اليمن الذي لمّا يعد سعيداً
بقلم / عناية جابر
هذه المرّة ، أريد أن أمضي في كتابة ما يُفجعني. أمضي في الكتابة في موت اليمنيين، وفي الهواء الذي يتنفسونه.
وقد أخذ ينفد. العالم يريد حياة اليمنيّ. العالم الغنّي يريد اليمن مقتولاً، وأطفاله أمواتاً عاقلين، والعالم الغنّي يُحّبُ أن يرى شيئاً من اللون الزعفراني في حدقاتهم، وأفكرّ أنه لا بدّ أن للآلهة ضلع في موتهم.
أريد أن أكتب عن موت اليمن، عن مجاعة اليمن . وإن لم أكتب عن اليمنيين المُهدّدين بموت جماعي عمَن أكتب ؟ اليمنيون، من بقي منهم أعني، مُهددَّون جميعاً بالموت. الحصار البرّي والبحري والجويّ الذي يمنع عنهم أية مساعدة غذائية أو طبيّة أو إنسانية بمعنى ما، سوف يجعلهم يرقدون في عين الجوع، في عين الكوليرا، تبتلعهم وتمتّص ما بقي من حيواتهم.
أطفال اليمن على شاشات التلفزة، مجرّد رؤوس كروية وأجساد جافّة مُغضنّة مُسندة إلى سرائر بالية أو مُتكئة على صدور أمّهاتها التي خشّبها الجوع.
من حيث تصوّرهم الكاميرات، ويتفرّج عليهم العالم، ثمة النكران واللامبالاة. الطفل اليمني على مبعدة دقيقة من حتفه، دقيقة واحدة ساخنة يُبخرّها النظر ، تُبخرّها ” الفرجة” عليهم كما تتفاداها الكاميرا.
لماذا هذا الحقد على الفقراء؟ على الأبرياء؟ على الأطفال وقد بدت بطونهم كُرات ملأى بالهواء والديدان، ومُكتسية أفواههم برغوة الموت البيضاء.
أكتب في هذا الموت التفصيلي لتمويه عجزي عن فعل أيّ شيء مُساعِد.
ينبغي أن تكون الأكاذيب بسيطة جداً كالصدق. إن التفصيل المفرط هو ببساطة إفراط ، لكنني أتلوى ألماً بعد رحلة تحديق طويلة في وجوه الأطفال ، في استغاثاتهم الصامتة، في نقل عذابات بتفاصيلها كافة لكنني أمام العالم المُتفرّج، المُتورِّد الخدّين، أخشى أنني لستُ مقنعة.
أبداً الأغنياء ليسوا في حسبان هذا الموت، ولا من اختياراته. الموت يمتلك مهارات حقيقية في إصابة أهدافه المُفضَّلة: أجساد ضئيلة سمراء، يجد الموت مُتعتهُ في زهق أرواحها ” المزهوقة” أصلاً. أجسادٌ طفلة لا تملك إلا أن تطيع أقدارها وتنحني انحنائها المرِّوع أمام الكوليرا الناهِشة.
أسأل في ذهولي التّام أمام هجران العالم لهم، هل كفَّ هذا العالم أخيراً عن مدّ يد المساعدة إلى الأطفال ؟ العالم على ما يبدو قد فعل، وهو كفَّ عن مدّ يد المساعدة للأبرياء، للأطفال وغير الأطفال.
في الحقيقة ، لا أتقصَّد ولا أسعى إلى التلفزة في رغبة رؤية طفل يموت. أرغب فحسب في سماع نشرة الأخبار، وإذ هي الكاميرا تطوف على الأجساد الرقيقة الذاوية، وأسأل إن كان يسعني مدّ يدي إلى الشاشة ، وسحب طفل إلى حضني ، إلى قلبي . حركة لا أهيِّىء لها مُسبقاً، لكنها تكتسحني ما إن أرى إلى الأطفال في نزوعهم إلى الموت. هذه الرغبة في سحب أحدهم إليَّ ليست مأثرتي وحدي، بل أحسب أنها رغبة جميع مَن يشاهد نشرة الأخبار مثلي، بيْدَ أني أعرف في قرارتي، عجزي عن إنقاذ طفل، إنقاذ أيّ شيء من مجرّد مدّ يدي إلى الشاشة.
اليمن بعد الحرب والجوع والكوليرا، تبدو مُخالفة عن صورة حياتها السابقة. مُخالفة واستفزازية ولنقل غريبة عن كل هذا الموت إلى حدّ التعسّف. فأبجدية الحياة فيها ليست بالتأكيد تلك الأبجدية القديمة، الخضراء، المُشجرّة، المشبكة، المُلتّفة. إنها غالباً أبجدية بدائية، أبجدية مهجورة وليس فيها ما يُغري سوى الغربان.
اليمن التي لم تعد سعيدة، كما لو وُلِدت من تلال مبان شاحبة، ومن دمار عام، فإن فيها مازال شيئاً حيّاً. شيء على علاقة بالكائن اليمني نفسهُ، بروحه، وبإرادته المقاومة. حين أنظرها قبل أن يُهدِّمها الجوع والموت، تعود لي حساسيّتي البصرية، وأشعر مُجدَّداً بأنني أمام لوحات، ومربّعات تُرصِّع تلك البيوت الضيّقة الممشوقة عالياً، ولا يبقى فيّ سوى عين ترى إلى مدينة مسحورة.
يتنّزه النظر في اليمن كما لو التجوال في ذاكرة عظيمة، تتحرّر في لحظة من نفسك ومن الزمن وتتفرّج على اليمن ( عندما كان سعيداً ) كلوحة مكشوفة من صنع الرب. السحر نفسه يتجدَّد في هذه البقعة وتلك، يطّل من النوافذ الملوَّنة وفي إمكانك مع ذبذبات الضوء الكهربائي أن ترى إلى اليمنيين ربما من الأبدية، ربما من الروح الشجاعة الساهِرة.
اختارت اليمن أن تُقاوم، من دون أن تردعها في ما يبدو، القوة الثقيلة للموت التي تُدرك العديد من أبنائها، لا أن تحاول فحسب أن تُقاوم على وجه الدّقة هذا الشكل الظالم من أشكال التعدّي، وإنما أن تُقاوم ضد السلبية الفاترة لنكران العالم لها، النكران باعتباره المناخ الحداثي الاستعماري السائد في العالم الآن ، وفي كل أوان بالتأكيد. وفي كل يوم، يوضح اليمني مدى الإصرار وراء قرار المقاومة ، وإلى أيّ حدّ يُشهر إصراره عليها، رغم إدراكه مدى التكالُب عليه، ومدى صعوبة المهمة التي يتصدَّى لها.
في الحرب اليمنية، في الحرب التي نهشتها الكوليرا والمجاعة والأجساد الممزّقة، ونهشها أكثر العالم الذي يتفرّج والنائي بنفسه عنها، يبدو أن اليمنيين وقد اكتسبوا من عثراتهم الشخصية، من فقرهم، وحصارهم، وشحذ هممهم المتبقية، القدرة على إدراك أن مفاهيم ” القوة” الغاشِمة الراخية بثقلها على بلدهم، هي في النهاية إلى زوال بصورة قاعدية، وأن أيّة محاولة لنفي اليمن بكافة أبنائه، ينبغي أن تنتهي بالإخفاق، بالخطيئة واللعنة.
ما المَخرَج إذن من هذه المَقتلة؟ إن ردّ العالم الأخرس أبعد ما يكون عن المباشرة، وإن لم يفتقر إلى الوضوح في الوقت نفسه : لا يستحّق الفقراء رفع الصوت من أجلهم، ليس عندما تكون قوة عاتية، غنية وخطرة على مصالحه ومقدّراته . رفع الصوت حيال قضية عادلة يستلزم بُعداً أخلاقياً ، هو في الواقع امتداد للبُعد الإنساني في أكثر مستوياته براءة، وهذه على ما يبدو قد ودّعها العالم ، فمن يُخلِّص اليمن من جسد الموت هذا ؟
*شاعرة لبنانية عملت في مجال الصحافة