القائدُ الحكيمُ والصبرُ الجميل
بقلم / حمود عبدالله الأهنومي
قلتُ سابقاً في بعض المقالات والمحاضرات: إن السيدَ القائدَ بما يقدِّمه للأمة من هدىً، وبعلمه، وحكمته، ونبوغه، وصبره، وشجاعته، وبعظيم ارتباطه بالله تعالى، وثقته العالية به – من المؤكّد أنه يشكِّلُ إحدَى ضمانات النصر، وتحققِ الأهداف، وهزم العدو، مهما رأينا في بعض تطبيقات الواقع هنا أو هناك خلافاً لهذا.
وأجزِمُ أن خطاباتِه العلنيةَ – بما تحمله من مسحة وقار، وروح حكمة، ونور هدى، ورسائلَ صريحةٍ ولموحة، وحبكة في المعنى، وقوّة في المبنى، ورزانة في الطرح، وصدقٍ في الوعد – أصبَحَت تصيبُ العدوَّ في مقتل؛ لأن قائداً لا يترُك لخصومه فرصة واحدة للتعلق بكلمة نادّة عن سياقها، أو بفكرة شاذَّة عن موضوعها لحريٌّ بأن يخافه العدو إلى درجة الاستسلام، وأن يهفو إليه القريب إلى درجة التسليم، هذا والعدو على ما هو عليه من إمبراطوريات إعلامية، وجيوش المحللين والخبراء، وكثرة شركات الاستشارات الخاصة، والعلاقات العامة، وأجهزة المخابرات.
في محاضرة التعبية العامة له رضوان الله عليه، أكَّد على الاستراتيجية القرآنية في ابتغاءِ المعتدين، والتنكيل بهم، وملاحقتِهم دائماً، وبشكْلٍ مبادِر، وفاعِل، ومستمر، وأكّد على أمرين مهمين، هما الصبر، والوعي، وأدخل تحتهما نشاطات وأعمالا وتحركات وتطبيقات كثيرة، شرَحَها في كلمته شرحا بالغا، وواضحا لا يحتاج لأي تعقيب أو شرح أو تذييل من قاصرٍ مثلي.
ومع ذلك فلا يسعُني إلا أن أجريَ على ذاتِ المنوال الذي جرى سلامُ الله عليه، وهو يتحدَّثُ عن الصبر، وعن الاستراتيجية القرآنية في ابتغاء القوم، فها هم الأعداءُ قد شنُّوا أوقَحَ حربٍ، وأفظعَ عدوانٍ، وأكثرَها وحشيةً، وقذارة، وسفالة، وحقارة، وبالأسلحة المحرَّمة، وعلى الأحياء والمدن والقرى ضدَّ شعبٍ مسالِمٍ طيبٍ وكريم، من دون سبب، فاستهدفوا النساء والأطفال، والأحياء السكنية، والمساجد، والمقابر، والأسواق، والمشافي، والمدارس والجامعات، وفجَّروا المساجدَ فقتلوا الراكعين والساجدين، وفخَّخوا السيارات في المدنيين، فصبر المجاهدون اليمنيون في كُلّ ذلك صبراً جميلاً، وثبتوا ثباتاً أسطورياً، فما استهدفوا إلا أهدافاً عسكرية، وما صوّبوا نيرانَهم إلا إلى أعدائهم المجرمين المقاتلين.
كان بإمكانهم واقعاً أن يردَّوا بالمثل، مدني بمدني، ونساء وأطفال بنساء وأطفال، وربما كان ذلك سيعجِّلُ بهزيمة العدو ماديا، وباستسلامه، لكنه كان أيضا سيعجِّل بهزيمتنا أخلاقيا وإسلاميا، وسيسلبنا فضيلة الصبر الجميل، والإيمان الصحيح.
اعتدَتْ أغنى الدولِ مالاً وأكثرُها تسليحاً وأقواها طيرانا على أفقر الشعوب مالا، وأضعفِها تسليحا، وحشد الكونُ مرتزِقتَه من كلِّ حدَبٍ وصوبٍ، وقذفت الأرضُ بمجرميها لقتل اليمنيين وقتالهم، وكانت النتيجة بحسب المعطيات المادية هو الهزيمة الساحقة لليمنيين، والهلع الفظيع، والقتل الذريع، لكنهم بتثبيت الله وتأييده صبروا صبرا جميلا، ووثِقوا من أولِ يومٍ بأن نصرَ الله قادمٌ، وأن العدوَّ في هزيمةٍ وإن عربد واستكبر، وطغى وتجبَّر، ومضت الشهور الأعوام، وهم في فشل، وخيبة، وهزيمة، بينما يكتسب اليمنيون يوما بعد آخر اليقينَ بالنصر من الله، ويتسلَّحون بالصبر، ويتدرَّعون بالمرابطة في ميادين الجهاد، والثبات في ساحات الجلاد.
كان صبرُهم الجميل ثقةً عارمةً بالموعود الإلهي المستقبلي، بنصر الله القادم، بل إن ذلك لهو الصبر الجميل بالمكانِ الأعلى، وله فيه القدَح المعلَّى.
حاصرونا براً وبحراً وجواً، ومنعوا الغذاء، والدواء، والماء والكهرباء، واشتروا العالمَ للحرب معهم، أو السكوت على جرائمهم، وأرادوا بذلك استثارة الشعب على بعضه، واضطغانِه على نفسه، فما زاد ذلك المؤمنين المجاهدين في اليمن إلا إيمانا وتسليما، وما ازدادوا من بعضهم إلا قرباً والتحاماً، وكانوا مثالاً حميداً، ونموذجاً فريداً للصبر الجميل، في هذا الزمان الوبيل.
لقد قالوا: إن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلا لله تعالى، وهل رأيتُم اليمنيين في هذه المعركة إلا يطاولون الجبالَ عزةً، ويفيضون كالبحار كرامةً، وهل وجدتم مثلهم شعبا يتقلَّب بين صروف الموت، ويسكُن بين أنياب القصف، ويستنشِق كُلّ يوم غبار الدمار والخراب، ومع ذلك لا يلجأ منهم لاجئ، ولا يهرب إلى خارج البلد هارب، وإذا هرَب منهم أحدٌ فمن بيته إلى المعركة، ومن مَتْرَسِه إلى مَتْرَس زميله، وإذا استجاز مجاهدٌ إجازة فليست إلا لمداواة جراحه، فإذا ما أبلَّ منها قليلا انطلق ولا زالت جبائرُه معلَّقة على كسوره، وكأنه الولهان العشقان، يسعى للعودة إلى مرتَع فضيلته، ومكمَن عزه ورجولته، إلى أرض المعركة، فهل هناك صبرٌ أيها الكرام يشبِه هذا الصبر، وهل رأيتُم فخرا يقارِب هذا الفخر.
لقد صبروا جميلاً على مقاساة الأهوال الشديدة، والغربة الأكيدة، صبروا على الجوع، والعطش، وصبروا على انعدام تكافؤ الأسلحة، وقّلتها، وعلى أحدث أسلحة الطيران لدى العدو، وصبروا على أذى المرتزِقة، وخياناتِهم المتكررة، ولم يزعْزِع ثقتَهم إعلامُ المعتدين الكذوب، ولا إرعادُهم وإبراقُهم الخلّب، وصبروا على الحصار الاقتصادي، وإرجاف المرجفين، وكيد الكائدين، وتربُّص المتربصين، وصبروا على مشاهدِ الدمار، ومقاساة الشدائد، ومكابدة المكائد، ومشاهدة الأحباء واحدا تلو الآخر يغادرون الحياة في ظلم شديد، ودهر عنيد، فما زادهم ذلك إلا إصراراً وإيماناً أنهم على الحق الصُّراح، والموقف الوضَّاح.
ومن جانبٍ آخَر صبر المجاهدُ المخلِص على مشرِفِه المقصِّر أو المفرِّط، وصبر المشرِف النشيط على بعض أفرادِه المقصِّرين، وصبر كلا الطرفين على قلة الزاد، ونقص العتاد، وصبرَ المجاهِد على فراق أخيه وزميله، والآخرُ على ولَهِ أمه به، واحتياج أبيه إليه.
وصبروا على السهر في الليالي الطويلة، وعلى الجوع والعطش في الأوقات العصيبة.
صبروا على توطيد قواعد الأمن في المدن، والأرياف، وعلى الثبات أمام موجات المؤامرات والإرجاف، التي يشنها الأعداء من الداخل، ويموِّلها الأعداء من الخارج، فحرب اقتصادية هنا، وافتعالُ مشاكلَ اجتماعيةٍ هناك، وإثارة لمسائل فكرية في الشرق، وبعث نعرات طائفية أو مذهبية في الغرب، وكل ذلك يمر على يمن الصبر الجميل كأن لم يكن، أو كأنه بردٌ وسلام، وفضلٌ وإنعام.
وما ذلك إلا لخيرٍ أراد الله أن يسوقَه لمعاشر اليمنيين أهلِ الحكمة والإيمان، والفقه والإحسان، ما ذلك إلا لأن قيادتهم تلك التي تظهر بتلك الحكمة، في ذلك الثوب من الوقار، وذلك العمق في الرؤية، وتلك المثابرة على التربية، وصدق الله تعالى إذ يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
لم يكن اليمنيون الأبطالُ في هذا ببدع في الأمم، فهؤلاء أجدادهم أنصار الإمام علي عليه السلام في بعض أيام صفين اشتدت الحرب عليهم، فثبت أهل الشجاعة منهم، وتميَّز الأبطال عن سواهم، وكان الأشتر النخعي اليماني قد مرّ بقائدٍ يماني آخر يدعى زياد بن النضر الحارثي اليماني أيضاً قد حمل الراية، وتوسط الأعداء، والتحم بهم، بدلاً عن يمانيٍّ سبقه، هو عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، رآه وهو لا يزداد عليهم إلا ضراوة، ولا يتحرك ضدهم إلا استبسالا، حتى استُشْهِد، فقال الأشتر: (هذا وَالله الصبرُ الجميل، هذا وَالله الفعل الكريم)، ثم مضى يسيراً حتى مروا عليه بيماني آخر، وهو يزيد بن قيس الأرحبي اليماني وقد استُلْحِم وجرِح، فحملوه وأخرجوه، فقال الأشتر: مَن هذا؟ قالوا: يزيد بن قيس، لما صُرِع زياد بن النضر الحارثي، دفع رايته لأهل الميمنة فقاتل تحتها حتى صرِع، فقال الأشتر: (هذا وَاللهِ الصبرُ الجميل، هذا وَالله الفعلُ الكريمُ، ألا يستحيي الرجل أن ينصَرِفَ ولم يُقْتَل، أو لم يُشْرِف على القتل في مثل هذه اليوم).
إيهٍ يا أشتر.. إن ذلك الصبرَ الجميل في المعركة، فلا ينصَرِف منها المقاتل إلا شهيدا، أو جريحا جَرحا لا يستطيع معه الحراك، يعرِفه اليوم أحفادُك، وأحفادُ زياد بن النضر، وأحفاد سعيد بن قيس الهمداني، وأحفاد يزيد بن قيس الأرحبي، تحت لواء حفيد إمامك، أمير المؤمنين، إمام المتقين، وسيد المجاهدين، وسل عن الصبر الجميل، في باب المندب العز، وفي المخا البطولة، وفي ميدي العزة القعساء، وفي صرواح الكرامة الشمَّاء، وسل عنها في عقبة لودر القريبة من أرضك النخع التي تنتمي إليها، لقد أعادوا فيها الصبرَ الجميلَ جذَعا، وارتاده اليمانيون الأبطال اليوم صفوًا من غير كَدَر.
سَلْ عنها أيَّ مكانٍ يمانيٍّ تجِدْ فيه صبراً جميلاً يزْدَهِر، وثباتا كريما يقوى ويُثمِر، كما لا نستحي أن نقول لك أيضاً: إنه للأسف أيها الصنديدُ اليمانيُّ الأول فعندنا كما كان عندكم حكاية لمرتزِقة ينتسبون زورا إلى يمنيتنا، لكنهم قد نفر نافرهم إلى (سيد الأذناب) في عصرنا، كما نفر بعض منهم إلى (سيّد الأذناب) في عصرك، ومن وراء ذلك يردِّد الأبطالُ زواملَهم، ويقول قائلهم كما كنتم تقولون:
تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل.. وليس على ريب الزمان معوّل
إنهم ينطلقون مما أوصى به سيدُنا موسى عليه السلام قومَه: (اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، ويستجيبون لداعي الحق، وهو لا يفتأ يحرضهم على القتال، والتعبية العامة، كما قال تعالى لجده النبي الكريم صلى الله عليه وآله الطاهرين، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ).
إن الصبر لجميل؛ لأن بدايته الصعبة في نهاية النصر جميلة، ولأن اجتيازه جميل، ولأن الثقة فيه بالله تعالى جميلة، ولأن خاتمته جميلة، وذكرياته جميلة، وما أجملَ فشلَ أعداء الله عنده، وهزيمتهم فيه، وما أجمل أن يجد الإنسانُ هدفَه بعد مشقةٍ وصعوبة، وأن يحقِّق بغيتَه بعد دورةٍ امتحان صعب، واختبارٍ عسِر، تتزكَّى فيها النفوس، وتتطهَّر القلوب، وترتقي العزائم، وتُخْتَبَر الإرادات، وتُمَحَّصُ النيات، وكل ذلك جميل من الله تعالى.
ما أجمل أن نكون في سفينةٍ ربّانها وقائدها مثلُ هذا السيد القائد، وما أقربنا من النصر بعون الله تعالى.