حلم آسيوي وانهيار أوروبي
أسامة العرب
«الولايات الأوروبية المتحدة»، فكرة طرحها فيكتور هوغو عام 1849 ودافع عنها ونستون تشرشل غداة الحرب العالميّة الثانية. ودوافع الدعوة إلى توحيد أوروبا لدى الأديب الفرنسي الكبير أو زعيم بريطانيا التاريخي ظلت ذاتها، رغم مرور قرنٍ كاملٍ فَصَل ما بين كلمة فيكتور هوغو بمناسبة انعقاد مؤتمر السلام الدولي في باريس وخطاب ونستون تشرشل أمام جامعة زوريخ. وقد تشكل الاتحاد الأوروبي لاحقاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بسنة واحدة، حيث تغيّر اسم المجموعة الاقتصادية الأوروبية وأصبح اسمها الاتحاد الأوروبي في معاهدة ماستريخت عام 1992، وتحوّلت إلى تكتّل له بعد قاري يضمّ كلّ دول أوروبا تقريباً: 27 دولة. وانطلاقاً من عام 1992 تحوّل المجال الأوروبي سوقاً موحّدة تطبيقاً لاتفاقية الفصل الوحيد 1986 والتي نصت على تكوين سوق أوروبية واسعة مشتركة، حيث هيّأت معاهدة ماستريخت ظروفاً جديدة للتعاون الأوروبي بتحقيق الوحدتين الاقتصادية والنقدية بنك مركزي أوروبي وعملة موحّدة 2002 ، والوحدة السياسية. تلتها معاهدات أخرى هي معاهدة أمستردام 1997 التي فرضتها التحوّلات الدولية الجديدة وعلى رأسها العولمة، وكذلك لإعادة النظر في السياسة الخارجية والأمن والتجارة الخارجية للاتحاد. ثم أعقبتها معاهدة نيس 2001 التي تقرّر فيها إدخال تعديلات على أجهزة الاتحاد ومؤسساته قبيل انخراط 10 دول أخرى من أوروبا الشرقية في 2004.
وهكذا تطوّر تنظيم الاتحاد الأوروبي بطريقه للاندماج الشامل، بحيث باتت تشرف على تسييره أجهزة عدة هدفها تحقيق الوحدة الكاملة بين أعضائه، وهي: المجلس الأوروبي الذي يتكوّن من رؤساء الدول والحكومات، وهو يقرّر السياسة العامة للبلاد، والبرلمان الأوروبي الذي يتكوّن من 732 عضواً منتخباً تنحصر مهامهم في وضع القوانين التشريعية ومناقشتها، ومجلس الوزراء الذي يتكوّن من 27 عضواً وينفذ سياسة الاتحاد، واللجنة الأوروبية التي تتكوّن من 30 مفوضاً، تقترح المشاريع وتناقشها، ومحكمة العدل الأوروبية التي تتكوّن من 15 قاضياً و9 مستشارين في القانون، تقوم بدور التحكيم والمراقبة بين الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد. والبنك الأوروبي المركزي الذي يتكوّن من 27 محافظاً للبنوك المركزية للدول الأعضاء، وهو يراقب المداخيل والمصاريف.
ولكن في غياب الوحدة الكاملة، بقي الاتحاد الأوروبي «عملاقًا اقتصادياً، ولكنه قزم سياسي»، فهو لم يستطع أن يعترض على سياسات الولايات المتحدة في أيّ مكان في العالم إلا بخجل وتواضع، حتى أنّ المحللين كافة يرون فيه تابعاً للهيمنة الأميركية، خصوصاً أنّ معظم دوله، أعضاء في حلف شمال الأطلسي الناتو الذي تقوده الويلات المتحدة. ولذلك وجد الاتحاد نفسه حائراً ما بين «الوحدة الأوروبية»، و«الأطلسَة العسكرية».
ورغم ذلك، لم تكن أميركا لترضى بتقاسم النفوذ العالمي ولو مع شريك. وها قد جاءت الأزمة المالية الأميركية المفبركة عام 2008، والتي اعتبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929، لتعصف بمنطقة اليورو. وما يؤكد ذلك أنّ الكونغرس تلقى تنبيهات عديدة تنبئ باقتراب الأزمة حينها، إلا أنه رفض اتخاذ أيّ من الإجراءات الاحتياطية للمعالجة، وذلك بحسب تقارير عديدة قامت بنشرها BBC على الشعب الأوروبي.
وبحسب كتابٍ صدر في بروكسل لزعيميْ الخضر، في البرلمان الأوروبي، فإنّ أزمة الديون السياديّة الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، أدّت إلى إيجاد أزمةٍ وجوديّة لم تهدّد إلا البناء الأوروبي. ولهذا، توالت الدعوات بعدها إلى تأسيس اتحادٍ فدرالي أوروبي للوقوف بوجه هذه الأزمة، كما قُدّمت اقتراحات بوجوب إعادة صياغة دستور أوروبا بعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية في 2014 لتحديد مبادئ وأسس أوروبا الفدرالية.
ولكن الضربة الأميركية الجديدة وجّهت عندما علت الأصوات البريطانية المعارضة مطالبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ولهذا تساءل الخبراء الاقتصاديون البريطانيون مؤخراً عن جدوى طرح بريطانيا للاستفتاء بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي طالما أنّ الأمر يشكل خطورة جسيمة على الاقتصاد ويؤثر سلباً على وحدة المملكة؟ ففي القطاع المالي، ستفقد المؤسسات المالية «جواز السفر» الذي يسمح لها ببيع خدماتها المالية إلى الدول الثماني والعشرين في الاتحاد. وبعض البنوك والمؤسسات المالية الكبرى كانت قد قالت إنها ستنقل قسماً من نشاطها إلى داخل الاتحاد في حال خروج بريطانيا.
وفي قطاع الطاقة، قد يؤدّي خروج بريطانيا إلى رفع تكلفة الاستثمار في القطاع وتأخير المشاريع الجديدة، في ظلّ عجز متوقع في المعروض من الطاقة الكهربائية في البلاد. وسيتردّد المستثمر في قطاع الطاقة، فضلاً عن أنباء حول تحذير شركتي شل وبي بي بخصوص الخروج. وفي قطاع الطيران، فلن تستفيد بريطانيا بعد الآن من سياسة الفضاء المفتوح مع دول الاتحاد الأوروبي، ما يعني أنّ حرية العمل المطلقة لشركات الطيران لن تكون متاحة، وهو ما سوف يؤدّي الى ارتفاع الأسعار على المستهلكين. كما أنّ الخروج قد يؤثر على المنافسة، إذ إنّ أيّ شركة بريطانية تريد الاستحواذ على شركة في الاتحاد عليها الحصول على موافقة سلطات منع الاحتكار في الاتحاد، ما يعني كلفة قانونية أكبر. هذا عدا أنّ تداعيات الخروج من الاتحاد لن تقف عند هذا الحدّ، فالمملكة المتحدة نفسها ستكون مقبلة على انعكاسات سياسية مستقبلية وخيمة. ولن يكون ثمة ما يمنع الآن اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز من إجراء استفتاءات على البقاء داخل المملكة المتحدة.
أما من ناحية الحلم الأوروبي بالوحدة، فمما لا شك فيه أنّ هذا الحلم انتهى إلى غير رجعة، ولهذا، قالت المستشارة الألمانية انغيلا ميركل إنّ هذا التصويت شكل «ضربة لعملية الوحدة الأوروبية»، فيما قال رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز إنّ خروج بريطانيا سيسرّع في سقوط الدومينو في أنحاء أوروبا، في إشارة إلى الخروج المتتالي لمزيد من الدول من الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، فما بين ثورة اليمين الأوروبى ضدّ سياسات بعض دول القارة المتسامحة مع المهاجرين وما توفره لهم اتفاقية شينغن من حرية حركة داخل الفضاء الأوروبى الواسع، وبعيداً عن قوى اليمين الرافضة والثائرة في كثير من الدول الأوروبية المفلسة، فإنّ قدرة التحمّل الفرنسية والألمانية قد وصلت إلى حدودها القصوى، وهذا كفيل بحدّ ذاته بنسف الاتحاد الأوروبي.
وأخيراً، وبانتظار سقوط الدومينو الأوروبية تتجه الأنظار مستقبلاً نحو قلب آسيا وخصوصاً «منظمة شنغهاي للتعاون» التي تضمّ روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، وتتمتع كلّ من منغوليا والهند وإيران وباكستان وأفغانستان بصفة مراقب فيها، والتي تهدف لمواجهة الأحادية القطبية الأميركية والناتو، بغية منعهما من إحكام قبضتهما على مقدّرات الدول ومستقبل المجتمع الدولي.
وباختصار، فإنّ الحلم الآسيوي ابتدأ على أنقاض الحلم الأوروبي، خصوصاً بعد تأسيس الصين وروسيا للبنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية وصندوق طريق الحرير للاستثمار وبنك التنمية الجديد الذي تديره مجموعة «بريكس». أيّ أنّ الأمر بات يعود للآسيويين اليوم ليديروا أمور قارتهم وليعزّزوا عملية التكامل الإقليمي وليشكّلوا العصب الفعّال لمواجهة الويلات المتحدة في التنافس الاقتصادي والبنيان العسكري والنفوذ على مصادر الطاقة، والتأثير في السياسات الدولية. وفي نهاية المطاف، يبقى سقف المواجهة بينهما حالياً ضمن حدود التجاذب السياسي، مع استحالة التصادم العسكري.
نقلا عن جريدة البناء