التطبيع مع العدو جريمة لا تغتفر…
أسامة العرب
تأتي كلمة التطبيع المستعملة حالياً ضمن بعد سياسي – اجتماعي مترجمة عن الكلمة الانكليزية Normalization والتي تعني الاعتياد. وهي باختصار تعني تحويل السلوك الطارئ سواء كان ذهنياً أو نفسياً أو اجتماعياً إلى عادة، بحيث يظهر وكأنه جزء لا يتجزأ من الحياة الاعتيادية العامة والخاصة للإنسان. وبهذا المعنى يصبح مفهوم عبارة التطبيع بأنها تحويل السلوك الطارئ والجديد إلى ما يشبه الطبيعي. ولكنّ تطبيع العلاقات مع «إسرائيل» لا ينطوي على مجرد إقامة علاقات اعتيادية معها كما هي العلاقات الاعتيادية بين دول العالم غير المتنازعة، وإنما له انعكاسات سياسية وأمنية وخيمة ذات أهداف مستقبلية. فمن مخاطر التطبيع مع العدو، التطبيع السياسي المتمثل بلقاءات القمم والزيارات المتبادلة بين الرؤساء، وقيام وفود برلمانية من كلّ الأطراف بزيارات مشتركة. فيما التطبيع العسكري، سوف يتمثل كذلك بزيارات المسؤولين العسكريين والتعاون بينهم. أما التطبيع الاقتصادي فيتضمّن حرية التبادل السلعي ومنح تراخيص استيراد وتصدير، والموافقة على شهادات المنشأ للسلع المستوردة والسماح بإقامة المراكز التجارية المتبادلة، إضافة إلى منح حصص منتظمة من النفط الوطني سنوياً بأسعار تقلّ عن السعر السائد في السوق، هذا عدا عن حرية تنقل الأشخاص والآليات براً وبحراً وجواً.
إلا أنّ أكبر مخاطر التطبيع مع العدو هو فتح الباب أمام أجهزة المخابرات والتجسّس الصهيونية مثل شعبة الاستخبارات العسكرية المسمّاة أمان ومؤسسة المخابرات والمهمات الخاصة المسماة بالموساد وأجهزة الأمن العام الصهيونية وقسم الدراسات والأبحاث في وزارة الخارجية، بحيث تستطيع كلّ هذه الأجهزة أن تشقّ طريقها في الكثير من دول العالم العربي والإسلامي لتقوم بنشر الفتن المذهبية والطائفية، وبتمويل الإرهاب المنظم وتسليحه، وبشقّ صفوف الدول المجاورة عن بعضها البعض وزيادة شرذمتها، وحتى لا تكون الجبهة العربية والإسلامية جبهة مقاومة موحدة، ولكي يتسنّى للصهاينة لاحقاً التفرّد بكلّ دولة على حدة، فيما هم عموماً ينظرون إلى خيرات الدول المجاورة بطمع، لا سيما لجهة مواردهم الاقتصادية والطبيعية الضخمة، ويتطلعون إلى السيطرة على عائداتهم النفطية بشكل خاص.
ولا تتوانى «إسرائيل» عن تحقيق أهدافها تلك، من استعمال أقذر الوسائل كاغتيال وحذف شخصيات مؤثرة وممانعة، أو تسليح جماعات منشقة، أو إسقاط أنظمة مقاومة، أو شراء ذمم زعامات وكتاب صحف ومدراء إذاعات ودور نشر ومحطات تلفزيونية. كما أنها تستغلّ غفلة خصومها لتبحث عن نقاط ضعفهم وثغرات موجودة لدى بعض اللاعبين المؤثرين في القضايا والأحداث في الساحة، لتجد في إفسادهم وتوريطهم وابتزازهم معبراً صالحاً لها، لتفرض عليهم لاحقاً اتباع سياسات مناهضة لمصلحة أمتهم، كما أنّ من مخاطر التطبيع مع العدو تمييع القضية الفلسطينية، فبعد المطالبة بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر بدأ مسلسل التنازلات في خفض سقف المطالب شيئاً فشيئا،ً إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من وضع متردّ، وكلّ ذلك ساهم في زيادة في غطرسة الكيان اليهودي.
والتطبيع بالنسبة للعدو يشكل أولوية سياسية له اليوم، وهو بذلك لا يعني مجرد إقامة علاقات تجارية أو مفوضيات أو سفارات، وإنما ينطوي على عملية تكريس هيمنة «إسرائيل» سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على دول المنطقة كافة، تمهيداً لبسط نفوذها عليها وسلب مواردها. ولكن في ظلّ عداء شعوب أمتنا الواسع لـ «إسرائيل» لم تكن أمام هذه الأخيرة من وسائل للتحايل على الشعوب، سوى تلك القائمة على دعم كافة الأنشطة الإرهابية والفتنوية، ونشر الفساد والرذيلة والمواد المخدرة في المنطقة، وسواء تمّ ذلك بطرق مباشرة أم من خلال أشخاص مستعارين. وقد ثبت مؤخراً أنّ شعبة الاستخبارات العسكرية اليهودية أمان قد قامت بتهريب المخدرات إلى مصر والأردن وغيرها من الدول المجاورة، كما عملت على نشر مرض الإيدز عن طريق وجود شبكة تضمّ العشرات من بائعات الهوى الصهيونيات المصابات بهذا المرض، واللواتي يعملن بتوجيه مباشر من جهاز الموساد…
ولكن الطامة الكبرى للعدو، أنه لم يستطع بتاتاً أن يكسر مناعة محور المقاومة والممانعة ويلغي قوته العسكرية، ولذلك فإنه يسعى لإخضاعه من خلال الحروب الناعمة، أي بتخريبه من الداخل تمهيداً للقضاء عليه، والمخطط الدائر اليوم يتمثل في خلق فوضى عارمة وعنف وإراقة دماء بمستوى دولي لخلق حالة من الرعب والخوف لا تعترف لا بدين ولا بقومية ولا بحدود، ومن ثم إعادة البناء بما يتناسب والمصالح الصهيونية في المنطقة.
ولكن محور المقاومة أدرك الحلم الإسرائيلي التاريخي هذا منذ أمد بعيد، وسعى وما يزال يسعى لإحباط مساعي العدو بأن يصبح القائد الوحيد في المنطقة والمركز الحاكم فيه، هذا عدا عن تصريحات الصهاينة السابقة التي كشفت مخططاتهم الفتنوية تلك، لا سيما أنّ شمعون بيريز كان يردّد دوماً: لقد جرّب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة «إسرائيل» إذن.
فيما يؤكد المعلق الأميركي بول كريغ روبرتس ذلك، في مقال منشور له بعنوان الولايات المتحدة متواطئة مع «إسرائيل» في تحطيم لبنان، فيقول: إنّ ما نشاهده في الشرق الأوسط من دمار اليوم هو تحقق لخطة المحافظين الجدد في تحطيم أيّ أثر للاستقلال العربي والإسلامي، ومحاولة للقضاء على أية معارضة للأجندة الإسرائيلية، كما يجب ألا ننسى الأدوار المهمة التي تلعبها الحرب الناعمة، والمتمثلة بمحاولة بثّ اليأس والإحباط في قلوب شعوبنا ليشككوا بقضاياهم ورموزهم ومقدساتهم، وزرع فكرة عدم الجدوى من مواصلة الطريق، وهذا ما يؤدي تباعاً إلى إحداث حالة من التردّد المفضي إلى اللامبالاة والتقاعس. كما تهدف الحرب الناعمة أيضاً إلى تشويه مفهوم المقاومة وضرب صيغ الممانعة القائمة، والدخول إلى عقل الجماهير وإيهامهم بأنّ الصراع قد حسمت نتائجه تاريخياً لصالح الطرف الأقوى المهيمن، وبأنّ من يفرض على نفسه ثقافة مقاطعة الصهاينة هو الخاسر، لا سيما أنه سيعيش منعزلاً عن العالم بقرار ذاتي أو أحادي.
وهنا بالتحديد، يدخل مفهوم التطبيع ضمن الحرب الناعمة، بحيث يسعى العدو من خلاله إلى اختراق المناعة العربية والإسلامية، وإسباغ الشرعيّة على الكيان الغاصب المتخفي في ثوب الحمل، وتصويره على أنه رمز للحداثة والحضارة، فيما الحقيقة أنّ العرب والمسلمين إذا ما تخلوا عن ثقافة المقاومة، فسوف يتحولون فريسة سهلة للإرهاب الذي يُصنَّع في دوائر الاستخبارات الأجنبية ليكون أداة لتمزيق دول المنطقة وإضرام نيران الفوضى التي يريدها الصهاينة أن تكون هدامة لها وماحية حدودها ومدّمرة مجتمعاتها، تحت شعار فرّق تسد.
وبالتالي، فإنّ التطبيع مع العدو يعتبر خيانة، ذلك أنّ مواجهة الأعداء لا تتمّ بالانفتاح والتبادل بل بالتحصين الداخلي والحذر، فكيف يمكن أن نتقارب اجتماعياً وثقافياً مع جلاد يغتصب أراضينا ومقدساتنا ويعتدي على شعوبنا؟ لا سيما أنّ صراعنا مع العدو هو صراع وجود لا صراع حدود، أضف إلى ما تقدّم، فإنّ الانتصارات الإلهية التي حققها محور المقاومة مؤخراً، من المتوجّب أن نحافظ عليها وأن نكون أمناء عليها، وذلك لن يكون متاحاً إلا من خلال مكافحة كافة الحروب الناعمة التي تصدّر إلينا كنتاج استعماري بغيض، وعلى أن نسعى أيضاً للتأسيس لمرحلة من الكفاح المشترك المبني على أسس متينة من التلاحم والانصهار، ذلك أنّ الاستسلام طريق الاندثار فيما المقاومة طريق الانتصار الوحيد.
نقلا عن صحيفة رأي اليوم