الخبر وما وراء الخبر

العرب والاتحاد الاوروبي قد يكونان المستفيد الأكبر من الخروج البريطاني

182

عبد الباري عطوان

وإليكم مرافعتنا التي تؤكد حججنا

رجحت كفة اليمين المتطرف في الاستفتاء، وصوّت البريطانيون بأغلبية ضئيلة للخروج من الاتحاد الاوروبي، مما يعني، وللوهلة الاولى، احتمال تفكك هذا الاتحاد اولا، والمملكة المتحدة ثانيا.

واذا كان الاحتمال الأول، أي تفكك الاتحاد الاوروبي غير مؤكد، فإن تفكك الاتحاد البريطاني بات وشيكا، فالنزعات الانفصالية في اسكتلندا وايرلندا الشمالية وويلز بدأت تبرز بقوة، وتعالت الاصوات التي تطالب بالاستقلال (في اسكتلندا) والانضمام إلى جمهورية ايرلندا الجنوبية (ايرلندا الشمالية)، وبات في حكم المؤكد أن نرى اسكتلندا، على الأقل، دولة مستقلة وعضو في الاتحاد الاوروبي في غضون السنوات الخمس المقبلة على أكثر تقدير، حيث صوت أكثر من 70 بالمئة من مواطنيها لصالح “البقاء”.

خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي قد يكون نكسة للاتحاد على المدى القصير، ولكن الحال ربما لا يكون كذلك على المدى البعيد، لانها كانت دائما العضو “الصعب” المتَشّرط فيه، وتستغل حاجته الى الوحدة والتماسك لتطالب بالكثير من التنازلات، حتى أن الكثير من الاوروبيين، وفي ظل هذا “الابتزاز″ البريطاني يرى ان تشارلز ديغول، زعيم فرنسا العظيم، كان على حق عندما ظل يعارض انضمام بريطانيا للسوق المشتركة في حينها، ويرى أنها ستتقدم بشكل أسرع وأفضل بدونها.

***

البريطانيون أطلقوا النار على أرجلهم بالسقوط في مصيدة “التخويف” التي مارسها اليمين العنصري المتشدد لدفعهم إلى التصويت لصالح الخروج، والتلويح بأخطار الهجرة، وتزوير الحقائق في هذا الخصوص، مثل التريكز على خطر “الاسلام” ضمنيا، وانضمام تركيا إلى الاتحاد  الاوروبي، وتركيبته الديموغرافية، لأن تعدادها يقترب من 80 مليون نسمة، غالبيتهم الساحقة من المسلمين، رغم أن الوقائع تقول عكس ذلك، لأن هذا الانضمام لن يتم قبل خمسين عاما، إن لم يكن أكثر، بسبب المعارضة القوية له من دول أوروبا الكبرى، خاصة فرنسا التي تتمسك بالهوية المسيحية البيضاء للاتحاد الاوروبي.

بريطانيا ستتقزم، وقد لا يبقى منها الا انكلترا القديمة، وستفقد مكانتها كمركز مالي عالمي، مثلما ستفقد تأثيرها في كتلة سياسية واقتصادية عظمى مثل الاتحاد الاوروبي الذي تذهب نصف صادراتها اليه، ويشكل توازنا استراتيجيا بين العملاقين الروسي والامريكي.

وللحقيقة، والتاريخ، أن بريطانيا التي انضمت رسميا للاتحاد عام 1975 بعد استفتاء دعا اليه رئيس وزرائها ويلسون في حينها لم تكن تريد مطلقا أن تكون اوروبية، وترى أن الاتحاد الاوروبي خاضع للهيمنة الالمانية الفرنسية، وتمسكت بعقلية أهل الجزر ذات النزعة الانعزالية، ووضعت رجلا في اوروبا، والاخرى في امريكا، التي حرصت على إقامة علاقات خاصة معها، فقد رفضت الانضمام إلى العملة الاوروبية الموحدة (اليورو)، مثلما رفضت العمل باتفاقية “شنغن” التي تسهل حرية الحركة، وساهمت بنصيب مالي متواضع لانقاذ دول اوروبية من الافلاس مثل اليونان والبرتغال وايرلندا بالمقارنة مع المانيا.

بالنسبة إلينا كعرب ومسلمين، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ضار ومفيد في الوقت نفسه، ولكن الفائدة ربما تكون أكبر بكثير من الخسارة.

الجالية العربية والاسلامية ستكون متضررة حتما من هذا الخروج البريطاني، لانها ستكون أحد اأبرز ضحايا اليمين العنصري المتطرف المعارض للهجرة والمهاجرين بقوة، حتى لو كانوا من دول أوروبية بيضاء، مثل رومانيا وبلغاريا، ناهيك عن المسلمين أو السوريين منهم، كما أن هذه الجالية قد تواجه في المستقبل عقبات على صعيد حرية التنقل، على غرار ما يحدث حاليا في الولايات المتحدة ودول أخرى مثل استراليا ونيوزيلندا، لأن جواز السفر البريطاني لم يعد وحده كافيا لركوب الطائرة دون التقدم للحصول على إذن مسبق، تحت مسميات متعددة، طالما أن اصلك غير بريطاني، ولون بشرتك غير بيضاء، والذريعة هي الخوف من الارهاب، مضافا إلى ذلك أن حرية التملك والاقامة والعمل في دول الاتحاد الاوروبي الـ 27 قد تتبخر في المستقبل القريب.

أما على الصعيد العربي والاسلامي الاشمل، فإن بريطانيا الصغيرة الضعيفة المعزولة أمر جيد، لأن حكوماتها، عمالية كانت او محافظة،ظلت دائما خاضعة للنفوذ الصهيوني، وتدعم اسرائيل بكل قوة، وتنحاز دائما للحروب الامريكية ضد العرب والمسلمين، والتدخل العسكري في شؤونهم، وتغيير انظمتهم، ومخططات تفتيتهم، وعملت طوال الثلاثة والاربعين عاما من عضويتها في الاتحاد الاوروبي على كبح جماح اي توجه لانتقاد اسرائيل وسياساتها العنصرية، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ومحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، ورفضت الاعتذار والتعويض للعرب عن منحها فلسطين لليهود، وتسهيل قيام دولة اسرائيل، حتى ان ديفيد كاميرون رئيس وزرائها الحالي، صاحب الاستفتاء الذي ألحق الأذى بنفسه وبلاده، وصف العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة بأنه دفاع عن النفس، وكان خلف قرار غزو ليبيا، مثلما كان سلفه توني بلير من أكبر المؤيدين لغزو العراق واحتلاله.

***

البريطانيون الذين صوتوا لخروج بلادهم من الاتحاد الاوروبي، ربما يكونوا، ودون أن يدروا، قدموا الخدمة الأكبر لهذا الاتحاد الاوروبي الذي عانى طويلا من هذا العضو البريطاني المشاغب والمدلل، بل والمبتز، وألحقوا ببلادهم واقتصادها ووحدتها الداخلية ضررا كبيرا، سينعكس عزلة وخسائر اقتصادية في المستقبل المنظور، ولا نستبعد أن يتم تجريد بريطانيا من عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي، فلماذا تستمر فيها بعد انكماشها؟

بريطانيا فقدت “عظمتها” عندما خسرت مستعمراتها، وستفقد الآن ما تبقى منها نفسيا، بخسارتها لعضوية كتلة قوية سياسيا واقتصاديا مثل الاتحاد الاوروبي، وستعود الى وضعها الذي كانت عليه قبل 400 عام، اي انكلترا الصغيرة الطاردة للسكان، بسبب فقرها وقلة مواردها.

إنها ضحية شعور كاذب بالعظمة لدى أهلها، وحالها كحال العجوز المتصابية التي ترفض أن تعترف بالتجاعيد، وآثار الزمن عليها، وتتمسك بغروها ودلالها، بل عجرفتها أيضا، ولعل هذه النتيجة الصادمة وتداعياتها المتوقعة تعيدها الى رشدها.