الخبر وما وراء الخبر

سيناريوات افتراضية لتركيا وسيناريو واقعي

163

ناصر قنديل

– تشهد وسائل التواصل الاجتماعي ومثلها الصحافة العربية والغربية سيلاً من السيناريوات الافتراضية لما جرى في تركيا، وأغلبها يحاول تفسير الانقلاب وفشله بعناصر خارجية استثنائية، من نوع نسبة الانقلاب أو فشله إلى تدخل أميركي، يستطيع أيّ مراقب نفيهما من متابعة التبدّلات التي لحقت بالموقف الأميركي من الانقلاب. والتبدّلات التي حكمت التخاطب الأميركي التركي، فلو كان الأميركيون مَن نظّم الانقلاب لبرز على الأقلّ من يحيط به من الشارع والأحزاب ومن يواكبه لإقامة توازن شارع في وجه شارع، كما شهدت مصر مع مواجهات الجيش والإخوان، ولشهدنا خطة سياسية لقادة الانقلاب تجعلهم ضمن إعلان واضح للأهداف من اللحظة الأولى، تؤكد أنهم لا يريدون تسلّم الحكم بالقوة، وهو ما لا تستطيع واشنطن ولا سواها تأييده، بل يقومون بعملية جراحية قصيرة الأجل ويدعون فوراً لتسليم الحكم إلى مجلس رئاسي يضمّ كبار الضباط بمن فيهم غير المشاركين في الانقلاب الذين تفرض رتبهم مسؤوليات كبرى، وقضاة من وضعيات عليا مشابهة ورؤساء الأحزاب الأربعة بمن فيهم الحزب الحاكم، وتحديد مدة انتقالية لصياغة دستور جديد والاستفتاء عليه، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة على أساسه، خلال ستة شهور بإشراف المجلس الرئاسي. وكلّ هذا لم يظهر في رؤية قادة الانقلاب، ويكفي للدلالة على طابعه التركي الصرف، كما يكشف السجال التركي الأميركي حول قضية تسليم الداعية فتح الله غولن أنّ الأميركيين ليسوا مَن أنقذ أردوغان، ويؤكد ذلك ارتباكهم بكلام كيري عن سلامة تركيا، ومن ثم سعيهم لتأكيد عدم معرفتهم وتورّطهم بالانقلاب رداً على اتهامات حزب رجب أردوغان.

– الطابع التركي للانقلاب والطابع التركي لفشله سمتان واضحتان، ليس بينهما فرضية الانقلاب المفبرك في ظلّ وقائع بحجم تحرك سلاح الجو وقصف البرلمان، والسيطرة على محطات التلفزة لوقت معيّن وورود أسماء جنرالات كبار بحجم قائدي سلاح الجو والبر وقادة الجيشين الأول والثاني كقادة للانقلاب من مصادر ليست تابعة لإعلام أردوغان الذي أصابه الارتباك لساعات أربع انتهت بظهوره الأول علناً في الثالثة صباحاً، بينما كانت صورته المرتبكة قبلها تعبيراً كافياً عن جدية القلق والخوف والهلع وما أصابه وأصاب حزبه من صدمة، ما كانت لتظهر لو كان الانقلاب مفبركاً، ففي ظهورها مخاطرة بانفلات الأمور من تحت السيطرة إلى تداعيات لا يعرف أحد نهايتها، ولا أحد في مثل هذه الحالات لديه ضمانات التحكم. فالفبركة كانت تتمّ بصورة أفضل لو كان أردوغان في اسطنبول وبدأ بالظهور العلني في الساعة الأولى مع حشود شعبية موالية مستنهضاً النزول إلى الشارع، ولكانت وحدات من الجيش المساندة لأردوغان هي التي تولت التصدّي للانقلاب، ليبدأ بعدها توجيه الاتهامات وخوض حرب تصفية الحساب.

– الذي جرى كان انقلاباً نفذته الطبقة العسكرية التركية التقليدية من جنرالات وضباط كبار ومتوسطي الرتب، الواضح أنهم ينتمون إلى المعسكر العلماني ولا صلة لهم بجماعة دينية، كجماعة الداعية فتح الله غولن أو سواه، وأنهم من الذين فشلت حملات السيطرة التي خاضها أردوغان لترويض الجيش والإمساك به، النيل منهم، وأنّ هؤلاء خططوا لانقلاب على الطريقة القديمة، فهم النظام التركي القديم بكلّ ما فيه من تطلعات ومبادئ وسياسات وأساليب، لم تشملهم رياح التغيير التي عرفها العالم من وسائل تواصل وعمل سياسي، ودور للإعلام المباشر، وصارت شروطاً تفشل كلً حركة سياسية أو عسكرية تتجاهلها، والواضح أيضاً أنّ رهانهم كان على النجاح بالضربة القاضية المتمثلة بقصف الفندق الذي يقيم فيه أردوغان يوم عطلته في مرمرة ومداهمته هناك لاعتقاله إذا نجا من القصف، والتوجه بعدها لاعتقال رئيسي الحكومة والبرلمان. وبنجاح المخابرات التركية في إخلاء أردوغان قبل القصف والمداهمة، ارتبك الانقلاب، وبدأ الهجوم المعاكس الذي قاده أردوغان على الطريقة الإخوانية التي امتلكت خبرات كثيرة من التجربة المصرية، في تنظيم الشارع بوجه الجيش، إضافة لما تمكن أردوغان من امتلاكه عبر تقوية جهازي الأمن الداخلي والمخابرات العامة اللذين يتبعان له ويساندانه، مقابل تهميش الجيش ومخصصاته المالية وحصر التجهيزات العصرية الحديثة والإلكترونية بالأجهزة التابعة لأردوغان.

– الواضح أيضاً أن لا صلة لحملة الاعتقالات التي يجريها اردوغان وحزبه بالانقلاب، بل بما قاله أردوغان إن لا دولة عميقة في تركيا، أيّ لا جيش ولا قضاء، ولذلك يقود حملته لتحويلهما إلى قوتين هامشيتين ضعيفتين، لا قدرة لهما. فقضية أردوغان صارت بعد فشل مشروع السلطنة، وسقوط العثمانية بالضربة القاضية هي أخونة دولة تركية محلية الدور والصنع، يربحها بالنقاط، تحت شعار التخلص من المنافس الإسلامي، الأب الروحي، فتح الله غولن وأتباعه، وكيف لأحد أن يصدّق أنّ آلاف القضاة قد ثبت خلال ساعات أنهم متورّطون في الانقلاب فتمّت إقالتهم وإحالتهم للمحاكمات، أو أنّ آلاف الضباط ثبت تورّطهم، وكيف يرتفع عدد القتلى خلال ساعات ما بعد نهاية الانقلاب إلى المئات ما يشير إلى عمليات إعدامات في الشوارع وتصفيات أمام البيوت، تتمّ بحق المعارضين، وقد حملت صور تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي مشاهد قطع رؤوس من قبل ملتحين يشبهون رجال «داعش»، لضباط يلبسون الزيّ العسكري، وبطرق وحشية لا يمكن قبولها في أيّ دولة تدّعي أنها تحكم وفقاً لمعادلة المؤسسات والقانون.

– يعرف أردوغان أنّ تركيا بلا قضاء يعني تركيا بلا دولة، تحكمها عصابة وميليشيا، وأنها ديكتاتورية أسوأ من الحكم العسكري. وأنّ هذه هي طريقه الوحيدة للإمساك بالسلطة بزعم التفويض الشعبي. كما يعرف أنّ تركيا بلا جيش هي تركيا بلا سياسة خارجية، وأنه كلما أخرج الجيش من السياسة الداخلية أخرج تركيا من السياسة الخارجية، وبدأ اهتزاز التوازن الداخلي مع الأكراد الذي يحمل قسم كبير منهم السلاح ويتطلع لمشروع الإمساك بحكم مناطقه، ولذلك تبدو حركة أردوغان حماقة ورعونة ستتكفل بإطاحة فوزه بإطاحة الانقلاب، كما تبدو الأزمة التي يفتعلها تحت عنوان المطالبة بتسليم غولن مدخلاً للمزيد من الضعف الذي سيلحق بتركيا بعد الانقلاب، والمعلومات التي تتبادلها الدول حول المحاكمات العرفية التي يقيمها أنصار أردوغان في الشوارع لمعارضيهم، وتنتهي بالسحل والقتل وقطع الروؤس، فالأكيد أنّ تركيا العثمانية الطامحة لدور السلطنة قد سقطت بالضربة القاضية إلى غير رجعة، وأنّ أردوغان ربح بالنقاط جمهورية للإخوان تترنح تحت الدم، والضعف الخارجي، والعجز عن النهوض الاقتصادي، والتي ستقدّم بالخطاب الديني الذي طبع ثلاث كلمات متتالية لأردوغان، بيئة مثلى لنمو التشكيلات المتطرفة التي تمتلك اليوم ملاذاً آمناً وفرصة وافرة للتحرك وبناء قواعد الارتكاز، وعلى العالم قبل أن يرتاح من همّ أحلام عثمانية أردوغان التي رحلت، أن يقلق من جمهورية للإرهاب قيد الولادة، يشكل فيها مساندو أردوغان من الأتراك، ومعهم عشرات الآلاف من غير الأتراك من اللاجئين إلى تركيا ومساندي الإخوان والقاعدة مخزوناً للخراب يعصف بتركيا، ومنها وعبرها يضرب في الخارج.