أساليب التهجير القسري والإبادة الجماعية لسكان غزة.. الأركان والتداعيات
ذمــار نـيـوز || تقارير ||
19 أبريل 2025مـ – 21 شوال 1446هـ
تقرير || منصور البكالي
يشهد قطاع غزة تصعيدًا خطيرًا في وتيرة جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ودعوات التهجير القسري، المصحوبة بأساليب واضحة بأركانها المادية والمعنوية والقانونية والإنسانية وما تخلفه من آثار وتداعيات لم يسبق للمجتمع البشري أن رأى لها مثيلًا عبر التاريخ.
ووَفقًا لدراسات معمقة وتقارير وتحليلات وشواهد حية، عبرت وكالات ومواقع وهيئات إعلامية ومؤسّسات بحثية عربية وأجنبية عن تنوع أساليب وتكتيكات الكيان الإسرائيلي المحتلّ في تنفيذ مخطّط التهجير القسري والإبادة الجماعية في قطاع غزة، تشمل التالي:
القصف العشوائي المكثّـف للمناطق والأحياء المكتظة بالسكان: نتج عنه آلاف الشهداء والجرحى المدنيين، غالبيتهم أطفال ونساء، ودمار هائل للمساكن وأماكن الإيواء، وإجبار السكان على النزوح بحثًا عن الأمان المعدوم غالبًا منذ الثامن من أُكتوبر، وتصاعده خلال المرحلة الأخيرة من عودة العدوان، وفق تكتيك يفرض بيئة قسرية تجعل الحياة غير ممكنة.
أوامر الإخلاء القسرية: تم توثيق إصدار جيش الاحتلال الإسرائيلي لأوامر إخلاء سكان مناطق واسعة في غزة، تحت تهديد العمليات العسكرية، والتدمير والتفجير الكلي لمساحات ومربعات متجاورة، وفق مهل زمنية قصيرة جِـدًّا تفتقر إلى توفير بدائلَ آمنة ومستدامة للنازحين، وتعتبر أُسلُـوبا من أساليب التهجير القسري المحظور بموجب القانون الدولي الإنساني، تُستخدم فيها مختلف الوسائل التي لا يمكن للعقل الإنساني تخيلها، ولم يسبق لأي مجرم حرب استخدامها، وصلت إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
تدمير البنية التحتية الحيوية: من خلال استهداف محطات توليد الكهرباء، وشبكات المياه والصرف الصحي، والمستشفيات، والمدارس، والمخابز، والمنازل والمخيمات، وغيرها من المرافق المدنية الأَسَاسية، التي تؤدي إلى تدهور الأوضاع المعيشية بشكل كارثي وتجعل الحياة في غزة غير قابلة للاستمرار، ما يدفع السكان بشكل غير مباشر إلى النزوح تحت النار، ومشاهد المجازر الواسعة للأطفال والنساء.
الحصار الخانق: من خلال توقف المساعدات الإنسانية، ومنع دخول الغذاء والدواء والماء والوقود والمستلزمات الأَسَاسية الأُخرى، بالإضافة إلى منع عمل المنظمات الإنسانية، وتحويلها إلى أهداف عسكرية، ما يخلق ظروفًا قاسية جِـدًّا، تعمق معاناة السكان وتضاعف تضحياتهم، وتدفع البعض منهم إلى البحث عن ملاذ آخر، أَو الاستشهاد تحت الغارات والقصف المدمّـر للأرض والإنسان.
استخدام القوة المفرطة: من قبل جيش العدوّ الإسرائيلي في عملياته العسكرية؛ ما أَدَّى إلى آلاف المجازر الوحشية والإبادة الجماعية للسكان المدنيين، بمن فيهم النساء والأطفال، وخلق حالة من الرعب وعدم الأمان والاستخدام العشوائي والمتعمد للقوة ضد الفلسطينيين الصامدين على أرضهم، ومع ذلك تتعاظم التضحيات؛ ما يدفع البعض ممن بقي على قيد الحياة إلى الفرار نحو مناطق يوهمهم العدوّ بأنها آمنة، ليتم تجميعهم فيها وإبادتهم بعمليات لاحقة، وبأشكال وأساليب أكثر وحشية وبشاعة، حسب التقارير الأممية.
انتهاك ممنهج لمبادئ القوانين الدولية الإنسانية: تؤكّـد تقارير وإحصائيات الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، وهيومن رايتس ووتش، وأمنستي إنترناشونال، ومحكمة العدل الدولية، وغيرها أن كيان الاحتلال الإسرائيلي ينتهك بشكل منهجي مبادئ القانون الدولي الإنساني، مشيرةً إلى أن التعذيب والتجويع، نتيجة الحصار الشامل، يمنع وصول الغذاء والدواء، ما دفع 90 % من السكان إلى الاعتماد على المساعدات للبقاء على قيد الحياة، لكنها منعت مؤخّرًا. لافتةً إلى تدمير 80 % من المنازل و50 % من البنية التحتية، بما في ذلك مستشفيات ومدارس تابعة للأمم المتحدة.
وتفيد التقارير بأن التهجير القسري وَفقًا للمادة 49 من اتّفاقية جنيف الرابعة، تسبب في نزوح 1.9 مليون فلسطيني داخليًّا، مع تدمير مناطق سكنية لفرض “مناطق عازلة”، وهو انتهاك مباشر لحظر النقل القسري للسكان وجرائم ضد الإنسانية وَفقًا لـ (نظام روما الأَسَاسي)، مشيرة إلى تعمد الكيان الغاصب في محو مدن كاملة مثل رفح، وإبادة العائدين إلى منازلهم، واستخدام الذخائر العنقودية والفسفور الأبيض في مناطق مكتظة، واستهداف مدنيين عبر أنظمة ذكاء اصطناعي دون تمييز.
ومن أبرز الجرائم الموثقة: “جريمة الإبادة الجماعية وَفقًا لـ (اتّفاقية 1948)، والقتل الجماعي، حَيثُ ارتفعت حصيلة الشهداء في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أُكتوبر 2023م، إلى 50 ألفًا و695 شهيدًا، غالبيتهم من الأطفال والنساء، فيما بلغ إجمالي الجرحى 115 ألفًا و338 مصابًا، وَفقًا للمصادر الطبية الفلسطينية.
الأركان القانونية والإنسانية للجريمة وَفقًا للقوانين الدولية:
وَفقًا للقانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، فَــإنَّ الأساليب المذكورة أعلاه تشكل جرائم حرب وإبادة جماعية مكتملة الأركان، وَفقًا لكل النصوص والمواد في القوانين والمواثيق، بجوانبها المادية والمعنوية والجنائية والقانونية والإنسانية والنفسية.
أولًا: الركن المادي: يتمثل في الأفعال الملموسة التي تم ارتكابها، مثل القصف، وأوامر الإخلاء، وتدمير البنية التحتية، والحصار، ومنع المساعدات، واستخدام القوة المفرطة. والأدلة على هذه الأفعال متوفرة في تقارير المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام.
ثانيًا: الركن المعنوي (القصد الجنائي): لا يتطلب إثباتًا؛ لأَنَّ هذه الأفعال ارتكبت بنية معلنة واعترافات واضحة ومطالب منشورة وموثقة، طلب بعضها من قيادة الجيش الصهيوني إبادة 100 ألف مواطن في يوم واحد، لإجبار سكان غزة على التهجير القسري. وبدأ العدوّ في تنفيذ ذلك عبر دفع مجموعات بآلاف الشهداء والجرحى بشكل يومي، وهذا كله لإجبار السكان على مغادرة ديارهم ومناطقهم ومخيماتهم. تؤكّـدها أنماط الضربات والأسلحة المستخدمة وكمية الذخائر والغارات على مناطق جغرافية محدودة، بأطنان من المتفجرات والشظايا، كما تكشفها التصريحات الرسمية لكيان العدوّ ومتحدث جيشه، ووسائله الإعلامية، وقياداته السياسية والعسكرية المفصحة عن الأهداف الاستراتيجية التوسعية المعلنة، ليس ضد الشعب الفلسطيني فحسب، بل تشمل التوسع والسيطرة والاحتلال لدول ومساحات واسعة في المنطقة، انطلاقا من أقنعة إثنية زائفة ومخطّطات استعمارية توسعية.
ثالثًا: الركن الجنائي: المتعلق بتحديد المسؤولية الجنائية للأفراد الذين أمروا أَو ارتكبوا هذه المجازر، سواء كانوا قادة عسكريين أَو سياسيين، حسب مبادئ القانون الجنائي الدولي، مثل المسؤولية القيادية، والتي تنص على أن القادة يمكن أن يتحملوا مسؤولية الجرائم المرتكبة من قبل مرؤوسيهم إذَا كانوا على علم بها أَو كان ينبغي عليهم أن يكونوا على علم بها ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها أَو المعاقبة عليها. لكن في غزة لم يبقَ الكيان الغاصب على أي سر، بل يعلن وينشر وبكل فجاجة كُـلّ ما يقوم به، دون أي تردّد من أي جهة.
رابعًا: الركن القانوني: الذي يستند إلى النصوص والمعاهدات الدولية التي تجرم هذه الأفعال، وتشمل اتّفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين وقت الحرب، والنظام الأَسَاسي للمحكمة الجنائية الدولية (خَاصَّة المواد المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية)، وقواعد القانون الدولي العرفي التي تحظر التهجير القسري وتستوجب حماية المدنيين.
خامسًا: الركن الإنساني، الذي يتعلق بالآثار الإنسانية الكارثية لهذه الجرائم بحق السكان المدنيين في غزة، فلا يختلف عن الأركان السابقة له، بما في ذلك فقدان الأرواح، والإصابات، والنزوح الجماعي، والمقابر الجماعية، وإبادة المرضى والأطفال والنساء الحوامل، والمسعفين والطواقم الإسعافية والأطباء، مما أَدَّى إلى انهيار الأوضاع الصحية والمعيشية، وتعميق الآثار النفسية والاجتماعية طويلة الأمد.
أثار وتداعيات الجريمة وأبعادها:
تتجاوز آثار وتداعيات جرائم الحرب في غزة الحدود الجغرافية والإنسانية المباشرة، وتمتد لتشمل أبعادًا متعددة، مثل تفاقم الأزمة الإنسانية، إثر النقص الحاد في الغذاء والماء والدواء والمأوى، وانتشار الأمراض، وازدياد خطر المجاعة، التي تؤدي إلى التهجير القسري وتدمير البنية التحتية، ومشاهد القتل الجماعي والتطهير الشامل، والإعدامات الجماعية للآلاف من المدنيين، أطفال ونساء، وآخرها طواقم الدفاع المدني والأطباء، حَيثُ قُتل أكثر من 2500 من طواقم الدفاع المدني و1000 طبيب، وتدمير كامل المستشفيات التي تقدم خدماتها، وإبادة أكثر من 17 ألف طفل، وتعرض أكثر من 150 ألف طفل آخرين لمرض شلل الأطفال، وتزايد أعداد الوفيات، والكثير من التداعيات المؤشرة إلى وصول قطاع غزة إلى مرحلة الكارثة المأساوية التي لا يمكن أن يُسبق لها مثيل على مر التاريخ.
كما تشمل التداعيات الإنسانية والاجتماعية الكارثة الديمغرافية، إثر اختفاء أكثر من 21،000 طفل تحت الأنقاض، وَفقًا لليونيسف، وارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال؛ بسَببِ سوء التغذية، حَيثُ يعاني أكثر من 55،000 طفل من الهزال الشديد، بالإضافة إلى محاولات التفكيك المنهجي للهوية الفلسطينية، وتدمير الأرشيفات الثقافية والمكتبات كجزء من سياسة محو الذاكرة الجماعية.
لم تقف آثار وتداعيات أساليب التهجير القسري للشعب الفلسطيني عند هذا الحد، بل امتدت إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي والدولي، وسيؤدي استمرارها إلى تأجيج الصراعات الإقليمية وحدّة المواجهات والتصدعات بين القوى والأطراف، وزيادة الفرز بين قوى الهيمنة والإجرام والطغيان التي تقف في خندق العدوّ الصهيوني، وبين من يقف في خندق الإنسانية والذود عن شرف وقيم ومبادئ المجتمع الإنساني، من قبل الأحرار المقاومين في المنطقة والعالم، الواقفين في خندق الشعب الفلسطيني والرافضين بقولهم وفعلهم ومواقفهم لجرائم الحرب والتهجير القسري، وربما يؤدي ذلك إلى اندلاع حرب واسعة لن يسلم من شرارتها الجميع.
أما ما ستخلفه هذه الجريمة من تأثيرات طويلة الأمد على القضية الفلسطينية، وبقائها، فَــإنَّ عمليات التهجير القسري يمكن أن تؤدي إلى تغيير ديموغرافي في قطاع غزة وتقويض حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، مما يعقد حَـلّ القضية الفلسطينية، ويزيد من حاجة الشعب الفلسطيني وشعوب الأُمَّــة العربية والإسلامية إلى دفع فاتورة باهظة الثمن أمام ذلك.
وعلى المستوى الدولي، فَــإنَّ هذه الجرائم والأساليب تؤدي إلى تآكل النظام القانوني الدولي، وعدم محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم يقوض مصداقية النظام القانوني الدولي والقانون الدولي الإنساني، ويشجع على الإفلات من العقاب.
بالإضافة إلى تداعيات إنسانية ونفسية عميقة، بحق المدنيين الناجين الذين يعانون من صدمات نفسية عميقة وفقدان للأحبة والممتلكات، ما يتطلب جهودًا كبيرة لإعادة التأهيل والدعم النفسي.
كما ستقود هذه الجرائم إلى تأثيرات واسعة في اضطراب الرأي العام العالمي، حين تثير الصور والتقارير الواردة من غزة غضبًا واستياءً واسعًا في الرأي العام العالمي، وتزيد من الضغوط على الحكومات والمنظمات الدولية لاتِّخاذ إجراءات لوقف هذه الجرائم، ومحاسبة المسؤولين عنها، وإيقاف الرعونة الأمريكية والإسرائيلية عند حدها، أَو التحضر لحقبة أكثر سوداوية، كفيلة بتفجير غليان عالمي كفيل بقلب الموجة وتغيير الموازين، واعتبار غزة معيارًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا يصطف أمامها الرأي العام العالمي، ويزداد الفرز بين الصفوف وتأكلها مع مرور الأيّام وفقدان الأمل بجدوائية استمرار المجتمع الدولي المترنح، دون أي موقف حازم لنصرة الشعب الفلسطيني، والانتصار للقيم الإنسانية والعقول البشرية، كما حصل من قبل مع عصبة الأمم ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية.
في الختام، ليست قضية غزة، وجريمة تهجير سكانها، مُجَـرّد صراع عسكري، أَو فشل أممي، بل نموذجًا صارخًا للحرب بين الحق والباطل ورموز الخير والشر، والإنسانية والوحشية، وهي معركة وجودية ضد نظام فصل عنصري يسعى لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا بالقوة، دون أي وجه حق، ما يتطلب تحَرّكًا جذريًّا لإعادة الاعتبار لمبادئ العدالة الدولية، خارج نطاق الفعل الأمريكي الذي كان أَسَاس الخلل الكبير في صياغة المنظومة العالمية الشاملة “الأمم المتحدة” لحسابه وحساب القوى الاستعمارية ما بعد الحرب العالمية الثانية.