الخبر وما وراء الخبر

يوم في الجبهة.. (قصة واقعية) للقاصة أسماء الشهاري

290
  • يوم في الجبهة..

(قصة واقعية) د.أسماء الشهاري

كنت أشعر أن حياتي فيها الكثير من الراحة و الرفاهية.. لكنني قررت أن أفارقها و أن أترك الأهل والأصدقاء و أذهب إلى عالم الارتقاء بعيداً عن كل تلك السعادة الدنيوية.. حيث السعادة المعنوية.. لقد قررت أن أذهب إلى الجهاد و أن ألتحق بركب المجاهدين و أُسخِّر حياتي لذلك..

بدأت حكايتي مع هذه الرحلة التي كانت غاية في الجمال و لها مذاق خاص لم أعرفه من قبل على الرغم من كل المشقة و التحديات.. كنت ضمن مجموعة من أخوتي المجاهدين حيث سرنا مشيا على الأقدام لمدة ثلاثة أيام متتالية لم أشعر فيها بالتعب على الرغم من أني كنت في سن الخمسين.! كنت أشعر معنوياً و جسدياً أني في العشرينات من العمر.. هناك في الجبهة لا تشعر بالساعات ولا بالأيام عندما تكون متوجهاً لله بكل جوارحك.. كنّا نمشي ليلاً و في النهار نقوم بالتدريبات في أماكن محددة لذلك..

اشتدت المعارك بعد ذلك حيث خضناها كأسود ضارية و ألحقنا بالعدو هزائم متتالية و خسارات فادحة في الأنفس و العتاد.. على الرغم من أسلحتنا المتواضعة مقابل ما يمتلكه من ترسانة عسكرية.. لكنهم و لجبنهم و خستهم و كعادتهم كلما خسروا في الميدان و فرّوا أمام بطشنا و سطوتنا كالجرذان.. اتجهوا نحو القصف بالطيران.. كانت طائرات الأباتشي تُحلِّق بكثافة في المنطقة حيث كان القصف كثيفاً و عنيفاً.. لكنها لم ترهبنا و لم توهن عزائمنا التي كانت تفوق صوت هديرها بكثير.. و لكم كانت ترتعد فرائصها من أصوات بنادقنا..! حينها انقطع عنّا المدد.. فقررنا الثبات والصمود بما تبقى لدينا من بضع مأكولات خفيفة و معلبة.. لكننا اكتشفنا أننا محاصرون..! استمر الحصار علينا لعدة أيام أعاننا الله فيها على الثبات رغم كل شيء.. كانت المعارك خلالها شديدة.. لكنها هدأت بعد ذلك و استمر الحصار حين اكتشفنا نفاد الطعام و نفاد الذخيرة من السلاح.!

تم تبليغ رسالة لجميع المجاهدين في الجبهة بالانسحاب.. لكنها لم تصل لي و لرفيقي المجاهد الصابر أبو الأشتر..

لم نكن نعرف أن بقية المجاهدين قد انسحبوا، عندها قال لي :يا أبو أحمد والله أني سأثبت في مكاني و لن أولي الدبر حتى يكتب الله لي النصر أو الشهادة.. فقلت له :و أنا كذلك يا صديقي..

دخل علينا الظلام و نحن نكاد نهلك من شدة الجوع و العطش و إذا بصاروخ يسقط قريب جداً منّا.. حينها لم نستطع الحركة أو الانتقال من شدة الضغط و الغبار و ظلام الليل و قررنا الانتظار حتى انبثاق الضوء..

في اليوم التالي.. قرر رفيق جهادي أبو الأشتر أن يذهب بحثا عن الماء من سايلة يذكر أنها تقع قريبا من المنطقة أو لعله يجد شيئا من المؤونة التي كان يتم توزيعها في أماكن متفرقة من الجبهة.. أما أنا فلم أستطع الذهاب معه لأني كنت أشعر أني أكاد أموت من شدة التعب..!

قال لي : إنه سيعود بشيء من الطعام والشراب أو المؤونة و أنه لن يتأخر.. و لم أكن أعرف أنها آخر اللحظات التي ستجمعني به..

تأخر صديقي في العودة و أنا في حالة من الإرهاق الشديد.. كانت عيناي تطالعان إلى مكان ذهابه علّها تكتحل بطلته البهية.. و بعد ساعات و بينما أنا كذلك رأيتُ مجموعة تتقدم نحوي.. ابتسمت ابتسامة خفيفة سرعان ما زالت من تلك الرايات السوداء و الوجوه المتجهمة.. عرفتُ أنهم الدواعش.. كنت أمتلك سلاحي الشخصي لكني لم أتمكن من حمله بيدي من شدة الإعياء و العناء..رغم منظرهم القبيح و كأنّهم رؤوس الشياطين إلا أني شعرت بشيء من السكينة تتسلل إلى نفسي بهدوء و غفوت إثرها غفوةً قصيرة لم أفق إلا و أنا بين يدي أولئك الأوباش و سلاحي لديهم.. عرفتُ حينها أني وقعتُ في الأسر.. و الحمد لله،،

بعد أن تم الإمساك بي، قاموا بسكب دلو من الماء علي لكي أستعيد وعيي ، و قالوا لي :أنت الآن في يد المقاومة.. فقلت لهم:أنا مجاهد في سبيل الله قد سلمت و أوكلت أمري إليه فافعلوا ما تشاءون.. أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله..

ربطوا يداي إلى الخلف و حاولوا أن يجعلوني أقف و لكنني لم أستطع.. فقاموا بسحبي إلى السيارة بكل قسوة و هناك أعطوني القليل من الشراب حتى أستعيد وعيي و من ثم آخذوني إلى الضابط المسئول و الذي بدأ بالتحقيق معي من فوره.. بدأ الاستجواب وأنا على تلك الحالة و حالما ذكرت اسمي و عرفوا أنني هاشمي، قالوا بتهكم و ازدراء :هذا قنديل من قناديل صنعاء..

حاول المحقق أن يحصل على معلومات عسكرية، فقلت له :أنا مجاهد ولا أملك سوى البندقية..، لكنه قام بطرح عدد من الأسئلة علي : هل أنت قناص؟ حرس جمهوري؟ مشرف؟ ……… إلخ، و غيرها العديد من الأسئلة.. لكنني لم أجب عليها بشيء.. و في هذه الأثناء دخل رجل طويل و عريض و له لحية طويلة إلى غرفة التحقيقات، و قال :هذا الحوثي الرافضي اقتلوه..! ثم التفت نحوي بوجه عابس مقطب الجبين قائلاً:أنتم تسبون الصحابة و تسبون أم المؤمنين عائشة و تقاتلون أهل السنة، قلت له :لم نلعن أحد.. نحن نلعن اليهود والأمريكان و صرخت بالشعار.. قبل ذلك كانوا قد وضعي أمامي شيء من الطعام لكي أبقى على قيد الحياة و لكي يستطيع جسدي المنهك أن يتحرك معهم.. لكن ذلك الضابط سارع إلى إخراج خنجر و كاد أن يقتلني به.. و لم أستطع بعدها أن أتناول شيء من ذلك الطعام..! ثم قال بكل رعونه :خذوه و ارموا به في الصحراء لكي يلتقطه داعش والقاعدة مُدعياً أنهم من المقاومة و أن لا علاقة لهم بهم.. و من لهجته عرفت أنه إماراتي و بجواره اثنين من السعوديين ممن يتابعون عمليات ما يسمون أنفسهم بالمقاومة و من ثم قام بتوزيع المال على كل من في غرفة التحقيق..!

لم ينتهي التحقيق معي من قِبل ذلك الضابط الإماراتي البغيض حتى جاء أحد الضباط اليمنيين من المرتزقة ثم قال لي بصوت الناصح المتعجب: يا حج أتقاتل و أنت في هذه السن من أجل السيد و عفاش؟ و من أجل إيران تدخل اليمن؟ فقلت له:والله لا أرى إيرانيين، و ما أرى إلا سعوديين و إماراتيين كالذين نراهم أمامنا الآن.. و فجأة تحول ذلك الناصح الوديع إلى ثور هائج و قام بضربي و ركضي حتى وقعت على الأرض، و قال ? اذبحوه)

و ما هي إلا دقائق قليلة حتى رأيت أسرى آخرين من أخواني المجاهدين قاموا بالتحقيق معهم بنفس الطريقة و تلقوا نفس الضرب و الشتم.. و كان القرار بأن يتم أخذنا جميعا فوق طقم إلى الصحراء لكي تستلمنا القاعدة هناك..

و بكل وحشية و قبح و بتجرد تام من معاني الإنسانية و قيمها.. قاموا بفتح تسجيل فيديو و جعلونا نشاهد طرق مختلفة من مشاهد للذبح لكي نختار طريقة الذبح التي نود أن نقتل بها!!؟

و نحن على تلك الحالة من الذهول الشديد قاموا بربط أيدينا إلى الخلف و وضع القيود على أقدامنا و ربطوا أعيننا لتبدأ قصة جهاد جديدة.. كلما أتذكرها أقول أنها كانت بداية مأساة و معاناة حقيقية اسأل الله أن يكتب أجرها..

أثناء نقلنا كنّا نتلقى الضرب و الشتم و نحن مكبلين الأيدي والأقدام و معصوبي الأعين.. و هكذا حتى وصلنا إلى الصحراء حيث تم نقلنا من الطقم إلى شاحنة.. و نحن لا نعرف ماذا سيكون مصيرنا و نتوقع تسليمنا للذبح في أي لحظة..

تم سحبنا و رمينا كالقطيع إلى الشاحنة بعضنا فوق بعض و التي كان فيها أسرى آخرين.. لم نعرف ذلك بسبب الغطاء على أعيننا لكننا شعرنا عندما تم رمينا فوقهم..!

بينما نحن في حالة الرعب هذه شعرت بيد العناية الإلهية تتدخل مجدداً.. حيث شعرت بفيض من الرحمات الإلهية و بسكينة و رضا تملأ قلبي و نفسي و قررت أن أصلِّ الظهر والعصر على الحالة ثم بدأت بعدها بالتسبيح و التهليل..

حقيقة منذ أن هددني ذلك الضابط بالذبح بالخنجر دخلت في عالم روحاني و راجعت نفسي_لماذا أنا هنا؟ فكانت الإجابة لأني خرجتُ مجاهداً مع ربي و لأني أدافع عن وطني و شرفي و عرضي.. حينها سلمت نفسي بكل اطمئنان للخالق المعبود و لم أفكر في أي شيء آخر مطلقاً.. كنت أشعر أني انتقلت بروحي و مشاعري إلى رياض الله و ملكوته حيث لم أعد أفكر في أهل أو ولد أو دنيا… أحسست بمعنى الثقة بالله و التوكل عليه و تسليم الأمر إليه.. و ما عدت أبالي بالضرب و الشتم و الجلد و كنت أحتسبها في سبيله.. مهما كان الألم فإن هذا الشعور الرائع الذي غمر روحي و نفسي و كل جوانحي لا يمكنني أن أنساه و هو شعور لا يضاهيه شعور..

و نحن على تلك الحال كنّا جميعا في انتظار الذبح.. و لم نكن نعرف شيئاً مما يحصل حولنا سوى التنقل من شاحنة إلى أخرى و التعذيب المستمر.. و استمر هذا الحال لمدة يومين لم يفكروا خلالها للحظة واحدة بأننا مسلمين و بحاجة إلى الصلاة.. أو أننا بشر على أقل تقدير و بحاجة إلى شيء من الشراب أو الطعام..!!

لم نكن نعرف بعضنا.. و لم نكن بالحالة التي تسمح لنا بالتعارف لكننا عرفنا بعضنا بالأسماء عندما كانوا ينادوننا و التقينا فيما بعد في سجون الأسر..

في أحد المواقع التي وصلنا إليها وجهوا إلي سؤالاً_و هو من هم الخلفاء الراشدين؟ فذكرت أسماء الأربعة رضوان الله عليهم.. ثم توجهوا بسؤال آخر إلى أحد الأسرى بجانبي عرفت من صوته أنه لا يزال شاباً، فقالوا له:ما تقول في سيدنا معاوية؟ فأجاب :لعنة الله عليه.. فما كان منهم إلا أن نزلوا بنا إلى الأرض جميعاً و قاموا بتعذيبنا عذاباً شديداً.. و كان كل من يمر من المرتزقة يتعجب من شدة ما يرى من الضرب و العذاب، فيقول لهم:ماذا فعل هؤلاء؟ فيقولون لهم:إنهم يلعنون سيدنا معاوية.. فما يكون منه إلا أن يأخذ سوطاً أو سلكاً و يشارك في الضرب و التعذيب و استمروا هكذا حتى الصباح يتداولون على ضربنا و تعذيبنا حتى أغمي على البعض من شدة الألم و العذاب..!

لكم أن تتخيلوا الوضع طوال ثلاثة أيام في الصحراء تحت أشعة الشمس الحارقة و على شاحنات مكشوفة دون طعام أو شراب مكبلين الأيدي والأقدام و معصوبي الأعين و تعذيب متواصل لدرجة أن البعض لم يعد قادراً على بلع الريق من كمية التراب في فمه..!! و لكي أكون منصفاً فإن الشمس هي الوحيدة التي كانت تغيب و ترحم أجسادنا المنهكة و لو قليلاً من مشهد ذلك العذاب…

استمر السير بنا في الصحراء بعد ذلك على متن الشاحنات حتى وصلوا بنا إلى إحدى المواقع العسكرية الجديدة حيث أنزلونا هناك.. كان عددنا حينها خمسة و لم نعرف أين هم بقية من كانوا معنا على الشاحنة، و أين ذهبوا بهم..؟!

و أنا في هذا الطريق الجهادي لا أعرف ماذا أحكي عن رباط اليد و كيف أصفه لكم؟ كان عبارة عن سلك كلما تحرك الشخص يشتد أكثر و كان من أكبر وسائل العذاب.. كأنه قطعة من الجحيم..! كنّا نشعر أن أيدينا تكاد أن تتقطع و كنّا نصرخ من شدة الألم الذي لا يحتمل ولا يطاق.. و كنّا نترجاهم و نتوسل إليهم أن يقطعوا أيدينا..! تخيل أن يصل بك الحال إلى أن تترجاهم أن يقطعوا يديك من شدة الألم و كنّا نقول لهم:اقطعوها سيجزيكم الله خيراً..! كان ذلك الرباط من الضباط الإماراتيين.. كانت أيدينا قد تحولت من اللون الأزرق إلى الأسود بسبب نقص الدم و الأكسجين عنها و كنّا نشعر أنه سيصيبها الشلل..!

في هذا الموقع تركونا عند حارس كبير في السن و الذي لا نستطيع نسيانه و الدعاء له كلما تذكرناه.. كان ممن لا زالت فيهم النخوة اليمنية و الإحساس الآدمي..فعندما أنزلونا من الشاحنة و ذهبوا.. كان يستمع إلى صراخنا من عذاب رباط اليد، و كان يقول لنا :أنه ليس بيده حيلة.. لكنه بعد ذلك لم يستطع التحمل أكثر فذهب ليتصل بهم لكي يستأدنهم، لكنهم لم يردوا عليه.. فما كان منه إلا أن فك لنا رباط اليد و العين.. لكنه أبقى قيود القدمين..

كانت يداي على وشك الشلل و ظلت متأثرة بهذا الرباط لأشهر عديدة فيما بعد، لم أبكي من شدة الألم سوى من هذا الرباط اللعين الذي قام بوضعه أحد الشياطين..! و بعد أن فك لنا أمر بإحضار الغداء و كان كريما جداً.. و بعدها أدخلنا لنغتسل بالكامل و قمنا بأداء الصلاة بعد ذلك.. كم شعرنا بالسعادة لهذه المنحة الإلهية و الهدية الربانية الغير متوقعة..! لكنه اعتذر منا بعد ذلك، و قال لنا :هذا أقصى ما أستطيع مساعدتكم به، فقلنا له :كتب الله أجرك.. و دعينا له دعاءاً كان من القلب..

رجع الضابط الإماراتي اللعين في وقت المغرب.. و كانت أول مرة نراه بعد أن قام بعصب أعيننا.. رمقناه بنظرات لا يعلم قوتها و حرقتها سوى الله.. وقال لي أحد الزملاء أنه يفكر في قتله و سيحاول ذلك حتى لو قتل بعدها مباشرة..! فقلت له :احتراماً لهذا الرجل لن نفعل.. أي العجوز الذي أكرمنا..

قام ذلك الحارس الكبير في السن بإرجاع رباط اليد و العين لكل منا..

تمت إعادتنا مجدداً إلى الشاحنة لكي نواصل السير في طريقنا التي لا نعرف متى ستنتهي؟ قال لي أحد المرافقين :أنت تريد الجنة، صحيح؟ فقلت له:نعم.. رجعت بي الذاكرة قليلاً إلى ما قبل التحاقي بهذا العمل المقدس حيث لم أكن أكثر من شخص عادي يذهب إلى عمله في النهار و يمارس بقية حياته الإعتياديه.. و لم يكن يخطر ببالي حينها أني سألاقي ما ألاقيه الآن.. لكنني أشعر بالسعادة و الطمأنينة لاختيار الله لي لهذا العمل العظيم..و لأكون في مواجهة مباشرة مع هؤلاء المسخ الشياطين..

كنا طوال هذه الثلاثة الأيام نترقب فقط متى سيذبحوننا.. حيث كنا على يقين أن مصيرنا فقط هو الذبح ولا شيء آخر..و لكم أن تتخيلوا حال الشخص و هو ينتظر الذبح في كل دقيقة لهذه المدة؟

بعدها قاموا بأخذنا إلى مكان فيه ضجة كأنها مكائن خراطة.. و ما كان مني إلا أن ظننت أنهم سيفرموننا هنا و لم أشك في ذلك..

قاموا بنقلنا من الشاحنة و بعدها استوعبت الصوت بأنه صوت طائرة و التي نقلتنا فيما بعد إلى سجون العدو السعودي في خميس مشيط بعد أن تم بيعنا من مرتزقة بلادنا إلى الغزاة.. كلاً بسعره و حسب التفاوض.. و ذلك حتى يقايضوا بنا أسراهم.. و هناك بدأت قصة الأسر..

طوال تلك الأيام و التي عانينا و تعذبنا فيها عذاباً شديداً لم يكن يخطر ببالنا للحظة أن مصيرنا هو الأسر،و كان الذبح هو كل ما نفكر فيه..

لبثت في الأسر طوال ستة أشهر.. عانيت فيها ما عانيت ولقيت فيها من العذاب و الألم ما لقيت .. لكن رغم كل شيء و على الرغم من كل الأحداث و المواقف التي عايشتها و رأيت بأم عيني الأسرى المجاهدين يعايشونها إلا أنها لم تكن مطلقا بعداب و قسوة و ألم تلك الأيام الثلاثة في الصحراء..!

طوال الستة الأشهر في سجون العدو التقيت بالكثير من الأسرى المجاهدين لكنني لم أحظى بأي فرصة لأقابل صديقي العزيز أبو الأشتر و لو حتى للحظة واحدة، و الذي علمنا أنه وقع في الأسر أيضاً بعد ذلك، و عندما حصلت عملية تبادل الأسرى و التي كنت ضمنها لم يكن اسمه بين الأسماء.. حتى أسرته و أقاربه تعبوا كثيراً ليعرفوا أي شيء عنه.. لكنهم لم يفلحوا في ذلك.. آه.. كم تتوق روحي للقياه..

هل تعرفون من أين أتحدث معكم الآن؟ من أرض العزة والكرامة.. نعم لقد عدت إلى ساحات الوغى..و إلى ميادين الشرف و البطولة لقد أصبحت لي نفس حرة توّاقة لم تعد تقوى على العيش بعيداً عن تلك الفيافي و القفار فقد أصبح بينهم قصة عشق لن تنتهي إلا بإحدى الحسنيين.. حتى روحي لم تعد حبيسة هذا الجسد، كأنَّ لها جناحين تحلق بهما في ربوع وطني الغالي الذي هو أغلى من أهلي و روحي و نفسي.. و ترتفع بهما عالياً فوق تلك الجبال الشاهقة.. هناك فقط يحلو لها العيش إلى جانب أولائك الأحرار الشرفاء الضراغيم.. لم تعد تطيق مفارقتهم.. و لم تعد عيناي تكتحلان بأجمل من رؤية شموخ و بهاء طلتهم.. و كيف لمن ذاق تلك الروحانيات و العناية الإلهية أن تهنأ لنفسه العيش بعيداً عنها بعد ذلك..

و سيظل باذلاً مضحياً في سبيل الله و الوطن حتى يرفع راية النصر المجيد أو يرقى إلى العلياء شهيداً..