الخبر وما وراء الخبر

عناق الشهادة

255

بقلم / محمد بدرالدين الحوثي

{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}

حينما نتحدث عن الشهيد السعيد (طه المداني) – رحمة الله ورضوانه عليه – فنحن في الواقع إنما نتحدث عن قيم ومبادئ وأخلاق تمشي على الأرض متجسدة في تلك الشخصية الإيمانية.

شاب أفنى حياته في سبيل الله، وسطر بدمائه أبلغ الدروس في الشهامة والعزة والكرامة والإباء والتضحية والفداء. وهذه مفردات لا تسطر إلا بالدم، ولا تترجم إلا من خلال المواقف.

نعم، ترجل الفارس مضمخًا بدماء الشهادة، ونال هذا الوسام الرفيع، وها نحن نقيم مناسبة ذكراه بكل تعظيم وإجلال، ولكن ليست هذه هي كل القضية، فالشهيد لا ينتظر منا مجرد تعليق صوره، أو تسطير القوافي الرنانة والكلمات المسجوعة لترثيته، كلا؛ فالشهيد ليس ميتًا يبحث عن مأتم لقراءة الفاتحة إلى روحه؛ بل المطلوب من أن نتعرف على تلك الثقافة وتلك المبادئ والقيم التي تحمله إلى كل قلب وإلى كل أرض وكل عصر ليصبح أنشودة حلوة تتردد على شفاه الثائرين على مر الأيام.

إن أهم درس تلاه الشهيد – بعد أن سطره بدمائه – يتلخص في أن نفهم: كيف نموت؟ لأن من لا يعرف كيف يموت لا يعرف كيف يحيا.

كما علَّمَنا أن من يبحث عن الشهادة – بصدق – لا بد أن يعانقها يومًا ما، وأنها هي الخط السريع للوصول إلى الجنة.

الشهيد السعيد خاض العديد من المعارك قائدًا رائدًا وفدائيًا مجاهدًا ضد أعداء الله وفي سبيل الله، بعيدًا عن الأضواء متنكرًا للذات، عصيا على المغريات، عازفا عن الملذات، وسطر أروع البطولات بتواضع جمٍّ، وخلق رفيع، وسماحة عالية، وورع وعفة، وشهامة وشجاعة واستبسال، وفي العديد من صولاته وجولاته كانت الشهادة تغازله عن قرب، فتضطرم في قلبه الأشواق، ويزداد شغفه للعناق.

وفي لحظة قدسية، وبينما هو يطارد شذاذ الآفاق وحشو النفاق وشر البرية، وفي لحظة غادرة، تحلق الروح في عليائها، وتتراءى له الشهادة بجمالها وجلالها، فيحس طيبها، وتغمره أنوارها، ويشم أريجها، ويأنس بها، فتتحقق الآمال، وتبدأ مراسيم الزفاف، فيظفر بالوصال، ويعتنقان إلى الأبد، وتتجسد الأمنية، ويفوز بالسعادة الأبدية {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر}.

أما هنا، فيحمل الجسد الطاهر على وقع التكبير والتهليل، ويوارى الثرى، وترفرف على قبره راية الحق والعدالة، ولأنها ارتوت بدمه الزكي، فستظل تخفق لتعلن للأجيال انتصار الدم، وشموخ القيم، والوفاء للعَلَم، فتمثل إشعاعًا ينير الدرب للثوار، وكعبة يؤمها الأحرار، وصرخة تترجم معنى الشعار، ومسيرة تبحث عن أنصار.