الخبر وما وراء الخبر

السعودية الكيان الذي أوشك أن يُنهي خدمته التاريخية

170

بقلم / صادق النابلسي

ينطبق عنوان كتابٍ للدكتور زكي نجيب محمود «مجتمع جديد أو الكارثة» على المجتمع السعودي تماماً. مجتمع يعاني على أقل تقديرٍ من تصدّعات خمسة تُشكل جميعها عوامل انهيار الكيان السعودي في المستقبل: تصدّع ديني، تصدّع قبلي، تصدّع طبقي، تصدّع طائفي وتصدّع سياسي.
فكيف إذا أضفنا إلى ذلك كله ما تورّطت به السعودية من حروب مباشرة وغير مباشرة في كل من اليمن وسوريا والعراق، وما حملته رياح المصالح الاستراتيجية والأيديولوجيات الدينية من مشاريع تقسيمية أو دمجيّة تهدد جغرافية هذا البلد، بعضها يستند إلى رؤية جيوسياسية جديدة للمنطقة تبنّتها مجموعة من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والبعض الآخر يقوم على إظهار الحد الأعلى من طموح الجماعات الإسلامية التكفيرية لا سيّما «داعش»، في سياق إجراءاتها لضم الأراضي التي تستولي عليها في دولة مترامية الأطراف تُعيد أمجاد (الخلافة الإسلامية) الغابرة. وقد نُشرت الخرائط التي ترسم ما يُشبه القدر المأساوي والمصير البائس الذي يتهدد العديد من دول المنطقة ومنها السعودية التي تواجه فشلاً كبيراً في مواجهة كل هذه الظروف والتحدّيات مجتمعة. فما الذي يمكن ملاحظته حتى نستطيع أن نربط بين ما يجري من حراكات واختلاجات داخلية وبين النتائج المتوقعة، وتكون الأحكام مستندة إلى معطيات ووقائع لا مجرد افتراضات وتمنيات؟
أولاً، في التصدّع الديني
لا أحد يستطيع أن يفهم منشأ الكيان السعودي ودوره وتفاعلاته وامتداداته في مناطق متعددة من العالم، من دون أن يكون مدركاً لطبيعة الارتباط بين المستوى الديني والمستوى السياسي. أي ذاك التحالف القديم بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب والتأثير الشديد للأخير وفكره في توجهات الدولة، وهيمنة تياره على المؤسسات الدينية الرسمية وتمكّنه من الإمساك بمواقع مؤثرة في المجتمع. لم يكن لمؤسس الدولة الأولى محمد بن سعود، أمام هذه المعادلة، أن يخرج عن تعاليم (الوهابية) خصوصاً تلك المتمثلة بشرعنة التكفير، وتسويغ منطق القوة والعنف والإقصاء والتوّسع وكل الأدبيات الفقهية والعقائدية التي تُبرر الكراهية تجاه الآخر المغاير.
أهمية المرجعية الدينية العميقة للدولة السعودية تكمن في الأفكار التي لا تنفكّ تُشكل المنطق الداخلي لسيرورة وسلوك وتفكير اليمين السياسي المتطرف في الأسرة الحاكمة، والتي تحوّلت معه (الوهابية) إلى أيديولوجيا تهدد البشرية كلها لا المسلمين وحدهم، وتثير الذعر والخوف في المجتمعات التي تنفذ إليها لا المجتمع السعودي وحده. إنّ التفسير الذي قدّمته (الوهابية) للدين الإسلامي ذو تأثير خطير في تعميق الخلافات والانقسامات بين المسلمين أنفسهم داخل السعودية، في ظل حدودٍ ضيّقةٍ للتفكير وحرية التعبير. ولشعور عدد من الإصلاحيين الدينيين أنّ السعودية (ملغومة) بهذا المذهب. وما الصورة السيئة التي أخذت تنطبع في الغرب والانتقادات الحادة التي تصدر عن الإعلام الغربي، إلا بسبب الخطاب العنصري والعدائي الذي مكّن أفراداً ينتمون لهذا المذهب من القيام بعمليات إرهابية أثارت سخطاً واسعاً في العالم كله وشكّلت ضغطاً قاسياً على المجتمع والدولة على حدّ سواء. إلى جانب هؤلاء تبرز داخل المجتمع السعودي قوى مدنيّة استقت قيمها الثقافية من الغرب وتنظر إلى الدين بطريقة مختلفة ومعاكسة لما تثيره الوهابية الشمولية ومؤسساتها من أطروحات عقائدية وفقهية لن تُفضي برأيها إلا أن تشاهد السعودية دمار نفسها. إذاً بالنسبة إلى هذه القوى، فإنّ الامتيازات والسلطات الدينية الواسعة التي يتمتع بها رجال الدين سترسو على اضطراب مجتمعي حتمي، وتعارضٍ واضحٍ في التوجّهات بين المجموعات المختلفة التي تشعر بهواجس حقيقية حول هويتها الدينية، كما سيؤدي الصراع داخل المجال العمومي والتنافس على ملئه إلى تهشّم السيستام الديني والثقافي المعمم وإلى بروز آخر يتدّبر أمر التحوّلات والأوضاع الجديدة.
ثانياً، في التصدّع القبلي
إحدى مفارقات الدولة السعودية التناقض بين هويتين متعاكستين. الهوية القبلية والهوية الوطنية. الأولى أبوية، محافظة، تقليدية، قديمة قِدم البادية. والثانية طارئة، ترمي إلى الدخول في الحداثة نظاماً وسلوكاً وقيماً. وبينما تتجه الهوية الوطنية إلى تعزيز حضورها بالانفتاح على أساليب الحياة الجديدة والتفاعل مع الأنظمة والعلوم الحديثة، تنصرف الهوية القبلية إلى ترسيخ مفاهيم وأدوات بدائية محافظة في أنماط العيش والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بالعائلة والمرأة والعادات… إلخ. وعليه فإنّ النظام الاجتماعي يتميز بتركيب اجتماعي نفسي متناقض.
فهو يتألف من خليط متضارب من العلاقات والقيم المذهبية والمناطقية والعائلية التقليدية من جانب، ومن علاقات وبنى اجتماعية مستحدثة من جانب آخر، وينعكس ذلك بوضوح في مظاهر الحداثة والعمران والمقتنيات لكن مع الاحتفاظ بالبنيّة القبلية التقليدية من دون مسّ. فقد نرى تغيّراً في الصورة ولكن الجوهر على حاله، وتتجلى مظاهر الحضارة الحديثة في بعض أشكالها المادية فيبدو المجتمع متطوراً لكنّه في الواقع باقٍ على حقيقته الأولى. مما لا شك فيه أنّ أحد عوامل التصادم المقبلة في المجتمع السعودي يكمن في التناقضات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تسببها النزوعات المتعارضة بين الانتماء إلى الوطن والانتماء إلى القبيلة. إنّ الذي يحدث الآن هو تشبث السعوديين بولاءاتهم القبلية وتقديمها وتفضيلها على الولاءات التي تنبني على أسس إنسانية أو فكرية أو وطنية، وقد ظهرت معالم ذلك بشكل خطر على الفضائيات التي انتشرت كالفطر وكل واحدة منها تجهد لإبراز الخصوصيات القبلية وتمايزاتها عن بعضها البعض، ما يدّل على فشل المحاولات التحديثية التي أرادت أن تصعد بالإنسان في هذا البلد من مستوى القبيلة إلى مستوى الأمة، وإخفاق الدولة في صهر المجتمع ونقله من حالة البداوة إلى حالة الحضارة. لذلك يعيش المجتمع السعودي أزمة تحوّل حقيقية في ظل هيمنة وسطوة الأنظمة القبلية الموازية في قوتها وحضورها نظام الدولة الرسمي. حالياً تشهد السعودية عودة خطيرة إلى العصبيات القديمة وتُرفع من جديد الرايات القبلية. وقد تكون مهرجانات الشعر ومسابقات الإبل من أشدّ المنافسات التي تبرز فيها النزعات القبلية التي تعادل في خطورتها المخدرات بحسب وصف أحد الباحثين الاجتماعيين. أمّا في الإدارة فإنّ المحسوبيات والوساطات هي الحاكمة، وآليات التوظيف تقوم على انتماء الأفراد إلى الأرومة القبلية نفسها إمّا من باب التفاخر وإمّا في سبيل تكريس النفوذ والحفاظ على الامتيازات.
بيد أنّ ذلك كله يعزز وضع التخلف بالذات، فيهدد الوحدة الداخلية وينذر بانقسامات عمودية وأفقية، ويعمل على ترسيخ الاستقطاب بين القبائل، ويخلق المناخات المؤاتية لتضارب المصالح، ونشوء قوى استقلالية تريد رسم شكل المجتمع على وحي قيمها وطموحاتها.
ثالثاً، في التصدّع الطبقي
من الصعب أنْ يُصدّق المرء أنّ دولة كالسعودية التي تعتبر من أغنى دول المنطقة، ولديها أقوى اقتصاد في الشرق الأوسط، وتملك ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم، ومليارات الدولارات من الودائع في البنوك الخارجية، ويدخل إليها ملايين المسلمين سنوياً يجعلون خزينتها ممتلئة على الدوام، يصل مستوى الفقر فيها إلى 25% بحسب بعض التقديرات غير الرسمية. أي ما يعادل 5 ملايين إنسان من أصل 21 مليون عدد سكان السعودية. والواضح أنّ مشكلة توزيع الثروة والعوائد النفطية هي التي أدّت إلى تفاقم معدلات الفقر، كما أنّ شيوع الفساد المالي والإداري بين أفراد الأسرة المالكة على نطاق واسع هو الذي يسبب حالة من السخط والتذمر خصوصاً بين الشباب العاطلين عن العمل الذين تصل نسبتهم إلى أكثر من 12%وهي نسبة مرتفعة في بلد تُهدر موارده على بذخ الأمراء وحواشيهم. ولولا بعض ما تنشره الصحافة الغربية عن هيمنة الطبقة الحاكمة على مقدرات الدولة ونمط عيشها وما تصرفه على متعها في الداخل والخارج، ولولا بعض التغريدات التي ينشرها المغرّد السعودي الشهير «مجتهد» على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» عن خبايا وأسرار العائلة الحاكمة لما أمكن التعرّف إلى حجم المصارفات المهول لحفنة أوليغارشية قليلة ترث المال وتغدقه على ملذاتها وشهواتها من دون وجه حق وبعيداً عن أي رقابة ومحاسبة قضائية.
يضرب المغرّد «مجتهد» مثالاً على ترف أحد أفراد الأسرة الحاكمة وهو الأمير محمد بن نايف خلال زياراته الاستجمامية إلى الجزائر مرات عدة في السنة مع عدد ضخم من المرافقين، فيقول: «إنّ تكلفة الرحلة الواحدة لا تقل عن 500 مليون ريال سعودي تتضمن مصاريف النقل والمعسكرات والمعيشة إضافة، للتكلفة والأهم وهو بخشيش جنرالات الجزائر». وأوضح «مجتهد»، أنّه إذا كان بن نايف يتردد 3 إلى 4 مرات في السنة، فإن تكلفة رحلاته للجزائر تتراوح بين مليار ونصف ومليارين. وأردف قائلاً: «في إحدى الليالي بعد إعداد مائدة العشاء (التي تكلف ملايين) قرر ابن نايف فجأة رمي الطعام والانتقال لمكان آخر حيث أُعدت مائدة أخرى بنفس التكلفة».
إنّ غياب العدالة الاجتماعية وتنامي الفوارق الطبقية داخل السعودية بات يهدد الأمن الاجتماعي على نحو مرعب، خصوصاً إذا ما علمنا أنّ أحد أسباب نقمة الفقراء واستعدادهم لحمل السلاح أو الانخراط في جماعات عنفية يعود إلى غياب التنمية المتوازنة وفساد الحكام. وبدلاً من أن تسعى الدولة لتوزيع المداخيل بطريقة متساوية، وترفع العوائق أمام المواطنين الحائلة دون تكافؤ الفرص، وتقضي على الإجحافات والتصنيفات المستندة إلى خلفية قبلية أو مذهبية، وتكافح الهدر المالي بجدية، وتحدّ من نفقات البذخ والترف على المسؤولين الكبار، فإنها لجأت إلى مجموعة من الإجراءات التقشفية والضرائبية التي تطال الشرائح المتوسطة والفقيرة ما يعني أنّ النزاعات المجتمعية بسبب اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء قادمة لا محالة.
رابعاً، في التصدّع الطائفي
ما تدعو إليه الحكومة السعودية في مواقفها العلنية من وحدة الشعب ومواطنيّة الأفراد ومساواتهم أمام القانون ونظرتها الرعائيّة الحمائيّة لكل من يحمل الجنسية السعودية، يقابله دعوات مناقضة من المؤسسة الدينية الرسمية عبر وسائل إعلامها المختلفة، أو من خلال المساجد والمنابر الدعوية، وحتى عبر المناهج التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات التي تتضمن تكفيراً لأتباع الطوائف التي لا تدين بـ(الوهابية) وحليّة دمائهم وأموالهم، وصولاً إلى عدم اعتبارهم مواطنين كما هو حال بعض رجال الدين المتشددين مع الشيعة. واقع النفي والإقصاء والتهميش أمر أصيل داخل المجتمع السعودي، ولم يكن يوماً مرتبطاً بظروف المنطقة والتناحرات المذهبية المتفاقمة فيها، فالطوائف الزيدية والإسماعيلية والصوفية والشيعة المنتشرة في السعودية كانت دائماً معزولة ومحرومة، ويمارس في حقها أبشع أنواع التصنيف السياسي والديني والإداري والمناطقي.
وما كان لأبناء هذه الطوائف على مدى عمر الدولة أن يشعروا أنهم مواطنون أصيلون كبقية أفراد الشعب. الشعور بالدونية والهوان والخوف شعور ملازم لكل من انتمى لهذه الطوائف.
لا حرية كاملة لهم في ممارسة عقائدهم وشعائرهم. لا إمكانية مفتوحة لدراسة بعض الاختصاصات العلمية. ليس متاحاً لهم أن يدخلوا بعض الأسلاك السياسية والعسكرية.
ثم إنّ الإحساس بأنّهم عملاء للخارج وأنّهم مراقبون من قبل أجهزة الدولة الأمنية، يُشكل مصدراً ليأسهم وغربتهم في وطنهم. لقد رسّخت (الوهابية) مجموعة من الأفكار المتحاملة على هذه الطوائف، ووفّرت بيئة ملائمة لنمو دعاة متطرفين تناصرهم شرعيّة أميريّة أو ملكيّة، وهو ما يضع فكرة المواطنة أمام التباس عظيم.
وطالما أنّ الوهابية تستكره الحوار ولا ترضى من الآخر إلا الانصياع الكامل لمشيئتها، فمعنى ذلك أنّ لا أبواب للتفاهم، وأنّ المواجهة مع هذه الطوائف (الشِركية) هي الحتمية الآتية ولو بعد حين. في الحقيقة إنّ القيادة السعودية عندما تركت للوهابية بناء التصورات والهويات عن الأفراد والجماعات الطائفية، فإنّها تكون ارتضت مواصلة الانحدار في أنظومتها السياسية وشرّعت الأبواب لا إلى التعازل الجغرافي والثقافي والديني فحسب، بل إلى توترات واضطرابات داخل سفينة يتم تخريبها وهي على ظهر بحر هائج.
خامساً، في التصدّع السياسي
ينوء السعوديون تحت وطأة سلطة ملكية استبدادية تتنكر بلبوس الدين وتزعم خدمتها للحرمين الشريفين في مكة المكرّمة والمدينة المنورة. وهي في الحقيقة سلطة تُغلّب مصالحها الشخصية على حريات المواطنين وحقوقهم الأساسية، وتُنصّب نفسها ممثلة لإرادة الله ولحقيقة تعلو على السيادة الشعبية، فتبني مجموعة من التدابير التي تحدّ من الضغوط المجتمعية، وتبثّ في الحياة العامة من الدعاية ما يناسب قداسة الحكم والملك. داخل هذا البلد فإنّ الديموقراطية والملكية تتناصبان العداء. الديموقراطية كما يقول الفيلسوف الكندي تشارلز تيلور: «هي سياسة الاعتراف بالآخر» والسلطة في السعودية لا تعترف إلا بوجودها. الآخر في نظرها هو المطيع لولي الأمر أصاب أم أخطأ، والخروج عليه كفر.
والديموقراطية هي سلطة القانون، والقانون في السعودية إرادات ورغبات ملكية حصراً.
والديموقراطية هي تنوع ثقافات وانفتاح وتفاعل بين المكوّنات والجماعات، وفي السعودية ثقافة أحادية يجب التزام كل المكونات والجماعات بأصولها ومبادئها. والديموقراطية هي حرية اختيار الحاكمين من قبل المحكومين، وفي السعودية الحكام يتوارثون الحكم أباً عن جَدّ ويُمنع على الشعب الدخول في نقاشات سياسية والجدال في شخص «اختاره الله». والديموقراطية تعني أحزاباً وتعددية سياسية، والأحزاب في السعودية شقاق وفُرقة والله يحب الاعتصام! والديموقراطية وعي بالمواطنيّة وحقوقها في العدالة والحرية والمساواة، وفي السعودية المواطنيّة تعني الولاء والطاعة للملِك. والديموقراطية تعني حقوقاً للمرأة ومشاركة في الحياة العامة، والمرأة في السعودية أَمَة مملوكة لا تقدر على شيء.

إذاً لا شكل للدولة ولا وظيفة لها إلا ما تحدده العائلة الحاكمة. لا دستور ولا قوانين إلا ما توافق عليه الذات الملكية. لا أكثريّة أو أقليّة تطالب بحقوق أو تعترض على إجراءات وممارسات لأنّه لا وجود لشيء اسمه أكثريّة وأقليّة حتى بات المواطن تحت ضربات التدجين والضغط والإكراه والترغيب والمحاباة، قانعاً باليسير من السلم والأمن، ومكتفٍ من الحرية والكرامة بالشيء الذي لا يعرضه لعسف السلطة وجبروتها.
الدولة السعودية كما أُنشئت نظام منغلق على ذاته، تأبى على أحد الدخول إليه، ولا يُسمح لأحد الاقتراب من دائرة القرار السياسي. لكن الزمن بعد «الربيع العربي» زمن تحولات وتغييرات وخرائط وغويات شخصية. فإذا عجزت القوى المجتمعية والقبلية والطائفية عن إحداث فجوة في هيكل السلطة، فإنّ المنافسات بين الأمراء ستضطلع بدور خلخلة النسق السلطوي القائم منذ عهود. إذ تتجه الأنظار في هذه المنافسات بين (المحمدين) محمد بن سلمان ومحمد بن نايف إلى استقطابات داخل مؤسسات الحكم وأجهزته الأمنية، وإلى تعبئة في النفوس ضد خصم يقيم في العقول ويتحضّر للبروز والمواجهة بشكل علني. وعلى ما تحمله هذه المنافسة من أخطار تُضاف إلى مجموعة المآزق الداخلية، ومع التفسّخ الذي يطال طبقة الأمراء الطامحين في الدخول إلى حظيرة السلطة، وتضارب المصالح جراء التعقيدات المستجدة حول صيغ التمثيل السياسي وكيفية توزيع الحصص على فروع العائلة الحاكمة، والاختلافات العميقة في مقاربة الأزمة الأخطر المهددة للكيان السعودي وجوداً ودوراً أي الحرب الدائرة ضد اليمن، ومع التعارضات الحادّة في المشهد الإقليمي والدولي وموقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه النظام السعودي، فإنّ السعوديين أمام أزمة حكم لا رادّ لها.
خلاصة
في ظل هذه التصدّعات لا يمكن التنبؤ إلا بمحرقة مقبلة يمكن لها أن تشتعل بوقود ديني، قبلي، طبقي، طائفي، سياسي. كما أننا أمام بحر هائج من الأزمات الخارجية تتلاطم فيه العلاقات والتنازعات والتسويات والمصالخ والتحالفات وتُشكل اختباراً هو الأشد على الكيان السعودي، خصوصاً مع تراجع الولايات المتحدة الأميركية عن دور الحامي إلا ضمن شروط وظروف مغايرة عن السابق. فهل سيجعل ذلك كله من السعودية بلداً يوشك أن يُنهي خدمته التاريخية. ولو عُدنا إلى ابن خلدون في عوامله لسقوط الدول، من احتكار السلطة، إلى فساد عصبيتها عندما تنتشر روح المنافسة في الاستيلاء عليها. وعندما تنهمك القيادة الحاكمة في الترف والراحة والدعة، ويضعف الإنتاج، أو بعبارة أخرى عندما تتعرض العناصر الأساسية أي (الجند، المال، العدل) إلى خلل، فإنّ الدولة، كما يرى ابن خلدون، حتماً ساقطة!