الخبر وما وراء الخبر

عدن اجْتَاحها المتطرفون

131

د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور

أرعبني كغيري من اليمنيين والعرب وبقية خلق الله مشهد التهجير القسري لمواطنين يمنيين من مدينة عدن وعدد من المحافظات اليمنية الجنوبية وترحيلهم الى محافظة تعز العز، وأظهرت الصورة بوضوح ذلك المشهد القبيح والعنصري المَقيت، ولم يقتصر التهجير العُنصري حتى هذه اللحظات على باعة الخضار وعمال البناء البسطاء بل تعداهم الى فئة رجال الأعمال الكبار والمتوسطين وحتى من أصحاب المحلات الصغيرة ووصل التعسف والإهانة لتصل الى المهندسين والأطباء وغيرهم، وبلغ الحال مَبلغه الآن الى البدء بالبسط والاقتحام والنهب لمنازل المواطنين الكُثر ولم يَسلم من هذا الأذى حتى الرموز الوطنية والحزبية الكبيرة، على سبيل المثال لا الحصر تم اجتياح مسكن الشهيد / جار الله عمر الكهالي القيادي البارز في الحزب الاشتراكي اليمني وقبلها السطو على منزل الشهيد / عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشورى والشهيد / عبدالفتاح إسماعيل مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني والى الأساتذة في جامعة عدن ومنهم البروفيسور / عبدالولي هزاع مقبل الأستاذ بكلية ناصر للعلوم الزراعية وآخرين، وهنا أسجل تضامني الشخصي والرسمي مع كل هؤلاء الكوكبة العلمية الكريمة التي تعرضت لضيم هؤلاء الغوغاء الذين ينفذون أجندة المحتلين الجدد لبلادنا.
يعرف العديد من المتابعين للشأن العام في عدن وفي الأوساط المُثقفة موقفنا المُعلن الصريح تجاه الفكر المناطقي الشوفيني والسلوك الشاذ الناتج عنه، وقد نبهنا مبكراً من أن فكرا كهذا سينتج عنه لا محالة سلوك شاذ عن قيمنا وثقافتنا اليمنية الأصيلة، وسيدمر نسيجنا الاجتماعي برمته ، وبالذات في عدن التي اتصفت بالتعايش والسلام لقرون خلت، ونبّهنا مراراً في قاعات المحاضرات ومن على القنوات التلفزيونية وعلى صفحات الجرائد بأن التساهل والتماهي والتعاطف مع هذا الفكر والسلوك سيهدم المبنى على رؤوس قاطنيه، واليوم نحن نجني ثمار سكوت وصمت البعض وتماهي البعض الآخر والتناغم مع مفردات العوام التي طالما رددوها بُغية المكايدة وحتى التنفيس من زاوية التعبير السلبي عن حالة القائل، إن مجرد التماهي في ترديد مفردات موجهة خبيثة تعود بنتائجها بعد حين ويكون تأثيرها على النسيج الاجتماعي كارثياً ومدمراً .
لنتذكر معاً تلك المفردات ( الفكاهية ) المسمومة التي لا زال العوام من الناس يُرددها حتى هذه اللحظة، والتي هندسها ووجه بوصلة موجتها الخبيثة مُهندسو الفتن والحروب، تذكروا معي ترديد مصطلحات ( الدحابشه ، عرب 48 ، الجبالية ، مقولة دم الجنوبي عالجنوبي حرام، المُحتلين من الشماليين، الغُزاة، الخلايا النائمة للحوثيين والعفاشيين …الخ من المفردات الناضحة بسموم الفتنة والحقد والكراهية ) كل هذه المفردات المسمومة عَبَر عليها البسطاء جرياً كجسر للمرور على أشلاء بسطاء آخرين وجميعهم يمنيون .
ولكي لا ننسى بأن هناك مفردات مشابهة أنتجها ( فاسدو السياسة ) في جنوب اليمن في الزمن الماضي في مراحل عديدة للتراشق بها ولتصفية الحسابات السياسية والجهوية بين فرقاء وأعداء العمل السياسي المُشترك آنذاك ومنها مصطلحات ( اليمين الرجعي واليسار الانتهازي ومخلفات الاستعمار والطغمة والزمرة والسقالبة وغيرها من المفردات النتنة )، بهذه وغيرها من المفردات تم تعبيد الطريق لعبور جحافل القتلة من البسطاء لتنفيذ أقبح الجرائم بحق بسطاء آخرين من أبناء شعبنا اليمني الصابر .
إذاً مفردات اليوم الدالة على خُبث ومكر صُناعها لها مرجعية تراثية حاقدة، كُتبت بالأمس في الغُرف المُظلمة ، ويتم تداولها من العامة بعفوية واسعة ، وفي هذا الأسبوع المشؤوم نجني كمواطنين النتائج الخطيرة وهو التطهير العرقي غير المسبوق في عدن، وستكتب عنه صفحات التاريخ بحروف مكسوة بالخزي والعار لمن وجه ونفذ هذا العمل المنافي لقيم الانسان وثقافة اليمانيين .
ليس هذا التطهير والتهجير سوى مقدمة طبيعية لتصرفات رعناء قادمة ( نسأل الله اللطف منها ) ، قد تكون قاصمة الظهر على مُرتكبيها بطبيعة الحال، لأننا في عدن نبرأ من فعل مُشين كهذا، لأنها جريمة أخلاقية وانسانية لا يتحملها إنسان بالغ راشد عاقل سوي، ومنفذها لا محالة سيخضع للقانون اليمني او الدولي طال الزمن أم قَصر، وجريمة كجريمة التطهير العرقي والمناطقي لم ولن تسقط بالتقادم وستنال الذين أصدروا القرار ومُنفذيه بإذن الله تعالى.
كلما بُلغت بشكل رسمي أو شخصي من الجهات ذات العلاقة في عدن عن حوادث الاختطاف والقتل والانتهاك غير الإنسانية للمواطنين والتوقيف والتهجير، تنتعش لدي الذاكرة الحافظة للأحداث النازية في ألمانيا ولأحاديث أساتذتنا ومُعلمينا في بلد الدراسة حول جرائم النازية، إذ كانوا يشرحون لنا أثناء زياراتنا الى معسكرات الحجز والاعتقال للنازيين البرابرة الألمانية في كل من مدن برلين، وكولن، وفايمار، وهايدل بيرج ولايبزج والعديد من معسكرات الاعتقال النازية .
أتمنى أن تكون تقديراتي غير مُحقة وذاكرتي مُخطئة وإنني ذهبت في خوفي على عدن وأهلها الكرام الى أقصى مدى في التشبيه بين حالتين تجتمعان في قيم التحريض المناطقي والعنصري ولكنهما تفترقان في اختلاف الثقافات والتجارب والإرث الحضاري.
ما يحدث الآن في عدن بمثابة جرس إنذار داهم ؟
أم هو الخطر الحقيقي المُحدق الذي أوصلنا إليه المتطرفون ؟
الإجابة المنطقية هي في مقاومة هذا الفكر والسلوك والممارسة الدنيئة للعُنصريين بكل السبل والطرائق بما فيها موقف الحرف والكلمة المُقاومة لهم ، وإيقاظ الوعي لدى الشباب بخطورة ما جاء به المحتلون الأجانب والعرب والمُرتزقة من كل الأجناس بمن فيهم المُرتزقة اليمنيين من مخاطر التمزق الاجتماعي والإنساني .
أدعو الله العلي القدير ان يَهْدِي من أصدر قرارا عبثيا كهذا أن يوقفه حالاً ، ويمنع من حدوث المزيد من تعميق جرح الألم لدى قطاعات واسعة من الشعب اليمني، وإن تمنع قوات الاحتلال الجديدة المُسيطرة الآن على أجزاء هامة من جنوب اليمن المزيد من وقوع الجرائم، لان ( حَمْل دين الدم بطبيعته ثقيل ) كما يقول القبيلي في بلادنا ولن تَقْوَى السنين على نسيانه مهما طالت الأزمان. ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ).
نقلا عن صحيفة الثورة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com