دلالات الصمود في الشعر اليمني المعاصر
بقلم الشاعر / إبراهيم يحيى الديلمي
بالرغم من فظاعة الجرائم ومئات المجازر التي ارتكبها تحالف العدوان السعودي الأميركي بحق الشعب اليمني الأبي الصامد، ونجاحه في التدمير الشامل للبنى التحتية لوطننا الحبيب على مدى عامين ونصف، إلا أنه عجز عجزًا مطلقًا في زعزعة معنويات اليمنيين وتدمير البنية التحتية للشعر اليمني بشقيه الفصيح والعامي، بل على العكس من ذلك، ساهم وبشكل كبير في خلق بيئة شعرية جديدة اكتضت بالكثير من الشعراء الجدد الذين لم يكونوا ظاهرين على الساحة الأدبية والشعرية.
هذه البيئة الشعرية اتسمت بالإبداع اللامتناهي والتجديد والابتكار وجمعت بين البراعة في النظم المتقن للقصيدة وبين مقدرة الشاعر اليمني على الخلق المذهل للصور الشعرية الفريدة والجديدة وبين العاطفة الصادقة للشاعر التي نجحت في اختراق الوجدان اليمني وأسهمت في ترسيخ وتجسيد ثقافة الصمود والثبات برغم كل مظاهر العدوان والحصار.
أيضًا اتسمت هذه البيئة الشعرية التجديدية بالتأكيد على الصمود في مواجهة المعتدين والمجرمين الذين تكالبوا على الشعب اليمني من كل حدبٍ وصوب، ولعل هذا الصمود الأسطوري قد مثل موضوعًا رئيسًا في القصيدة، وكانت له دلالاته الانفعالية والحسية وهي الدلالات الحية التي لمسناها على الأرض كما لمسناها على الشعر.
دلالة الإنسان:
“نحن أولو قوة وأولو باس شديد” انطلاقًا من هذا التعريف الموجز الذي أورده القرآن الكريم لماهية الإنسان اليمني مشبهًا له بالقوة والبأس الشديد، نجد أن الشاعر اليمني قد انطلق في نظم قصائده الحماسية على هذا الأساس وانطلاقًا من مضمون هذه الآية، وكيف لا يكون الإنسان اليمني كذلك وهو الذي صارع الجبال والعواصف فغلبها ولم يخض حربًا إلا وأرغمها على طحن عدوه على مر الأزمنة والعصور، وبالتالي فطبيعة الإنسان اليمني التي تتسم بالقوة والعنفوان والأنفة تكاد تكون هي العامل المهم في صناعة الصمود اليماني ودلالته الأنصع التي برهن عليها في ميادين العزة والشرف وترجمها الشعر في ثناياه بلغة شعرية بلغت حد الدهشة. يقول الشاعر معاذ الجنيد في إحدى قصائده:
أعداؤنا كل يومٍ يصدمون بنا
ما حققوا غايةً، لم يبلغوا قصدا
طموحهم بثرانا ساقهم زمرًا
إلى جهنم وردًا يقتفي وردا
أضحى الغزاة هشيمًا في سواحلنا
فبحرنا صار نارًا، رملنا صلدا
إن واجهوا جيشنا صاروا غنائمهُ
إن هاجموا بلدةً أمست بهم تفدى
الأبيات ترجمة صادقة لمضمون الآية فالصدمة بقوة اليمنيين وشدة باسهم ردة فعل طبيعية للعدو الذي يمتلك أحدث أنواع الأسلحة وعشرات الآلاف من الرجال بالإضافة إلى مخزونه الهائل من المال والإمكانيات بالمقارنة مع الإمكانيات الشحيحة لليمنيين الذين يعتمدون في صمودهم ومجابهتهم للعدو على قوتهم وشدة بأسهم بعد اعتمادهم على الله.
دلالة الإيمان بالله:
لطالما كانت العقيدة الإيمانية بالله عاملًا أساسيًا من عوامل الصمود والنصر والثبات، ولطالما كان الإنسان اليمني هو المرادف الوحيد للإيمان والحكمة تأكيدًا لقول رسول الله (ص) : “الإيمان يمان والحكمة يمانية” والذي على أساسه اعتمد الإنسان اليمني على الله في مواجهته للعدوان، وبالتأكيد لم ينس الشاعر اليمني أن يتحدث عن هذه الدلالة المهمة في قصائده ومن ذلك ما قاله الشاعر معاذ الجنيد في قصيدته “من أي نصرٍ ونصرٍ نبدأ الحمدا” مخاطبًا الله:
لن ندرك الشكر والتسبيح عن عملٍ
إلا بمعركة التنكيل بالأعدا
لا زلت يارب في كل الجهات لنا
درعًا، سلاحًا، ثباتًا، قوةً، زندا
أفرغت صبرًا علينا هد قوتهم
أيدتنا بصمودٍ شاقهم كدا
لايترك الله من بالمصطفى اعتصموا
لا يخذل الله من صاروا له جندا
فالمفردات “الشكر” “التسبيح” “يارب” “أيدتنا” “بالمصطفى اعتصموا كلها مفردات وردت في سياق القصيدة لتوحي بعمق الإيمان بالله الذي يتمتع به الإنسان اليمني وبعمق ثقته وعلاقته بالله كدافع للصمود وسبيل أكيد للانتصار.
دلالة الزمان:
لابد أن التاريخ يظل هو السيد المتربع على عرش هذه الدلالة كونه يحتوي على شواهد حاضرة وبالتالي لايمكن للدلالة الزمنية أن تغيب من ذاكرة أي شعب لديه ارتباطا وثيق بحضارة إنسانية صنعها الأسلاف وباتت شاهدًا على عنفوان وقوة ذلك الشعب، فالزمن في الحروب غالبا ما يبقى حاضرًا ليبرهن على عظمة المحاربين الذين لايمكن هزيمتهم مهما بلغ عمر الحرب ومهما بلغت قوة العدو، وطالما كان الله والدين الوطن هما العقيدة الراسخة في وجدان أولئك المحاربين الذين لايؤمنون في الحرب إلا بالنصر أو الشهادة.
عامان مرا، ما تزحزح للفدى
قدمٌ، ولا انتهت الإثارة
عامان والأطفال في اليمنِ
السعيد بكل ناحيةٍ وحارة
يتسابقون إلى احتضان الموتِ
في عرضٍ به امتلكوا الصدارة
وسمت بهم نُظم المعاركِ
غارةً في إثر غارة
في موكبٍ عبقِ الخطى
لجلالهِ انحنت الحضارة
بهذه الأبيات من قصيدة “ما تزحزح للفدى قدم” يؤكد الشاعر اليمني الراحل علي عبد الرحمن جحاف الذي انتقل إلى جوار ربه قبل أن يتم العدوان عامه الثاني بعدة أشهر، ولعل الدلالة الزمانية للصمود اليماني في هذه الأبيات تؤكد على إمكانية أن يمتد الصمود ليس إلى عامين وإنما إلى عشرات الأعوام، وهو في أبياته لا يتحدث عن الرجال وإنما يتحدث عن الأطفال مستهينًا وساخرًا من هذه الحرب ومؤكدًا أن الصمود هو الصفة التأريخية اللصيقة بالشعب اليمني في كل الحروب.
وتكاد تكون هذه الفكرة هي نفسها فكرة الشاعر وليد الحسام الذي سخر من العدوان في قصيدته “عامان على الوطن المنسي” وقال عنه:
عامان يزحف ما امتدت له قدمٌ
إلا مضى لحبال الموت منتحرا
الزاحفون بخيل الغزو، تلعنهم
تلك الحوافر لما أبقت الأثرا
والشاعر هنا يبين الحالة المزرية التي وصل إليها العدوان بعد عامين من العدوان والاستحالة من تحقيق أي نتيجة التي كان يحلم بها.
وأما القيمة المعنوية التي يمكن أن نستدل بها على دلالة الزمان كعامل مهم من عوامل الصمود هي أنه كلما امتد أمد العدوان كلما تصاعدت خسائره وانهارت معنوياته وباتت خسارته للحرب حتمية، وهذا ما أكد عليه الشاعر معاذ الجنيد حين تحدث عما يعنيه الوقت في معجم المقاتل اليمني بقوله:
الوقت يعني مزيدًا من خسائرهم
فكلما مر عامٌ بأسنا اشتدا
دلالة المكان (مقبرة الغزاة):
هي هكذا عُرفت في إضبارة التأريخ منذ آلاف السنين، إنها الأرض اليمنية التي ابتلعت الجيوش وضاقت على الغزاة بما رحبت، لتتحول عبر العصور إلى مقبرة شاسعة للغزاة والمحتلين، تلك هي الحقيقة التي لطالما نطق بها التأريخ وخفق بها اليوم قلب الشاعر اليمني الكبير عبدالعزيز المقالح بقوله في “قصائده القصيرة تحت القصف” محدثًا صنعاء:
صنعاء يا معشوقتي الكبرى
أصمدي للهولِ
تلك جبالك الشماءُ
كم سحقت أساطيلًا
وداست أفعوانْ.
وهنا نجد الحضور الكبير للدلالة المكانية “صنعاء” التي لم تغب عن خاطر الشعر كشاهد حي على عظمتها وصمود شعبها ليؤكد الشاعر من خلالها على حرية الأرض وإباء الجبال التي وإن كانت من الجمادات إلا أنها تستعر بالحياة وما حياتها إلا الموت السحيق لأساطيل الغزاة.
وفي خضم هذه التدفقات الشعرية يستدعي الشاعر عبدالقوي محب الدين المكان للاستعداد لاستقبال حشود العدوان بجحيم مأرب – صرواح – صحن الجن في قصيدته (يهنا) حيث يقول:
يا “مأرب” التأريخ، عنا
أكد لهم ما كان ظنا
أنا كتاب الجود ألفناه
حاشية ومتنا،
اهلاً بحلف النفط يا “صرواح”
كن للضيف حضنا،
ويستمر الشاعر في تدفقه ومحاورته للمكان إلى أن يقول:
واملأ “صحون الجن” أشلاءً
وقل: هبوا .. ويهنا.
وهنا نجد كيف استحضر الشاعر في قصيدته تلك الأماكن بأسلوب شعري بديع وكيف أنها ليست بالبعيدة ولا المختلفة في خطابها للمكان عن قصيدة “قصائد تحت القصف” للمقالح بدلالتها الإيحائية التي تظهر من خلالها ظاهرة الترحيب بالضيف في الأعراف القبلية اليمنية، وكيف أن هذه الظاهرة بطبيعتها تختلف في الحرب عنها في السلم، إذ أنها في الحرب ظاهرة ترحيب بالضيف (العدو) إلى حتفه وهلاكه وليس إلى وليمة أو شرب القهوة.
من خلال ما سبق ومع استمرار عجلة الشعر اليمني المعاصر في الدوران، نلحظ بوضوح كيف ترسخت ثقافة الصمود – كأسلوب رادع للمواجهة- في الوجدان اليمني وكيف تجلت دلالاتها سواءً في ميدان الحرب أو في ميدان الشعر الذي يكاد يكون رديفاً للحرب وسلاحًا مؤثرًا لا غنى عنه في الرفد المعنوي وصناعة الصمود وصولًا إلى تحقيق النصر.