ما بين تدخلات أميركا وتركيا..
شارل أبي نادر
لا يمكن لأيّ مراقب لما يجري على الساحة الدولية في هذه الأيام، وخاصة لما يجري على الساحة الأوروبية إلا أن يلاحظ هذا الاهتمام والتركيز لما يجري في بريطانيا، ابتداء من الاستفتاء الشهير حول خروجها من الاتحاد الأوروبي، ومروراً بما قد ينتج عن ذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية، وانتهاء اليوم بما يتمّ تداوله عن «الندم» البريطاني حول تدخلهم في العراق، خلال حرب الإطاحة بالرئيس السابق صدام حسين.
بعد أن حمّل «جون شيلكوت» في تقريره حول التدخل البريطاني في العراق المسؤولية عن الفشل والخسائر والإخفاقات والتداعيات السلبية للسلطة التنفيذية والتشريعية البريطانية والتي ساهمت مع الأميركيين بالإطاحة بالرئيس العراقي، استناداً لمبرّرات واهية وكاذبة وغير صحيحة، يتكلم الآن البريطانيون وخاصة في أوساطهم الرسمية والإعلامية، وحيث إنّ الأخيرة ليست بعيدة عن النزعة الملكية في الحرص على عدم ضرب مكانة وسيادة المملكة، عن مسؤولية رئيس الوزراء السابق توني بلير والنواب الذين شرّعوا حينها الانخراط في الحرب على العراق، عن مقتل الجنود أبناء المملكة في تلك الحرب من دون أي هدف قومي أو وطني، وذلك بعد أن شرّع هؤلاء كذبة أميركية خلقها بوش الابن وسوّقها لهم بلير وجرّت الجيش البريطاني الى تلك الحرب حول امتلاك صدام اسلحة دمار شامل، ودون محاولة الذهاب بأيّ طريق آخر غير الحرب لنزع هذه الاسلحة المزعومة.
لقد تغاضى البريطانيون، مسؤولون وإعلاميون عن حقيقةٍ أقوى وأقسى حول مسؤوليتهم المباشرة في تلك الحرب التي ساهموا بها مع الأميركيين عن خلق وانتشار الارهاب الذي يعاني منه العالم اليوم بشكل عام، وهم بشكل خاص مع كامل المنظومة الاوروبية التي لم تكتمل حتى الآن إجراءات خروجهم منها، ولم يتطرقوا ايضاً عن مسؤوليتهم من خلال فرض القهر والظلم في العراق في جرّ قسم كبير من أبنائه للذهاب باتجاه التشدد الذي كان الاساس لما نشهده اليوم من فورة إرهابية امتدت من «القاعدة» الى ابي مصعب الزرقاوي الى داعش حالياً، هذا عدا مساهمتهم ومسؤوليتهم المباشرة في صب الزيت على النار وفي تأجيج الصراع المذهبي والطائفي والوصول بالساحة العراقية واستطراداً الإقليمية وحتى الدولية الى ما وصلنا اليه اليوم.
من جهة اخرى، قد يكون الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يعيش حالياً الهاجس البريطاني حيث يعتبر، وهو صائب في ذلك بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ساهم بتوسيع الهوة التي تفصل دخول تركيا إلى هذا الاتحاد، وحيث إن الانضمام التركي الى هذا الاتحاد لم يكن يتمتع اصلاً بنسب مقبولة للتحقق لأسباب وأسباب قد يكون اهمها ما افرزته الحرب على سوريا والتي كانت تركيا مساهماً أساسياً فيها، من ضغوط ومعطيات ووقائع تتعلق بتدفق النازحين بضخامة غير معهودة وبتسلل الإرهابيين الى الداخل الأوروبي، حيث اعتُبِرت تركيا في نظر الاتحاد المسؤولة الرئيسة عن ذلك، تواطؤاً من خلال غض النظر والتسهيل، وإهمالاً من خلال فشلها في ضبط حدودها جنوباً مع سوريا والعراق وشمالاً وغرباً مع دول الاتحاد الاوروبي.
قد يكون أردوغان أيضاً متوجساً ومصدوماً أكثر من المسؤولين في بريطانيا هذه الايام، حيث إن ساحة الأخيرة تتمتع بهامش واسع من الديمقراطية تجعلها تمتص الأزمات الداخلية او التي لها امتداد مع الخارج، فحدودها القصوى الاستقالة والبديل جاهز بطريقة سريعة وتلقائية من خلال ضوابط النظام الأعرق في تاريخ الديمقراطيات الغربية. الأمر غير المتوفر في الداخل التركي حيث يعيش النظام أزمات قومية ومذهبية وحزبية واجتماعية ليس سهلة، كما ويعيش أزمات أمنية وعسكرية ميدانية لها ارتباط مباشر بالحرب على سوريا حالياً، وايضاً لها ارتباط تاريخي دموي على خلفية جرائم ومجازر طبعت سياسة الاتراك عبر التاريخ في الشرق والمحيط تجاه دول وشعوب وقوميات معروفة وأهمها المجازر التركية بحق الارمن والتي تلاحق السلطنة دائماً باتهامات محقة بالعنصرية وبارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، وهذا من ضمن ما جاهر به الاتحاد الأوروبي مؤخراً عبر قرار ظهّرته المانيا علناً.
وأخيراً… هل سيحذو اردوغان حذو الانكليز الذين اعترفوا بخطئهم واتخذوا قرارات مصيرية تاريخية، عبر تعبيرهم عن رفض سياسة الاتحاد الأوروبي الذي وضعهم في حضن الولايات المتحدة الأميركية تجرهم حيث تريد ومتى تريد، والذين اعترفوا ايضاً بخطئهم في المساهمة في الحرب على العراق على خلفية كذبة خلقها الأميركيون؟؟ وهل سيندم الرئيس التركي ومن خلفه الحكومة والسلطة الرسمية في تركيا على تدخلهم في سوريا الذي بدأوا يقطفون ثماره إرهاباً وتخبّطاً وفوضى في الميدان، وضياعاً وعدم استقرار وفقداناً للتوازن في السياسة وفي الاقتصاد وفي إدارة السلطة؟ أم أنه سوف يتابع في غطرسته وفي انزلاقه نحو الهاوية التي يبدو أنها سوف تكون سحيقة وواسعة ومؤلمة، حيث إن التاريخ، وإن تأخر في إصدار حكمه، فسوف يصدره عاجلاً أم آجلاً وسوف يكون عادلاً ومنصفاً، لأن في ذلك حكمة الطبيعة؟
نقلا عن جريدة البناء