الخبر وما وراء الخبر

الإمام أبو الفتح الديلمي: سيرة عطرة .. وتأريخ عريق.

1٬308

ذمار نيوز | إستطلاع/فؤاد الجنيد 4 جمادى الثاني 1439هـ الموافق 20 فبراير، 2018م

في تلك المدينة المحمية بالله التي تدعى “ذمار” كانت المآذن تصدح فجرا بـ حي على خير العمل، بينما كانت مآذن القلوب تؤذن للمشاعر التواقة لعناق الأرواح بـ حي على الزيارة والوصال، وخلجات النفس ترتل بعضا من أذكار الحنين. كيف لا، وهي اليوم في حضرة معالم ومآثر طمستها الجغرافيا رغم عجزها، وهمشتها أقلام التأريخ عمدا تلبية لرغبة شيطان النفس والهوى، لكنها رغم كل ذلك ما زالت ضاربة في جنبات الأفئدة، ومتجذرة في جينات الأحفاد وأحشاء الجيل، تستند على مداميك الأصالة ورصيد المعارف، وتتعمق في وجدان الدين وضمائر السير وأوردة الأثار وأمهات الكتب. “الشعب” قصدت في هذا العدد قبس من نور الجغرافيا، وجعلت من جامع الإمام أبو الفتح الديلمي قبلتها للصلاة في محراب الدهشة، والخطبة في منابر النور ومصفوفات اليقين، ومن ضريحه ومشهده المتواضع محطا لرحلة الإستطلاع والزيارة التي ستخلد في زاوية من الذاكرة لا يطؤها النسيان.

*من وحي الإنطلاق*

لم يكن وسواس شيطان الطبيعة لصباح الأمل المشرق مجديا لتأجيل الرحلة الروحية العبقة، ولم تنجح تقلبات مناخ الساعات الأولى بين موجات الغبار ورياح الصقيع المتبلد أن تثني وجهتنا التي عقدنا النية لنطوف تفاصيلها، ونغدوها خماصا لنعود بطانا وقد ارتوينا من نفحاتها وتعطرنا بقداستها. حيث أمتطى مشرف عام المحافظة الأستاذ فاضل الشرقي سيارته، وسار على جسر توقه وشوقه المنتصب على أضلاع الفؤاد، يرافقه القاضي عبدالله الجرموزي مدير مكتب الأوقاف بالمحافظة، ووجهتنا جميعا جامع وضريح الإمام أبو الفتح الديلمي في قاع الديلمي بمديرية ميفعة عنس على بعد 40 ميلا شرقي مدينة ذمار.

*على هامش الدقائق الأولى*

بعزم المجاهدين، شقت السيارة عباب الغبار ماخرة في الطريق الإسفلتي، تسابقها الأنفاس، وتجاريها منادمة ممتعة من الحديث. أنعطفت بنا الرحلة يمينا، ويمين مشرف عام المحافظة تقبض بمقود السيارة، ويسراه تلوح بالتحية والسلام لأفراد النقاط الأمنية المتوزعة هنا وهناك في أكثر من مكان، إرادتهم تحمي حمى الوطن، وتذود عن حياضه، وتمتهن النباهة واليقظة والإحتراس من كل من يبطن سوء النوايا، وينفخ في بوق الفتنة ليبعث من برزخ الأمن والإستقرار قيامة للعنف والصراع واقلاق السكينة العامة لأوساط المجتمع. كانت أبصارنا تلتهم الطبيعة بجمالها يمنة ويسرة، وتتذوق دفء خيوط الشمس المواجهة تماما لزجاج السيارة الأمامي، وعلى جنبات أبواب السيارة يتسلق الأطفال مبتسمين وهم يعرضون بضاعتهم للغادين والعائدين من وإلى المدينة، يكرمونا بالكلام المعسول، والطرفة اللذيذة، ويستهوون ما في جيوبنا من أوراق نقدية ثمنا لمحتويات أكياس البلاستيك التي تتدلى من سواعدهم السمراء المثخنة بتشققات جور الطقس البارد. يهزمون الظروف، ويغتالون الحصار، ويحافظون على دخل أسرهم دون الحاجة لمهانة السؤال ولعنة الإرتزاق.

*محطة تأريخية*

بعد بضع دقائق وعشرا، حطينا الرحال في منطقة “حاجب ردمان” في قرية الميفعة التابعة لمديرية ميفعة عنس، حيث يرقد الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح بن ناصر الديلمي في إحدى زوايا الجامع التأريخي العريق المسمى بإسمه، والذي شيد قبته الأمير محمد بن الحسن في العام الهجري الثاني والأربعين بعد الاربعمائة والألف. حلقنا حوله تائهين في زحام طلته البكر، وكبرنا مهللين نطوف طواف الحنين، عيوننا تتلاشى في نظرة لا متناهية في عمق التأريخ، توضأنا ببريق الأثر، متوسدين سحائب الألق، وألقينا التحية والسلام لروح الإمام القاطنة على يمين الصف الأخير من الجامع، ضريح اسمنتي صلب مسجى بقماش أخضر، أما أصل الضريح فقد تمت سرقته وحرقه من قبل التكفيرين منذ قرابة الـ 15 عاما، ونقلت قطعتين من اجزاءه التي تبقت إلى المتحف الحربي في العاصمة صنعاء.

*توسيع وترميم*

يقول الأخ صالح ناصر أحمد وهو القائم بواجب الجامع بعد أبيه وجده، أن الزوار يقصدون زيارة الجامع بشكل متواصل ومن مختلف المحافظات اليمنية، ونظرا لعظمة المعلم التاريخي فقد اسميت تلك المنطقة الواسعة برمتها بـ قاع الديلمي، نسبة للإمام أبو الفتح الديلمي عليه السلام. ويضيف قائلا: لم يعد الجامع يكفي للمصلين مما اضطررنا إلى توسيعه وترميمه؛ لكن القاضي الظرافي مدير الأوقاف في التسعينات رفض المساس بالجامع حفاظا على آثاره ومعالمه، ووجه ببناء جامع آخر مجاور ولصيق بالجامع الأثري والتاريخي، وبالفعل بدأنا البناء في حينها، وها نحن اليوم نستكمل عملية البناء على يد القاضي عبدالله الجرموزي مدير الأوقاف حاليا.

*للأوقاف حضور*

وفيما يتعلق بأوقاف الجامع تحدث إلينا الأخ لطف جبران مصلح وكيل الأوقاف في قرية الميفعة وقاع الديلمي وأوضح أن الجامع يمتلك العديد من الأراضي الزراعية التي يعود جزء من غلالها لخدمة الجامع، موضحا أهمية هذا المعلم التأريخي وما يحتويه من درر علمية ثمينة ممثلة في مؤلفات الإمام أبو الفتح الديلمي التي باتت مرجعية الفقهاء والعلماء الحقيقين، وقبلة الباحثين والمفسرين، ووجهة المحبين والسائرين على نهج آل بيت الرسول الأمين. وعند سؤاله عن محطات من سيرة الإمام أبو الفتح الديلمي أجاب بأن الكل يعرف تاريخه وسيرته في اليمن، وأن استشهاده كان في منطقة نجد الجاح التي تدعى حاليا قاع فيد، لكنه نقل إلى منطقة حاجب ردمان حيث الجامع الأثري الآن.

*مآثر يتيمة الإهتمام والترميم*

في المؤخرة اليمنى لمحراب الجامع بركة دائرية شيدت من القضاض الصلب، وكانت مصدرا رئيسيا لمياه الوضوء، غير أن وصول شبكة المياه حاليا جعلت من الخزان الحديدي المجاور بديلا للبركة المائية التي تحتاج إلى إعادة ترميم طارئ وعاجل يحفظ لها رونقها التاريخي. وخلف محراب الجامع تماما تفترش أجساد الموتى مقبرة مهترئة تتناثر أضرحتها هنا وهناك، وتلتحف قسوة التضاريس وتبدو عليها تجاعيد الزمن، إلا أنها بحاجة إلى تسوير حديدي يحفظ لها حرمتها، ويجعل منها قطعة تأريخية تستحق حق جوار الجامع الأثري والتاريخي العريق. وعلى بعد مترين بركة بيضاوية الشكل يتفرع منها مجسم طولي مستطيل لمدخل المياه، فتبدو على شكل عود العزف الخشبي، وفي تجاويفها مدرجات تلتف دائريا حول خصرها وكأنها ملعب رياضي جاءت به تكنولوجيا الألفية الثالثة. وبالرغم من سحرها المدهش وإبداعها الفريد إلا أن النباتات والحشائش هي من تعانق أحضانها، وهي تستدعي الجهات المختصة والمسئولة عليها أن تعيد ترميمها حالا، وتلفها بسياج حديدي وبوابة صغيرة يحفظها ويصون عراقتها ويجمل مفاتن وجهها البديعة. هذا الجمال الساحر، وتلك العراقة الأصيلة دفعت بآخرين إلى نسخ الشكل والتكوين لتلك البركة، وتشييد أخرى مشابهة توأم لها، وذلك في بوابة معسكر سامة شرقي مدينة ذمار.

*مناشدة لا تقبل التأجيل*

لكي تكتمل تفاصيل الخريطة التاريخية لهذا المعلم التاريخي العريق، كان لا بد من الحفاظ على متنه وهامشه، وقلبه وقالبه؛ ومبناه ومعناه، وذلك لن يكون إلا بالحفاظ على الكل والجزء، من هنا نطلق مناشدتنا لمكتب الأوقاف بالمحافظة وكلنا أمل في تلبيتها، بضرورة ترميم بركة المياه المجاورة للجامع؛ وتسوير المقبرة المحاذية، إضافة إلى ترميم الضريح وتحسينه.

*من هو الإمام أبو الفتح الديلمي..؟*

هو الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح الديلمي الناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن أحمد بن عبدالله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي إبن أبي طالب عليهم السلام. ولد في بلاد “الديلم” من إيران في الجنوب الغربي لبحر “قزوين”، يعد من أئمة الزيدية المجتهدين المجاهدين، وهو جد السادة “آل الديلمي” في اليمن. نشأ عالما و مفسرا، درس على جماعة من علماء “الديلم”، ثم كانت دعوته هناك في العام الهجري 430 الموافق للعام الميلادي1039م، ثم وصل إلى اليمن في شوال من العام الهجري437 الذي يقابله العام الميلادي 1045م، وبايعته عدد من القبائل، واستولى على مدينتي صعدة وصنعاء، وسكن بلدة  “ذيبين”، من بلاد “همدان”، وأسس حصن “ظفار ذيبين”. وقد أنشد في قبائل همدان وبكيل قائلا:

ألا يا لهمدان بن زيد تعاونوا

على نصرنا فالدين سرب مضيع

ونادوا بكيلا ثم وادعة التي

لها المشهد المشهور ساعة تجمع

ولا بد من يوم يكون قتامه

بوقع القنا والمشرفية أدرع

سيقتاد لي من كان بالأمس عاصيا

ويقرب مني النازح المتمنع

أنا الناصر المنصور والملك الذي

تراه طوال الدهر لا يتضعضع

ستملأ دنيانا من العدل بعدما

مضت حقب بالظلم والجور شرع

أنتقل بعد ذلك إلى جنوبي صنعاء وتحديدا منطقة “علب” حيث بنى حصنها، وأستمر فيها حاكما وحكيما. له التصانيف الواسعة، والعلوم الرائعة، منها: كتاب البرهان في علوم القرآن الذي جمع المحاسن والظرائف، واعترف ببراعة علم مصنفه المخالف والموالف، وقد كان الشهيد القائد حسين بن بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه قد بدأ بتحقيق رسالة ماجستير في إحدى جامعات السودان في هذا الكتاب من التفسير، لكنه لم يكمل رسالته تلك. دعا الإمام أبو الفتح الديلمي إلى الله سبحانه وتعالى في الديلم، ثم خرج إلى أرض اليمن، فاستولى على أكثر بلاد مذحج وهمدان وخولان، وانقادت له العرب، وحارب الجنود الظالمة من المتمردة والقرامطة. وكان له من الفضل والمعرفة ما لم يكن لأحد من أهل عصره، ولم يزل قائماً بأمر الله سبحانه وتعالى حتى أتاه اليقين، وقد فاز بفضل الأئمة السابقين، توفي عليه السلام شهيداً سنة ثلاثمائة وأربعة وأربعين بنجد الجاح، في الوقعة المشهورة بينه وبين علي بن محمد الصليحي قائد الباطنية، وداعيتهم، واستشهد مع الإمام نيف وسبعون سلام الله ورضوانه عليهم، ودفنوا جميعا في محل واحد، ثم نقله ولده محمد إلى منطقة حاجب ردمان في ميفعة عنس شرقي مدينة ذمار.

*مسك الختام*

كثيرة هي المآثر التأريخية وقباب الأولياء وأضرحة رموز الدين، وغزيرة هي صفحات التأريخ ببصماتهم وصولاتهم وجولاتهم، وعميقة هي مشارب أمهات الكتب ومراجع البحوث، التي تحتضن أولياء الله في سطورها. لكن العبرة في جيل مغيب عن جل الحقائق بعد أن أستهوته شياطين مناهج التعليم منذ ثلاثة عقود، لتجلب له كل غث وتنزع عنه كل سمين.