من صهيون إلى الحجاز
بقلم / عبدالله زغيب
قبل نحو مئة وعشرين عاماً، لمعت في ذهن السلطان عبد الحميد الثاني (أو أحد مستشاريه)، آخر حكام الخلافة العثمانية، واحدة من أكثر أفكاره (على قلّتها) حداثة ونباهة، إذ صمم على إنجاز خط سكك حديد يربط العواصم الإسلاميّة المقدسة بعضها ببعض، يمر بمنطقة الشام وصولاً إلى الحجاز. يومها بدت الفكرة ولاحقاً المنجز، بمثابة رسالة قوية من السلطنة للغرب، مفادها أن «الرجل المريض» ما زال قوياً وقادراً على إنتاج مشاريع إنشائية ضخمة، وأنه يفكر انطلاقاً من خطط مستقبلية طويلة الأمد. لكن آلية تنفيذ المشروع كقبول العثمانيين بالتبرعات لإنجازه، أظهر مدى تغلغل «المرض» في ثنايا الإمبراطوريّة، وهذا موضوع آخر. لكن الأساس هو أن المشروع كان جزءاً أساسياً من الدعاية المضادّة المنتجة في الآستانة، إضافة إلى دوره المهم في ربط الشام بشبه الجزيرة العربية، وإنعاشه التجارة والسياحة الدينية خلال سنوات عمله القليلة.
في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة» (Seven Pillars of Wisdom)، يسرد توماس إدوارد لورنس أو «لورنس العرب» ما يعدّه أبرز المنجزات البريطانية على طريق تهشيم الدولة العثمانية، اعتماداً على العناصر العربية. وقد حظي تدميره خط الحجاز بالجزء الأكبر من عمليّة التسويق المكثفة في أوراق المنتج «الاستعماري» ذاك، خاصة أن الجزئية هذه كانت المبنى الأساس في عمليّة تحويل الكتاب إلى فيلم سينمائي من بطولة أنتوني كوين وعمر الشريف وبيتر أوتول. فتلك السكة المحطمة بفعل الشحنة الإنكليزية المتفجرة، كانت بمثابة إعلان موت الخلافة ودخول شبه الجزيرة العربية عصر «الاستعمار السلس» أو «الرعاية» القويّة بالحدّ الأدنى، بعد استكمال عزلها عن الشام وتركيا بطبيعة الحال. لكن كي لا يسوّق الكتاب مجدداً في الاتجاه الخطأ، يكفي ما نقله الكاتب والأديب البريطاني الراحل إدوارد غارنيت عن رسالة لصديقه «لورنس العرب»، قال فيها «إن كتابي مهزلة لا تستحق أن تُقرأ».
بعد 111 عاماً من توقفه التامّ، أعادت إسرائيل إحياء المشروع بجزئيه خط حيفا ـ بيسان. وقد يبدو الأمر عادياً للوهلة الأولى، خاصة مع حديث وزير المواصلات الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن تسهيل الخط الجديد لعملية التنقل الداخلي، وكذلك تسريعه عمليّة الوصول الى المركز الاقتصادي والسكاني لفلسطين المحتلة. لكن بالتوازي مع التصريحات التقنية والتسويقية تلك، كان للمدير العام لشركة قطارات إسرائيل بوعز تسفرير تصريح من نوع آخر، حمل انفتاحاً واضحاً على تطوير السكة، وبالتالي ربطها بالمحيط الإقليمي الذي لا يمكن في الواقع الحالي وكذلك المستقبلي المنظور، إلا أن يكون باتجاه الجنوب، خاصة أن «الطوق» الشمالي ما زال يعلن العداء للإسرائيليين حتى الساعة. فالرجل قال إن خط السكك سوف يربط ميناء حيفا بجسر الشيخ حسين في الأغوار الشمالية، من ثم يواصل مسيره إلى الأردن، حيث مدينة إربد وصولاً إلى العاصمة عمَّان، مضيفاً أنه سيخدم سكان المنطقة من خلال تعزيز عمله في السنوات المقبلة.
على هذه الشاكلة تسيّر إسرائيل عجلة التطبيع من دون انقطاع، ومن دون تأثر بتشعب العلاقات في المنطقة. كما تعمل في موازاة ذلك على تحضير أرضية ناجعة لإنتاج تطبيع متكامل في اللحظة التي تنضج فيها الظروف، يخرج العلاقات العربية ـ الإسرائيلية من قمقمها، ويحوّل أفكار التلاقي بين الأنظمة وإسرائيل الى آليات عمل منجزة أو شبه منجزة. على هذا المنوال، فإن الإعداد الإسرائيلي لعدة التطبيع، أصبح أمراً حيوياً في قراءة المقبل على المنطقة من «تحديث» في سلم أولوياتها وطبيعة اشتباكاتها، وصولاً إلى تغيير جذري في التخندق شبه التاريخي المرتكز على تجليات مرحلة ما بعد نكبة فلسطين، تحديداً المرحلة التي تلاشت فيها حاجة دول المنطقة لاعتماد «الحياء» في إدارتها ملف التطبيع.
يشكل خط الحجاز مدخلاً محتملاً للديبلوماسية الإسرائيليّة إلى شبه الجزيرة العربية. فهو قد يتحول ضمن سياق تسويقي غربي وعربي مشترك، إلى نموذج دولي «محبب» للتقارب العربي الإسرائيلي بمعزل عن أي اعتبار آخر، خاصة أنّ تدمير الخط من قبل الاستعمار البريطاني خلال الحرب العالميّة الأولى، جاء بمثابة إعلان غربي خالص للسيادة على منطقة شبه الجزيرة العربيّة بعد فصلها عن الشام ومراكز الثقل هناك. فيما باتت الحاجة اليوم لإعادة وصلها عملاً بالاتجاه نحو تفعيل الانخراط الخارجي لبعض الأنظمة العربية، وتحويله الى سياسية علنيّة تفضي في نهاية المطاف إلى تطبيع متكامل. في هذا السياق جاءت التحركات التي شهدتها مرحلة «الربيع العربي»، كاللقاءات المشتركة بين ساسة وعسكر عرب من الصف الثاني أو مبعوثين «مضمرين» مع نظراء لهم من الإسرائيليين، الأمر الذي أسهم في إعادة إنتاج خطابة عربية جديدة في مواجهة قضية التطبيع، ترسخت ملامحها في حملة الساسة العرب «المتباكية» على شيمون بيريز بعد موته.
لم تعد إسرائيل والدول العربية الصديقة أو شبه الصديقة قادرة على إخفاء حاجتها إلى مدّ الجسور أو «السكك» في ما بينها، للخروج بواقع جديد يسهم في تعزيز أدوات القوة الإسرائيلية التي تضمن كبحاً وكبتاً إضافيين للعناصر العربية الصاعدة، التي تعمل في ظل العناوين الأساسية للصراع العربي الإسرائيلي، في مقابل حاجة عربية نظاميّة لإعادة هيكلة عناصر قوتها المرتكزة أساساً على الانخراط الأميركي الدائم، والاستعاضة عن ذلك بسلّة تحالفات جديدة ظهرت جليّة في الانفتاح السعودي على تركيا «الإخوانيّة»، برغم العداء الكبير الذي تعلنه الرياض لتنظيم «الإخوان المسلمين»، وكذلك التقارب من إسرائيل.
المملكة العربية السعودية بما تمثله من رافعة للعرب «المتأخرين» القادمين من خلف الخطوط سعياً وراء التطبيع، مهدّت للمقبل من تحالفات خجولة (حتى الساعة)، عبر فتح المجال الإعلامي أمام وسائل الدعاية الإسرائيلية، من خلال رفع الحجب عن عدد من المواقع الإلكترونية الإسرائيلية ومن بينها صحيفة «جيروزاليم بوست»، في مقابل تعزيز الخناق على وسائل الدعاية المقابلة، كحجب القنوات السوريّة والقنوات الإيرانية الناطقة باللغة العربية إضافة إلى مئات المواقع الإلكترونية السوريّة والعراقيّة، وكذلك قناة «المنار» وموقعها الإلكتروني التابعان لـ «حزب الله اللبناني». وهذا يعني مباشرة أن عمليّة مدّ «السكّة» لربطها بإسرائيل قد بدأت بخطوات غير بطيئة، بانتظار اللحظة المناسبة التي تلتقي خلالها سكك الطرفين في أرض «وسطيّة» متمثلة بالأردن.
نقلا عن جريدة السفير