منظماتٌ عالمية تُثبتُ سجون “أبو غريب” الأمريكية في جنوب اليمن وتروي شهادات معتقلين سابقين (تقرير مفصّل)
في أواخر يونيو الماضي نشرت وكالةُ “أسوشيتد برس” الأَمريكية تحقيقاً كشفت فيه عن وجود شبكةٍ من السجون السرية في جنوب اليمن، تُديرُها قواتٌ إمَارَاتية، وكشف التحقيقُ عن جرائم تعذيب فظيعة تحدث بداخل هذه السجون بشكل يعيد إلَـى الأذهان ما كان يحدُثُ في “أبو غريب” العراق، خصوصاً وأن الوكالةَ نبّهت إلَـى مشاركة أَمريكية كبيرة!!، من خلال وجود قوات من الجيش الأَمريكي وخُبراء أَمريكيين عسكريين و”نفسيين” يقومون باستجواب المعتقلين ويقومون بتعليم القوات الإمَارَاتية عدةَ أساليبَ لعمليات الاستجواب.
“أسوشيتد” قالت بأنها رصدت ما لا يقل عن 18 سجناً سرياً في أنحاء الجنوب اليمني، وأن هذه السجون موزعة على عدد من مناطق نفوذ حكومة المرتزقة، حيث تقعُ في قواعد عسكرية وموانئ ومطارات ومنازل، وأن بعضَ المعتقلين تم نقلُهم إلَـى قاعدة إمَارَاتية في أرتيريا.
18 سجناً سرياً هو رقمٌ غيرُ بسيط بالنسبة إلَـى جنوب اليمن الذي تعتبره قوى العدوان حاضناً لمشروعهم، ولكن يبدو أن حقيقة “الاحْتلَال” تفرض نفسها رغم كُلّ المغالطات في النهاية، خصوصاً إذا كانت أَمريكا موجودة، فالإمَارَات لم تبسط نفوذها على الجنوب بفضل الحاضنة الشعبيَّة أَوْ السياسية كما تحاول أن تقول، وإنما باستخدام الأساليب الأَمريكية في الاحْتلَال ومن ضمنها سجون التعذيب، وبالطبع لن يكونَ ذلك إلا بتعاون أَمريكي مباشر، يعيدُ للأذهان فضيحة سجن “أبو غريب” الأَمريكي في العراق ولكن هذه المرة ليس سجناً واحداً وإنما 18 نسخة من “ابو غريب”.
وبرغم أن الولايات المتحدة الأَمريكية نفت رسمياً تورُّطَها في هذه السجون وما يحدث بداخلها إلا أن مستشارةَ الأمن القومي في منظمة هيومن رايتس ووتش “لورا بيتر” وصفت ذلك بـ “محاولة تنصل عن المسؤولية”، وأن الأمر يمثّلُ تذكيراً مؤلماً بـ “مشاركة وكالة الاستخبارات المركزية الأَمريكية والجيش الأَمريكي بشكل مباشر في برامج تعذيب مشابهة في فترات سابقة”.
وقد تكون مطالبات بعض أَعْضَاء الكونجرس الأَمريكي بالتحقيق في أمر السجون السرية في اليمن ومشاركة الضباط الأَمريكيين في التعذيب، شاهداً على التورط الأَمريكي، أَوْ على الأقل “قرينة” قوية، إلا أننا لسنا بحاجة لإثبات ذلك في وجود الحقيقة البديهية التي تضمن أن كُلّ دول تحالف العدوان لا تستطيع أن تفعل أي شيء في اليمن إلا بإشراف مباشر من الإدَارَة الأَمريكية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعد فترة قصيرة جداً من تحقيق “اسوشيتد” عن سجون التعذيب الإمَارَاتية في اليمن، نشرت منظمة هيومن رايتس ووتش، تقريراً موسعاً في نفس السياق، لينفتحَ المِلَفُّ بشكل أَكْبَـر، كاشفاً عن مسرح واسع لعددٍ من أبشع الجرائم التي ترعاها الإمَارَاتُ والقواتُ التابعة لها في اليمن، حيث أَكَّــدَ تقرير المنظمة وجود السجون السرية والتعذيب فيها، مضيفاً على ذلك شَرْحاً مفصّلاً عن عمليات الإخفاء القسري والاختطافات والاعتقالات التي تقوم بها الإمَارَاتُ وأتباعُها في الجنوب، مع رصد لبعض من الحالات التي تعرضت لتلك العمليات.
معتقلون سابقون: تعرضنا لتعذيب بـ “الشواء” واعتداءات جنسية وصعق بالكهرباء ومنع مياه الشرب
وأشارت المنظمةُ في تقريرها أَيْضاً إلَـى أن بعضَ المعتقلين يتم نقلهم إلَـى قاعدة عسكرية تابعة للإمَارَات في أرتيريا، مستشهدةً بكلام أحد أهالي المعتقلين والذي قال للمنظمة بأن أقاربَه تعرضوا للإخفاء القسري وأن 5 مسؤولين على الأقل أخبروه بأن الإمَارَات نقلتهم إلَـى خارج اليمن بما في ذلك 3 قالوا إنهم كانوا محتجزين في اريتريا.
كما أشارت أَيْضاً إلَـى أن فريق الرصد التابع للأمم المتحدة والمعني بالصومال وأرتيريا أشار في 2016 إلَـى بناء قاعدة عسكرية إمَارَاتية دائمة في مدينة عصب الاريتيرية، وقال محللون إن الإمَارَات استخدمت القاعدة في تدريب القوات اليمنية التابعة لها “النخبة الحضرمية، والحزام الأمني، وغيرهما”، فيما أَكَّــدَ فريقُ الرصد الأممي وجود قوات يمنية هناك.
ثم تقول المنظمة: (استخدمت قوات الحزام الأمني وقوات النخبة الحضرمية القوةَ المفرطة خلال الاعتقالات والمداهمات، واعتقلت أقارب مشتبه بهم للضغط عليهم للاستسلام بشكل “إرادي”، واحتجزت تعسفاً رجالاً وشباناً، واحتجزت أَطْفَالاً مع راشدين، وأخفت العشرات قسراً. وكما قال أحد المحتجزين السابقين نقلاً عن محتجز آخر في أحد معتقلات عدن غير الرسمية الكثيرة: “هذا سجن لا عودة منه”).
وتقول أَيْضاً إن (العديد من الأشخاص الذين تم إخفاؤهم قسراً كانوا قد اعتُقلوا في البداية من قبل الحزام الأمني، وقال لهم مسؤولون حكوميون مختلفون فيما بعدُ إنهم نُقلوا إلَـى مراكز الاحتجاز الخاضعة لسيطرة الإمَارَات، وإن المسؤولين اليمنيين وضباط الحزام الأمني لم يعودوا قادرين على التدخل).
الآن أَصْبَـح الأمرُ أَكْثَـر وضوحاً، فالسجون السرية فعلاً موجودة، والقوات التي تديرها معروفة وتلقت التدريب في أماكنَ معروفة أيضاً، والتعذيب يحدث، والمساعدة الأَمريكية حاضرة، وهذه هي “شرعية” العدوان التي يمارسها في الجنوب.
منظمة العفو الدولية هي الأخرى طالبت بتحقيق دولي تقوده الأمم المتحدة بخصوص السجون السرية الإمَارَاتية وما يحدث فيها، وكانت “هيومن رايتس” قد وجهت في أوقات سابقة ثلاثَ رسائلَ تحذيرية إلَـى الفار هادي، ثم إلَـى “محمد بن راشد آل مكتوم”، ثم إلَـى “محمد بن زايد آل نهيان” بشأن عمليات الاحتجاز في عدن وحضرموت ومعاملة المعتقلين في سجون عدن وحضرموت، وبغض النظر عن أي جوانب سياسية تختفي وراء تلك المطالبات ونشر هذه المعلومات، إلا أنها كشفت حقيقة موجودة، تم إخفاؤها لفترة طويلة لبشاعتها ولكونها تفتحُ ملفاتٍ خطيرةً ضد قوى العدوان ومن ورائها.
وسائلُ إعلام ومنظماتٌ عالمية تُثبِتُ تورّط أَمريكا في إدَارَة معتقلات سرية إمَارَاتية في الجنوب تُستخدَمُ فيها أبشعُ طرق التعذيب
بعضُ أساليب التعذيب
وكالة اسوشيتد نقلت في تحقيقها تصريحات لمعتقلين سابقين استجوبتهم بعد الإفراج عنهم من بعض تلك المراكز السرية، وقالت إن “تقنية الدجاجة المشوية” هي إحدى الطرق المستخدمة داخل السجون الإمَارَاتية السرية في الجنوب، وهي طريقةٌ يتم فيها ربط الضحية على عمود أفقي – مثل آلة شواء الدجاج – ثم تدوير الضحية باستمرار فوق النار!، وقد نقلت الوكالة عن سجين سابق في أحد السجون السرية في مطار الريان جنوب مدينة المكلا أنهم كانوا يتعرضون للضرب أَيْضاً وهم في وضعية “الدجاجة المشوية”!
سجين سابق آخر من نفس السجن قال للوكالة بأنه تم حشرهم فوق بعضهم داخل حاويات شحن بحري وتلطيخهم بالفضلات البشرية وهم معصوبو الأعين لأسابيع، بالإضَافَة إلَـى الاعتداءات الجنسية.
ونقلت الوكالة عن سجين ثالث بأنه “كان يسمع صرخات السجناء، وكان المكان بأكمله يخيّم عليه الخوف، وجميع المعتقلين كانوا مرضى، وبعضهم يوشك على الموت. وكل شخص يشتكي يتم نقله مباشرة إلَـى غرفة التعذيب، حيث يتم جلدُه بأسلاك الكهرباء، وهي ممارسةٌ شائعة يقوم بها الحراس ضد كُلّ المعتقلين”.. أما هو فقد تم وضعه داخل حاوية شحن بحري وقام الحراس بإشعال النار تحتها!
وأما منظمة هيومن رايتس ووتش فقد نقلت في تقريرها العديد من الشهادات المماثلة وقالت إن “محتجزين سابقين تعرضوا للضرب المبرح بأسلحة وأغراض معدنية، كما تعرض آخرون للصعق بالكهرباء والتجريد من الملابس”.
ونقلت المنظمة عن أحد أهالي المعتقلين أن زار طفلاً من أسرته في أحد المعتقلات في عدن وأن ذلك الطفل “بدا مجنوناً”!
وقال للمنظمة رجلٌ كان محتجزاً في السجن المركزي بعدن “إنه ومعتقلين آخرين عُصبت عيونُهم وكُبلت أياديهم واقتيدوا إلَـى غرفة منفصلة في السجن، وإنه تعرض لصدمات كهربائية متعددة وَإنه سمع أَيْضاً الرجال الثلاثة الآخرين يتعرضون للضرب والصدمات الكهربائية. سقط أحدهم فوقه، وكان بإمكانه سماع الرجل يصرخ من الألم”.
وتحدَّث آخر للمنظمة قائلاً (إن زوجته ذهبت لزيارة ابنيهما في السجن المركزي وأخبرته زوجته بعد الزيارة أن أحد ابنيهما كان نظرُه ضعيفاً، وكان شبه فاقد للوعي. كان رأسه مصاباً بجروح واضحة، وكانت هناك علامات قيود على يديه. وقال الشاب لوالدته إنه تعرض للضرب بجسم معدني وتلقّى صدمات كهربائية. وقالت الأم إن الابن الآخر بدا غير مستقر نفسياً، ولكنه لم يتعرض للإيذاء الجسدي. وبعد أسبوعين تقريباً، اختفى الولدان تماماً).
ويقول آخر –حسب تقرير المنظمة- إنه ذهب لزيارة أحد أقاربه في مرفق احتجاز غير رسمي في عدن، وقال له قريبه إنه احتجز في قاعدة إمَارَاتية لشهور قبل نقله إلَـى مرفق الاحتجاز الحالي، وَإنه كان يستجوَب ويضرَب يومياً في القاعدة، وفقد وعيَه مرة وظل طريح الفراش.
كما روى أحد المعتقلين السابقين للمنظمة أنه تم اقتياده إلَـى أحد تلك السجون السرية في عدن، وكان هناك سجين مصاب برصاصة في ساقه وكان جرحه مليئاً بالديدان، وأن السجناء يضطرون لشرب بولهم عندما ينفذ ماء الشرب!
كانت هذه بعض الشهادات التي وردت في تقرير المنظمة لتوضح عمل “الحزام الأمني” في عدن، وطريقة إدَارَة تلك السجون الإمَارَاتية فيها، وأما قواتُ “النخبة الحضرمية” فلم تكن أقل من سابقتها في الإجْـرَام وقد أوردت “هيومن رايتس” في تقريرها شهادات مماثلة عما يحدث داخل سجون الإمَارَات في حضرموت، وفيها انتهاكات “يُحرج المرء من قولها” حسب تعبير أحد الشهود.
كما هو واضح، ليسَ من المبالغة وصْفُ شبكة السجون الإمَارَاتية في الجنوب بـ “أبو غريب”؛ لأن القليلَ من الشواهد التي وردت هنا تجعل من هذه السجون نسخةً مطابقةً لما كان يحدُثُ في العراق، ولعل كميةَ هذه السجون المعلنة والتي ما زالت مخفية، تجعل الأمر يتفوق على “أبو غريب” في الإجْـرَام والبشاعة.
*صدى المسيرة| ضرار الطيب