السقوط المدوي لقوة الردع الأمريكية من على متن حاملة الطائرات (هاري ترومان)
ذمــار نـيـوز || مـتـابعات ||
29 أبريل 2025مـ – 1 ذي القعدوة 1446هـ
يمثِّلُ إعلانُ البحرية الأمريكية عن خسارةِ مقاتِلةٍ من نوع (إف-18)؛ بسَببِ هجومٍ يمنيٍّ في البحر الأحمر، للمرة الثانية منذ ديسمبر الماضي، زلزالًا استراتيجيًّا لا تقتصرُ تداعياتُه على الخسارةِ المباشرة المتمثلة في فقدان أكثر من 70 مليون دولار في لحظة، وإضافتها إلى مليارات الدولارات التي يخسرها الجيش الأمريكي في مواجهة اليمن منذ أُكتوبر 2023 بلا أي إنجاز،
على أهميّة هذه الخسارة؛ فالواقعة تسلط الضوء على ما هو أبعد من الفشل العملياتي والتكتيكي والاستنزافِ، وهو انهيارُ قوة الردع الأمريكية بما تنطوي عليه من أدوات واستراتيجيات ومعرفة متراكمة لعقود، وبالتالي تضعضع أركان النفوذ الجيوسياسي القائم بشكل أَسَاسي على هذه القوة.
من الواضح أن البحريةَ الأمريكية وجدت نفسَها مضطرةً للاعتراف بغرق الطائرة، وقد كان الاعترافُ الرسمي محاولةً لتخفيف وَقْعِ الاعترافات الحتمية التي ستكشفُ لاحقًا السياقَ الحقيقيَّ للواقعة، والمتمثل في المطاردة النارية اليمنية، وهنا تبرز فجوة مهمة في الاستراتيجية الإعلامية لدى القيادة المركَزية الأمريكية بشأن التعامل مع تفاصيل العمليات في البحر الأحمر وفي اليمن، حَيثُ يتمسك البنتاغون بسياسة تكتم شديدة على مثل هذه التفاصيل، لكن يبدو بوضوح أن واقعة كهذه لا يمكن إخفاؤها، وهو أَيْـضًا ما برز بوضوح في ديسمبر الماضي عندما تم إسقاط مقاتلة من نفس النوع أثناء محاولة التصدي لهجوم يمني على حاملة الطائرات نفسها، في نفس مسرح العمليات.
أهميّة هذه الفجوة لا تتعلَّقُ بإجبار الولايات المتحدة على الاعتراف بحدثٍ ما لا يمكن إخفاؤه، بل بكسرِ الصورة التي تحرِصُ البحريةُ الأمريكية بشدة على رسمِها وإبقائها ثابتةً بشأن طبيعة المواجهة؛ فسياسة التكتم التي يمارسها البنتاغون لا تهدف فقط لإخفاء الخسائر، بل لعدم كشف الجو العام للعمليات والتفاعلات المباشرة فيها، والإبقاء على مشهد مزيَّف مصمَّم بعناية لـ”تماسك البحرية الأمريكية” واعتبار كُـلّ إخفاق أَو خسارة مُجَـرّد حادث عَرَضي، وليس خللًا في أَسَاسيات العمل.
هذه السياسةُ حاولت أن تصوِّرَ قِيامَ الطراد الصاروخي (جيتيسبيرج) بإطلاق النار على طائرتَي (إف-18) وإسقاط إحداهما أثناء محاولته التصدي للصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية، في ديسمبر الماضي، وكأنه حدث عادي أقصى ما يمكن أن يكشفَه هو خطورةُ الضغط النفسي والعملياتي في بيئات الاشتباك المحتدم، وبرغم أن هذه الدلالةَ بالغةُ الأهميّة وتوضح قدرة القوات المسلحة اليمنية على وضع البحرية الأمريكية في مآزِقَ صعبةٍ، فَــإنَّها لا تقولُ كُـلّ شيء.
الآن وقد تكرّر الأمرُ وفي سياق مشابِهٍ في نفس مسرح العمليات، وتم الاعترافُ بأن حاملةَ الطائرات (هاري ترومان) كانت تحاولُ الهروبَ من ضربات يمنية عندما فقدت مقاتلةَ (إف-18) [مع أنها روايةٌ مخفَّفةٌ على الأرجح] فقد بات واضحًا أن الأمرَ لا يتعلَّقُ فقط بالضغط النفسي والارتباك، بل بوجودِ نقاط ضعف واضحة وكبيرة لدى حاملات الطائرات نفسها، ووجودِ قصور كبير في الأَسَاسيات الاستراتيجية والتكتيكية التي تعملُ وَفْقَها البحريةُ الأمريكية.
في محاولة لتفسير سقوط المقاتلة (إف-18) أثناء الهروب، نقلت شبكة “سي إن إن” عن القائد السابق في البحرية الأمريكية كارل شوستر، قوله: إن “حاملات الطائرات التي تحاول تجنُّبَ هجومٍ صاروخي تستخدمُ تكتيكَ التعرُّج، وعادةً ما تقومُ بسلسلة من المنعطفات المتناوبة بزاوية 30 إلى 40 درجة، وتستغرق كُـلُّ منها حوالي 30 ثانية في كُـلّ اتّجاه، لكن المنعطف يبدأ فجأةً”.
هذا التفسير يعني أولًا أن الهجومَ اليمني قد تجاوَزَ الكثيرَ من الاستراتيجيات والأدواتِ والتكتيكاتِ الدفاعية التي تسبقُ الهروب، بما في ذلك أنظمةُ الصواريخ المتعددة للحاملة وللمدمّـرات والسفن التابعة لها، وكذلك الطائرات الحربية التي تتولى أَيْـضًا أدوارًا دفاعيةً عند تعرُّضِ الحاملة لهجمات، وهذا يتجاوز الحديثَ عن تأثير الضغط النفسي والإرباك بشكل واضح، ولعل هذا قد لفت انتباهَ “سي إن إن” بما يكفي للتذكير في التقرير نفسه بأنه “في أوائل عام ٢٠٢٤، اضطرت مدمّـرةٌ أمريكية في البحر الأحمر إلى استخدام نظام (فالانكس) للأسلحة القريبة، وهو خط دفاعها الأخير ضد الهجمات الصاروخية، عندما وصل صاروخ كروز يمني إلى بُعد مسافة ميل واحد فقط منها، وكان على بُعد ثوانٍ فقط من الاصطدام بها”.
الأمر الثاني الذي يوضحه تفسير القائد السابق في البحرية الأمريكية، هو أن استراتيجية الدفاع الأخيرة لحاملة الطائرات، والمتمثلة في الهروب بشكلٍ متعرِّجٍ، والذي يفترَضُ بها أن تكون آمنة، قد بدت أكثرَ فوضويةً وخطورةً مما كان متوقَّعًا، وهذا ما تعززه تقاريرُ أُخرى تشير إلى أن حاملات الطائرات لم تمارِسْ من قبلُ مثلَ هذا التحَرُّك إلا في التدريبات فقط.
ووَفقًا لذلك، فَــإنَّ ما حدث ليس حدثًا عرضيًّا وليس ناجمًا عن تأثير الضغط النفسي فقط، مع أن هذا الضغط كان موجودًا بلا شك لدى طاقم حاملة الطائرات بأكمله، ولكنه فجوةٌ كبيرة في طريقة عمل وبناء الحاملة نفسها وفي كُـلّ التقنيات والأدوات التي يُفترَضُ بها أن تحميَها، وهي فجوة من الواضح أن القوات المسلحة اليمنية قد تمكّنت باحترافية عالية من كشفها، أَو ربما صناعتها، من خلال أدواتها وتكتيكاتها الذي لم يسبق للبحرية الأمريكية أن واجهتها وفقًا للكثير من الاعترافات، وهو ما يعكسه تكرارُ فقدان طائرات (إف-18) في نفس مسرح العمليات أثناءَ هجمات يمنية واسعة؛ لأَنَّ ذلك التكرارَ يعني أن المسألة لا تتعلق فقط بتكتيك خاطئ يمكن تغييرُه واستخلاصُ الدروس من فشله في المرة الأولى، بل هي مشكلة جوهرية في الأدوات والاستراتيجية والقدرة على الابتكار والتعلم.
ولولا التكتمُ الكبيرُ على هذه الصورة الأوسع، لما كان مستغرَبًا في الأَسَاس أن يحدث ما حدث؛ فبعدَ أكثرَ من عام ونصف عام من الاعترافات الواضحة بعدم قدرة البحرية الأمريكية على التعامُلِ بشكل متكافئ مع التهديد الذي تشكِّلُه العملياتُ اليمنيةُ سواء من حَيثُ التكاليف أَو من حَيثُ الأدوات والتكتيكات، بات واضحًا أن الجيشَ الأمريكي يواجِهُ صعوبةً بالغةً في التكيُّف مع هذا التهديد وإيجاد طُرُقٍ مناسبةٍ لمواكبته، فضلًا عن إنهائه أَو إضعافه.
تلك الاعترافاتُ كانت قد أفرزت نقاشاتٍ غير مسبوقة عن “انتهاءِ زمن حاملات الطائرات” والعبء الذي باتت تشكّله السفنُ الحربية وأنظمتها المكلفة للغاية، والآن مع الواقعة الجديدة فَــإنَّ هذه النقاشات ستتناول بشكل أكثرَ مباشرةَ أبجدياتِ نشر القوة الأمريكية عبر العالم، حَيثُ يشهد البحر الأحمر الآن سقوطًا مدوِّيًا للأفكار الأَسَاسية للردع الأمريكي القائم في جزء كبير منه على استعراض وحشد أدوات “التفوُّق الجوي والبحري” معًا من خلالِ حاملات الطائرات والسفن الحربية، وما يمثله ذلك من أهميّةٍ أَسَاسيةٍ للانتشار البري أَيْـضًا، فعندما تصبحُ البحارُ مكانًا خَطِرًا للقاعدة (البحرية – الجوية) التي تشكلها حاملات الطائرات والسفن التابعة لها، فَــإنَّ قوة الردع الأمريكي تتقزَّم بشكل هائل، وتصبح معتمِدةً على التصرُّف من بعيد.
لقد تناولت العديدُ من التقارير تأثيرَ الفشل الأمريكي في البحر الأحمر على فرص الولايات المتحدة في خوضِ صراعات مستقبلية مع منافسِين وخصوم مثل الصين وروسيا؛ بسَببِ ما كشفه ذلك الفشلُ من نقاط ضَعف دفاعية وهجومية أمريكية، والآن بعد أن أصبح واضحًا بالتجربة أنه بالإمْكَان تحويلُ القِطَعِ الحربية الأمريكية إلى تهديدٍ للطائرات التي تحملُها ولنفسها، فَــإنَّ مستقبلَ النفوذ الجيوسياسي القائم على الانتشار العسكري الأمريكي عبرَ المحيطات يواجهُ زلزالًا حقيقيًّا، خُصُوصًا في ظل انتشار تقنيات الصواريخ والطائرات المسيَّرة منخفضة التكلفة.
قد يبدو هذا استنتاجًا سهلًا الآن.. لكن عمليًّا، لم يرَ أحدٌ قوةَ الردع الأمريكي تُضرَبُ بهذا الشكل، إلا عندما فعلها اليمن.