إرث شهيد
بقلم / عابد حمزة
عرفتُك صغيراً وعرفتك كبيراً، عرفتُك عابداً خاشعاً مؤمناً متواضعاً لله، عرفتُك خطيباً مفوَّهاً وقائداً محنكاً لم يرعبْك الأعداءُ ولم تُخِفْك تهديداتُهم، جلست بينهم وأنت تعرفُ أنهم قريبون منك ويتآمرون عليك، ومع ذلك دُسْتَ على كُلّ تهديد وصلك منهم بقدمَيك..
لثلاثة أعوام يا شبلَ حيدر ظللت بين أَوْسَاطهم تفترشُ الأرضَ وتلتحفُ السماءَ مقدماً لهم هَدْيَ الله على أرقى مستوى، ترحَمُ صغيرَهم وتجودُ على مستضعفهم وتحترمُ كبيرَهم، فألزمتهم بذلك الحُجَّة وأبنت لهم طريقَ الحق وقدمتَ لهم مثالاً عظيماً كيف تكونُ ولايةُ الرحمة “أهل البيت” عليهم السلام.
أتحدَّثُ عن الشهيد عبدالملك محسن أبو طالب، الذي رحل عنا قبل أيام شهيداً مقبلاً غير مُدبِر في جبهة الساحل وهو يواجِهُ طُغاةَ العصر أمريكا وإسرائيل وعملاءَهم، بعد عُمُرٍ تجاوَزَ الخامسة والعشرين قضاه منذُ نعومة أظافِره مجاهداً في سبيل الله، فتراه تارةً مقاتلاً في سبيل الله، ومرشداً ثقافياً تارة أخرى، لا يكل ولا يمل ولا يهدأ له بالٌ، شارك في الحرب السادسة باستبسال، وبعد الحرب انتقل إلى العمل الثقافي؛ نظراً لما وهبه الله من علم وذكاء وفطنة وبُعد نظر وقوّة طرح وقُدرة على الاقناع.
من جالسه أحبه؛ لما هو عليه من تواضُعٍ وطيبة نفس ورجاحة عقل وجُرأة ونشاط وهمّة وعزيمة ومثابرة ومحبة للناس ورحمة بالمستضعفين
ما إن جاء عدوانُ التحالف الأمريكي حتى لبس لامةَ حربه وانطلق منذُ اليوم الأول للعدوان إلى جبهة الساحل، وهناك صال وجال ضد أعداء الله، فتارةً يقودُ المجاميعَ الجهاديةَ في الخطوط الأمامية، وتارةً يعتلي المنابرَ ومِنصّات الاجتماعات؛ ليُلقيَ الخُطَبَ والكلماتِ المشبَّعةَ بروح الثقافة القرآنية، وتارةً تراه يتولّى الإشرافَ الميدانيَّ لبعض مديريات القطاع الجنوبي في الساحل الغربي، مختلطاً بالناس كواحدٍ منهم، يتلقى شكاويَهم ويحل مشاكلَهم ويسعى بكل جُهد لتوفير الخدمات لهم.. عرفه الأعداءُ وعرفوا خطورةَ تحرّكاته ضدهم، وكان يعرف أنهم يريدون النيلَ منه بأي شكل وبأية وسيلة، فيفرح بذلك ويقول الحمدُ لله رَبِّ العالمين أن وفقني اللهُ لأن أكونَ شوكةً في أعين أعدائه.
كان سَلَامُ اللهِ عَلَـيْه متواضِعاً، يعمَلُ بالحاصل وما توفر له من إمكانات، صبوراً لا يصنعُ الإشكالياتِ أمام العمل ولا يتنصَّلُ عن المسؤولية، ولا يخافُ من غدر الأعداء أو ملاحَقة الطائرات.
في أيامه الأخيرة كان كثيرَ الحديثِ عن الشهادة في سبيل الله، وكان يُقْسِمُ على نفسه أنه لن يبرَحَ الأرضَ إلا بنصرٍ من الله عظيم أو شهادةٍ في سبيل الله، وفعلاً أَبَرَّ بقَسَمِه وثبت ثباتَ الجبال في مواجَهة الغزاة ومرتزِقَتِهم، وخاض غمارَ الموت مع أفراده شمالَ يختل حتى نال وسامَ الشهادةِ في سبيلِ الله.
لقد رَحَلَ عنا هذا الشهيدُ السيِّدُ العظيمُ إلى ضيافة الله مع النبيين والشهداء والصالحين، ولكنه ترَكَ لنا إرثاً عظيماً في معنى الصدق والوفاء والكَرَم والشجاعة والصبر والتضحية والجود والإحسان والتواضع وبَذْل النفس والمال في سبيل الله، فَسَلَامُ اللهِ عَلَـيْه يوم وُلد ويوم استشهد ويوم يُبعَثُ حيّاً.