الخبر وما وراء الخبر

الصرخة.. موقفٌ بين اليوم والأمس

152

بقلم / علي أحمد شرف الدين

في فترةٍ من الزمن عاشت الأُمَّـة جمعاء موقفَ ضعفٍ تجاه ما يحاك لها من أعدائها، وكان أقوى المواقف تجاه أحداث سبتمبر لبعض التيارات الفاعلة فيها هو الكف عن التعليق، والانتظار، حتى تتجلى تفاصيلُ المشهد الذي وضع له جورج بوش الابن عنوان “مَن ليس معنا فهو ضدنا”، فيما اندفع الآخرون مبايعين له بأنهم معه دون قيد أَوْ شرط، حينها لم تكن الصورة أَكْثَـر وضوحاً إلّا لدى السيّد حسين بدر الدين الحوثي، الذي اختط مساراً حركيًّا مثمراً، جعل له شعاراً بارزاً وعلامة فارقة، تمثل بالصرخة التي طلب من الناس أن يردّدوها في كُلّ مكان، قائلا:

“أقول لكم أيها الإخوة: اصرخوا، ألستم تملكون صرخة أن تنادوا: [اللهُ أَكْبَـر/ الموتُ لأمريكا/ الموتُ لإسرَائيل/ اللعنة على اليهود/ النصر للإسْلَام]”.

إذًا كان السيّد حسين رضوان الله عليه حريصًا على أن تكون البداية التي انطلقت فيها الصرخة بداية جماعية، فتوجّه بخطابه إلَى الحاضرين في مدرسة الإمام الهادي 17-01-2002م، وهذا التوجه فيه إشارة واضحة من السيّد إلَى ارتباط المشروع بالقالب الجماعي، وليس الفردي، وضرورة انعكاسه في النشاط الاجتماعي، وهو الأمر الذي أريد أن أقفَ عنده هنا، حيث كانت مقدمة محاضرة الصرخة حوله، حيث تحدث السيّد حسين عن الاجتماعات غير الهادفة، وطالب بأن تكون اجتماعاتنا ولو بشكل أُسْبُوْعي اجتماعات واعية، يتم فيها تناول الأحداث بعقلية واعية، عقلية من يشعر أنه جزء من تلك الأحداث، ومن هنا يصح توصيفنا للشعار بأنه عمل جماعي، ومصبُّه اجتماعي.

نحمَدُ اللهَ الكريم -أولاً- أننا عاصرنا هذه المرحلة وعايشنا التوسُّعَ البشري والإعلامي والجغرافي لهذا المشروع القُـرْآني، ولكننا بحاجة إلَى العَودة إلَى بدايات انطلاقة هذا الشعار، ليس من حيث الشكليات والإمْكَانات المادية والبشرية، ولكن من حيث المضمون والروحية، فكثيرٌ من السابقين من الرعيل الأول يومَ أن سمعوا هذا الشعار من فم السيّد حسين حملوه بروحية مَن يستشعر المسؤولية أمام الأُمَّـة، وما يجب عليه تجاه ما يحدث في هذا العالم، دون أن يربط تحَـرّكه بالنظر إلَى ما حوله من ظروف وإمْكَانيات، أَوْ يكتفيَ بنفسه تاركاً من حوله لشأنهم، بل كان الواحد منهم يتحَـرّك ليصرخ بهذا الشعار في أماكن أكيدٌ فيها تعرضه للخطر، دون أن تشكل هماً ولا عائقاً أمامه، حيث كان همّه أَكْبَـرَ بكثير من ذلك الهمّ، وشعوره بالخطورة المترتبة على السكوت وعلى القعود والانتظار أَكْبَـر من شعوره بخطورة زنازين السجن ومعتقلات الأمن السياسي.

لا أمارِسُ اليوم إذاعة سِرٍّ حين أقول بأن أهمّ عامل من عوامل نجاح مشروع الصرخة – على أقل تقدير – هو توجهه إلَى الجماهير، بآليته أَوَّلاً وبثماره ثانياً، فالصرخة لا تؤدّى في مكان مغلَق، ولا معنى لأدائها أداء فرديا، بل هي ذات طبيعة جماهيرية، ومن هنا ينطلِقُ الأثرُ، على مستويات عدة، ليس منها الانعكاسات الثقافية والاقتصادية والسياسية فحسب، بل يتعدى ذلك إلَى الفرز الدقيق على المستوى الشخصي بين أوساط أفراد المجتمع الفاعلين، بحيث يتم تشخيصُ كُلّ فرد من حيث كشف دوافعه الحقيقية، ومدى ارتباطه بالمشروع القُـرْآني في آثاره العملية.
لقد تحقّقت وعودُ الله وخرج المستضعفون ظافرين، ليواصلوا إيصالَ مشروعهم القُـرْآني إلَى العالم، وقد قطعوا شوطاً كبيراً في ذلك، وإن جاءت بعضُ المشوشات عليهم، إلّا أن كُلّ انطلاقة لا بد لها من محطة مراجعة، تجددها، وتقوِّم انحرافها، وما هذه الحرب الكونية التي نعيشها في هذه المرحلة إلّا أثرٌ من آثار هذا الشعار الذي لفت انتباه الشطان الأَكْبَـر في العالم (أمريكا)، فمضت في تنفيذ مُخَطّطاتها في استعباد العالم، وهي تستشعر أنها باتت في سباق حقيقي مع هذا المشروع البسيط، الذي امتلك مقوماتِ استمراريته وانتشاره مذ أول يوم له في هذه الحياة.
لقد خسرت أمريكا العديد من أشواط السباق المتسارع مع هذا المشروع القُـرْآني في اليمن، وإن كسبتها في بلدان اُخْــرَى لم يصل إليها هذا المشروع أَسَـاساً في الفترة الماضية، فمنذ أن خسرت أمريكا جبهاتها المتقدمة في مواجهة هذا المشروع في كتاف ودمّاج والجوف، ومن بعدها عمران وصنعاء، حتى تتابعت خرزات سبحتها في الانفراط والتساقط، فسقطت معسكرات التكفيريين في قيفة – رداع، وما بعدها من المعاقل، حتى لم يبق من أوراق اللعب الأمريكي إلّا ورقة التدخل الخارجي، بغطاء شرعية سلطة عميلة ميتة، ولكن يبدو أن الصمودَ الأسطوري للشعب اليمني، ووقوفه بحزم في وجه الغزاة، في ظل توجيهات قيادته الحكيمة، يبدو أن كُلّ ذلك مثّل استمراراً لمسلسل إحراق كروت الحرب الأمريكية على هذا المشروع.

نحن اليوم مطالَبون بأن نحافِظَ على هذا السلاح القوي الذي امتلكناه -بفضل الله- في حين غفلة من الأَعْـدَاء، وأن نتعاملَ معه كما تعامل الرعيلُ الأول، فنؤدّيه بصورة جماعية تصُبُّ في مصلحة المجتمع جميعاً، ليست الصرخة (زاملاً) شعبياً يؤدّيه الشباب في جلسات المقيل مثلاً ثم تجدهم يتقاعسون عن الخروج على المساجد؛ لملء الفراغ الذي تعيشه المساجد أولاً، وللتزود العملي من هدى الله من خلال الممارسة وليس التنظير والتمني والتسويف، ولتوعية الناس أخيراً، ليس رفع صوتنا بالشعار بعد صلاة الجمعة أمراً مهماً إذا كان ذلك المسجد سيظل طيلةَ أيام الأُسْبُوْع بلا حلقة تعليمية للقرآن الكريم، يجد فيها أبناؤنا محطةً للثقافة القُـرْآنية، من منابعها الأصيلة، لن تكونَ الصرخة ذات معنى ولو رفعناها في لوحات كبيرة في شارعنا إذا لم يكن ثمة عمل تعاوني بيننا على أَسَـاس المبادرة الطوعية، نتشارك فيه العمل الأمني والتكافل الاجتماعي، نتفقد المحتاج، ونساعد الضعيف، ونأخذ على يد المفسد.

إننا في مرحلة متقدمة من المواجَهة مع العدو في هذه الفترة، وتعاملنا الشكلي مع الشعار سيفقدنا أهمّ عامل من عوامل النصر في المواجهة، فمَن يحمل الشعار نصراً لله سيجد الله ناصره، ومن يحمل الشعار مكايداً لفلان أَوْ علّان، أَوْ يحمله مسايرةً للوضع أَوْ اندفاعاً مع الوضعية التي وجد نفسه فيها فلن يجد إلّا قشورَ الصرخة، صوتاً بلا صدى، وشجرة بلا ثمرة، ومشروعاً ظاهرُه إيْمَانيٌّ وحقيقتُه نفاقيٌّ.