الأخلاق الأميركية تضيق بالسلام في سوريا
بقلم / عبدالستار قاسم
من الصعب أن يتوصّل المُحلّل السياسي إلى استنتاجات صحيحة إذا لم تكن مقدّمات جدليّته صحيحة. وهذه المقدّمات هي الافتراض الذي ينطلق منه المُحلّل، فإذا كان الافتراض غير صحيح فإن كل الاشتقاقات التي تنبثق منه غير صحيحة، والعكس صحيح. والمُحلّل لن يكون مُحلّلاً إذا لم يكن قادراً على ربط العلاقات الجدلية بعضها ببعض. فمثلاً ماذا يقول مُحلّل حول خطاب رئيس دولة اعتاد سفك الدماء عن السلام وحبه للسلام والوئام. كثيرون في الساحة العربية يأخذون بالاعتبار آخر كلمات الرئيس من دون أن يأخذوا بسجله الشخصي. وحتى يستطيع ربط العلاقات الجدلية لا بدّ من أن يكون عالماً في المنطق والفلسفة. ولهذا تجد القادة السياسيين في الساحة العربية أغبى الناس وأقلّهم قدرة على الإدراك العلمي والفهم. وحتى يكون المرء قادراً على تطوير القدرات المنطقية والفلسفية لا بدّ من أن يكون تفكيره رياضياً لأن الرياضيات منطق بكلمات والمنطق رياضيات برموز. ولهذا كنت قد نصحت الإخوة السوريين منذ العام 2001 بضرورة إحداث تغييرات سياسية، ونصحت الفلسطينيين بعدم توقيع اتفاقات مع الصهاينة لأن ذلك يقود إلى اقتتال داخلي. وذات الاستنتاج نقوله للذين يبحثون عن سلام في حارة أميركا.
قالت مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة سامنثا باور، إن انتهاء معركة حلب لا يعني أن الحرب في سوريا قد انتهت. لم تقل المندوبة هذا الكلام بصورة عفوية أو عابرة، لكن كان من الواضح أنها قالته عن وعي وإعداد مسبقين. المفروض من مندوبة دولة عظمى وعضو دائم في مجلس الأمن أن ترّحب بانتهاء معركة حلب والجنوح نحو السلام لأن مسؤولية مجلس الأمن حفظ السلام والأمن الدولييين. على عكس وظيفة الدولة العظمى التي تشكّل قطباً عالمياً أساسياً، تبشّر مندوبة أميركا باستمرار الحرب ومعاناة الشعب السوري الذي ضاقت به الأرض. ولولا أن المندوبة قد أخذت تعليمات لتردّدت في نطق العبارة. لكن الأهم من التعليمات هو الأخلاق الأميركية المبنية في الثقافة الأميركية حديثة العهد مقارنة بثقافات الأمم الأخرى. تأسّست الثقافة الأميركية على السباق على الذهب، وعلى المنافسة الشديدة بين الأفراد والجماعات والتي كانت تصل درجة الحروب في عدد من الحُقَب التاريخية الأميركية القصيرة. وتبلورت الثقافة الأميركية حول عقلية الكاوبوي التي تقوم على البلطجة والفهلوية والإرهاب. فإذا كان السلام في أيّة بقعة من الأرض يتم من دون فوائد مالية واقتصادية ولا يؤدّي إلى هيمنة أميركا فإنه لن يكون سلاماً حقيقياً ولا بدّ من مراجعته ليتناسب مع الأخلاق الأميركية. السلام في سوريا لا يحقّق الأطماع الاقتصادية الأميركية ولا يبقي سوريا تحت الهيمنة الأميركية ولا بدّ من تخريبه أو إطالة أمد الحرب بطريقة تنسجم مع الرغبات الاستعمارية الأميركية.
وما يؤكّد تعمّد وإعداد عبارة السيّدة المندوبة هو أن الولايات المتحدة أنهت الحظر المفروض على توريد السلاح إلى سوريا. وحتى نكون على بيّنة، أميركا لم تفرض حظراً على توريد السلاح إلا للجيش السوري، وهي استمرت بتزويد المسلّحين بالسلاح مباشرة أو عبر تركيا ووكلائها العرب في الخليج والأردن. لم نكن نصدّق أن أميركا كانت جادّة أبداً بوقف توريد السلاح بخاصة أن هذه مسألة مهمة لاستمرار العديد من مصانع الأسلحة في عملها. قتل الناس عملية استثمارية للعديد من الشركات وهي عملية استثمارية للحكومة الأميركية نفسها من ناحيتين: من ناحية، ترتفع قيمة الضرائب التي تُجبيها أميركا من الشركات كلما زادت مبيعاتها، ومن ناحية أخرى، يبقى العمال في مواقع العمل من دون أن يشكلوا ضغطاً على الحكومة من ناحية فُرَص العمل. حروب أميركا كما حروب كل الدول الاستعمارية تجارة مربحة، ولا نغترّ بالتصريحات الخاصة بحقوق الإنسان والمحافظة على حياته. فكلما كان القتل أكثر كانت الأرباح أكبر. وقد خبرنا هذا الأمر في المنطقة العربية الإسلامية جيداً. الحروب في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن تدرّ أرباحاً مضمونة وسريعة، بينما الاستثمار من أجل تحسين أوضاع الناس المعيشية يتطلّب الكثير من التخطيط والتفكير والتعب والإنفاق. فضلاً عن أن أميركا لا تتكفّل دائماً بتكاليف الحروب، ومنطقتنا تشهد أننا نحن العرب نموّل حروب أميركا من أجل قتل أبنائنا واستنزاف طاقاتنا الاقتصادية والمالية. ولينظر المتتبّع إلى سلوك أميركا في العراق وكيف تيسّر للمسلحين الفارين من الموصل الوصول إلى سوريا.
أميركا ستستمر بتوريد السلاح إلى سوريا عبر بعض العرب، وهناك في سوريا العديد من المسلحين المنتشرين في مواقع سورية كثيرة وما زالت لديهم القدرة على القتال. ما زال المسلّحون يتواجدون في الرقة وإدلب وريف حماة وبعض ريف حمص ودرعا والقنيطرة، وهم يحاصرون أجزاءً من دير الزور، والفوعة وكفريا ومناطق أخرى غرب حلب وشمالها. وإذا تم دعمهم بالسلاح بخاصة الفتّاك منه فإنهم سيستمرون في إشغال الجيش السوري. وهذا ما تريده أميركا. لكن أميركا لن تورّد أسلحة الآن لأنه في ظل قوة الاندفاع التي يتمتّع بها الجيش السوري لن تكون الأسلحة إلا هدية للجيش. وهي ستنتظر حتى تطمئن أن أسلحتها لن تقع بيد الجيش السوري وإنما توقع بالجيش السوري.
منذ بداية الأحداث في سوريا، تعمّدت أميركا إقامة توازن عسكري بين الجيش السوري والمسلّحين لكي لا يتمكّن أيّ منهما من حسم الحرب لصالحه. أميركا لا تريد بقاء الرئيس بشّار الأسد، وهي لا تريد أيضاً لـــ “الإسلاميين” أن يحكموا. لا تريد الأسد لأن سوريا بقيت هي الدولة العربية الوحيدة التي تقول لا للأميركيين، وهي التي رفضت الانصياع للشروط الإسرائيلية لعقد اتفاقية صُلح، وهي التي بقيت تقضّ مضاجع جامعة الدول العربية. سوريا بقيت مصدر نكد وقلق يعرقل المشاريع الأميركية والصهيونية في المنطقة. وهي لا تريد لــ “الإسلاميين” أن يحكموا لأنها لا تأمن غدرهم. سبق أن قام الأميركيون بالتعاون مع “عملائهم” العرب أن أقاموا تنظيم القاعدة لكنه انقلب عليهم وفجّر برجي التجارة العالمية وجرّهم إلى حرب مكلفة في أفغانستان. وفي ذات الوقت لا يتوفّر خيار ثالث يمكن أن يكون مقبولاً على الساحة الداخلية ولدى الدول الغربية. قد يكون قائل إن الجيش الحر كان يشكّل خياراً. هذا غير صحيح لأن الجيش الحر بقي محدود القدرات والطاقات وأعداده لم تكن كفيلة بإسقاط النظام حتى لو تم تزويده بمختلف الأسلحة المتطوّرة.
الخيار الأميركي والأوروبي عموماً كان تدمير سوريا كدولة وكبنى تحتية حتى لا تقوم لها قائمة على مدى عشرات السنوات. إذا تم تدمير سوريا فإن الدور سيأتي على حزب الله وعلى المقاومة الفلسطينية في غزّة وستبقى إسرائيل هي سيّدة الموقف وستجول وتصول في الساحة العربية كيفما تشاء. رأس المقاومة العربية مطلوب أميركياً وغربياً وإسرائيلياً، وهذا لا يتأتّى إلا إذا شلّت سوريا فيتوقف المدد عن حزب الله ومختلف قوى المقاومة. ولهذا سمعنا التهديد المستمر لحزب الله من قِبَل سوريين مناهضين للنظام منذ اليوم الأول لانطلاق أعمالهم في مواجهة النظام وقبل أن يتدخل الحزب في المعارك الدائرة. فضلاً عن أن تدمير الدولة يعني قطع رجل إيران في سوريا فلا يعود لها مؤيّدون من العرب إلا مجرّد أفراد. وهذا ما تصرّ عليه إسرائيل. إسرائيل تريد قطع دابر حزب الله وإخراج إيران من سوريا حتى لا يعود لها أيّ تهديد استراتيجي في المنطقة.
وتدعيماً لهذه الجدلية يلاحظ كل العالم كيف تتملّص أميركا من اتفاقياتها مع الروس بشأن سوريا وبالتحديد بشأن حلب. لقد توصّل الطرفان إلى اتفاقيات متكرّرة حول فتح الممرات الآمنة في حلب، وحول خروج المسلّحين من المناطق التي يسيطرون عليها، وحول التنسيق في ما بينهما في الجو حتى لا تصطدم طائرات الطرفين في قتال جوي. على مدى أشهر يتمطّى الأميركيون من دون أن يكونوا جادين في تنفيذ أيّ اتفاق، ويبدو أن هناك عمارات وبيوتاً في حلب بقيت صامدة ويريدون تدميرها. كل بيت ثابت في مكانه يشكل رصيداً للحكومة السورية، والأفضل أن يتم تصفير هذا الرصيد. لقد منّت أميركا المعارضين بالدعم الوفير فهاجوا وماجوا وظنّوا أنهم منتصرون. وكل ما تم جنيه في سوريا هو الدمار وسفك الدماء والتهجير.
اقترف المعارضون منذ البدء خطيئة كبيرة في استدعائهم للدعم الخارجي من دون أن يميّزوا بين أعداء الأمة العربية. ووصل بهم الحدّ وما زال أن يطلبوا الدعم من الكيان الصهيوني، وأن يشيدوا بمواقف بعض المسؤولين الصهاينة ويباركوا لهم قصف مطار المزّة. كأستاذ في فلسفة السياسة، توجّهت مراراً نحو الدكتور برهان غليون لأحذّره من الاستعانة بالأجنبي، لكن العناد غلب التقييم العلمي للأمور. ظنّ غليون ومن أتى بعده من قادة للمعارضين أن النصر خلف الزاوية وهو آت لا محالة. بقي الظنّ وخابت الآمال وانهارت التمنيات. ومن المفروض أن المعارضين قد استوعبوا الدرس بأن أميركا دولة لا يُعتمد عليها، وهي لم تكن صادقة يوماً مع إصدقائها إلا من الكيان الصهيوني. ويبقى من المهم ألا يستمر المعارضون باستفزاز الفلسطينيين والعرب بمناشداتهم للكيان الصهيوني لمدّ يد العون. كل من يتحالف مع الصهاينة ويعترف بالكيان الصهيوني ويطبّع معه ويلقي عليه تحية ولو غير مقصودة يخرج من أمّة العرب.
نقلا عن الميادين نت