي تنظر أيش معه قد هو في صف سادس فتراه لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب!
حالة الروتين هذا المتجدد، حالة أن تسمح لنفسك تسير وتجي، وتجي وتضوي مثلما جئت، وهكذا يجي غد مثل اليوم وبعد غد مثل غد، هذه نفسها حالة تساعد على ماذا؟ أن تصبح الكلمات لا أثر لها في نفسك، فيقسو قلبك؛ لأنك تترك للأشياء الأخرى المجال لأن تترسخ في نفسك، لأن تعمل على أن يقسو قلبك.
والمواعظ أنت التي تريد أن تسمعها اليوم ليست غير التي سمعتها أمس، والذي سمعته ثالث يوم هو الذي سمعته أول يوم، وهكذا، تصبح المسألة هكذا عندك، حتى يقسو قلبك فلا يعد شيء ينفعك، لهذا قال الله عن المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ – زادتهم – إِيمَانًا} (لأنفال: من الآية2). وأنت ترى نفسك بأنك لا تزيد إيمانًا من كل كلمة تسمعها حتى ولو من طفل، لا تزداد إيمانًا من كل كلمة تسمعها فاعرف بأنك متعرض للخطورة التي تعرض لها بنوا إسرائيل، أنه سيطول عليك الأمد، وهكذا كلمة بعد كلمة وأنت لا تزداد إيمانا فيقسو قلبك، وتخبث نفسك وحينئذ لا ينفع فيك شيء.
يجب – أيها الإخوة – أن نعمل على أن نكون من هؤلاء المؤمنين، الذين نحاول ولنقهر نفوسنا أن نفرض على أنفسنا أن نزداد إيمانًا من كل آية نسمعها من آيات الله تتلى علينا، من كل تذكير نسمعه بالله لنا، أن نزداد إيمانًا، افرض على نفسك أن تزداد إيمانًا، افرض على نفسك أعمالًا تنطلق فيها، روِّض نفسك، وعوِّد نفسك على أن تعمل، وأن ترسخ في نفسك الإيمان، وتزداد إيمانًا خوفًا من أن تصبح الأشياء لا تنفع فيك، ثم في الأخير يقسو قلبك {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} (البقرة: من الآية74) من بعد تلك الآيات.