كيف تعاظمت كراهيةُ العالم للنموذج الأمريكي؟
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
15 أبريل 2025مـ – 17 شوال 1446هـ
تقريــر || إبراهيم العنسي
تصوُّراتُ “حالة العالم” التي قدَّمها خبراءُ وباحثو العلاقات الدولية في العام 2018م، كانت قد حملت توقعاتٍ غيرَ متفائلة. لقد كشفت قوائمُ الكتب الأكثر تأثيرًا وتوقعاتُ كبار المحللين في العالم التي نشرتها بعضُ المؤسّسات العالمية، مثل صحف: فايننشال تايمز، والجارديان، ومجلة الإيكونوميست، والفورين أفيرز، والمراكز البحثية العالمية؛ عن صورةٍ لعالِـــمٍ مضطرِبٍ يموجُ بالتحولات المتسارعة وغير المتوقعة، والصراعات الداخلية، وتهديدات صراعات القوى الكبرى، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية، مع تصدع الدعائم المؤسّسية لمؤسّسات المجتمع الدولي والقيم العالمية لحالة الاستقرار التي سادت ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في العامِ 2003م، وعقبَ الغزو الأمريكي للعراق، كانت أسئلةٌ كثيرةٌ قد أثيرت حولَ مستقبل الهيمنة الأمريكية، والأمرُ لم يكن طارئًا وقتَها؛ فقد كانت هناك مؤشراتٌ تُظهِرُ تراجُعًا في الاقتصاد الأمريكي في سبعينيات القرن العشرين، وقد ربطها الكثير من المراقبين والخبراء الدوليين، بعصر تراجع القوة والهيمنة الأمريكية.
كان أحد أهم أسئلة القرن الجديد يتمحور حول ما إذَا ستستمر هيمنة أمريكا السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية التي غزت العالم بما فيه آسيا والمنطقة العربية، أم هناك ما لا يُرى خلفَ أكمة الإخضاع الأمريكي لدول العالم عبرَ القوة الناعمة ثم مع التحول للقوة الصُّـلبة، وهي ما يبرُزُ اليومَ بقوة؟
بينما كانت المؤشرات تُفصِحُ عن قوةِ الحضور الأمريكي عالميًّا، عبرَ مشروع الهيمنة “العولمة” وتدويل كُـلّ إنتاج أمريكي: سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي، تكنولوجي،…؛ فواشنطن التي تمتلك أكبر ترسانة عسكرية بلا منازع في العالم، بما فيه ما ترسانة نووية، حَيثُ تعد حصة الولايات المتحدة من الإنفاق الإجمالي على الأسلحة النووية البالغة 51.5 مليار دولار أكبر من حصة كُـلّ الدول الأُخرى المسلحة نوويًّا مجتمعة (وفقًا لتقرير الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية)، واقتصادًا عالميًّا يمثّل 18 % من الاقتصاد العالمي، وتصنيفَ تعليم جامعي يتصدّر جامعات العالم. إلا أن ذلك التفوًّقُ مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، أظهر ما كان خافيًا عن الأنظار. فبمُجَـرّد وقوع هذا الحدث الذي تم تضخيم تداعياته أمريكيًّا، كان يفصح عن توجّـه لقادة أمريكا لمحاولة تلافي السقوط، وتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية التي كان جورج بوش الابن هو من يقود دفتها، فالهدف لم يكن إسقاط نظام صدام حسين والمجيء بنظام ديمقراطي عراقي -كما كانت تروج له واشنطن-، إنما السيطرة على منابع النفط الخليجي، حَيثُ كانت القوة الأمريكية تتواجد في المنطقة النفطية المتخمة بالثروة، باسم الحماية في الخليج، وباسم القوة كما حصل في العراق، ليمتد أفق استراتيجية الهيمنة الأمريكية، في كُـلّ أنحاء العالم، إلى منطقة البلقان، والمحيط الهادي، والشرق الأوسط، والمحيط الهندي..
لم تكن المنطقةُ العربيةُ وحدَها ضِمْنَ هذه الاستراتيجية؛ فقد استهدفت أفغانستان وباكستان، وقد كان مهمًّا لأمريكا التواجدُ في منطقة بحر قزوين، حَيثُ الثروة النفطية، وتوسيع حلف شمال الأطلسي شرقًا لتضييق الخناق على روسيا بعد انفراط عقد تحالف وارسو السوفياتي والذي ضم أُورُوبا الشرقية، حَيثُ لم يكن انفراط الحلف الروسي كافيًا لإنهاء مهمة الحلف الأطلسي الذي كان سببُ إنشائه مواجهةَ الخطر التوسعي لأُورُوبا الشرقية نحو أُورُوبا الغربية، كما لم تكن الأيديولوجيا الاشتراكية التي تخلت عنها روسيا غورباتشوف ويلتسن؛ بحثًا عن التقدم الذي كانت تنشده روسيا من أُورُوبا الغربية والولايات المتحدة، هي كذلك لم تكن كافية لوقف حالة الصراع الخفي الذي تديره واشنطن ضد روسيا، ففي الأخير لم يجنِ الروس وقتَها سوى تمزيقِ الاتّحاد السوفياتي، دونَ نَيْلِ حَظٍّ من مظاهر التقدم الذي وصلت إليه أمريكا وأُورُوبا.
بحسب كتاباتِ بداية القرن الجديد، كانت بعض التنظيرات في العلاقاتِ الدولية تتحدثُ عن أن أمريكا ستتسيَّدُ العالَمَ في القرن الحادي والعشرين، حَيثُ كانت الصين ما تزال في مرحلة تعالجُ أمورًا داخلية كثيرة، وقد كانت بعيدة إلى حَــدٍّ ما عن المنافسة القوية للهيمنة الأمريكية، رغم أَنَّها سجلت معدلَ نموٍ اقتصادي متقدم، كما أَنَّها لم تمكّن ترغب قي مواجهة مبكرة مع القوة الأمريكية المعادية؛ فالتجربةُ الروسية كانت ماثلةً أمامها، وقتها لم تكن سوى اليابان قوة اقتصادية كبرى إلى جانب الألمان، لكنهما كانتا بعيديتَينِ عن منافسة أمريكا ذات القوة العالمية التي لم يكن من السهل اللحاقُ بها في شتى المجالات.
مقابل هذا التقدُّمِ الذي فرضته أمريكا على العالم وإجبارها المجتمعَ الدوليَّ على الخضوع لبعض الوقتِ لرغباتها في السطو والهيمنة، وقد كانت أمريكا قد غيَّرت أُسلُـوبَ تنفيذِ استراتيجيتها باللجوء إلى استخدام القوة لمعالجة ما تصوَّرت معالجتَه بالسطو على ثروات الشعوب، كممارسةٍ دأبت عليها الإمبراطورياتُ الآفلة… لقد كانت بذلك الفعل قد دَقَّت مسمارًا في نعشِ هيمنتها؛ فمع حرب الخليج الثانية، كان العالم ضد توظيف واشنطن لمقدرات ومؤسّسات المجتمع الدولي لصالح الأهداف الأمريكية. في قرارة نفس الأُورُوبيين كانت محاولة أمريكا لاستثمار قوة حلف شمال الأطلسي بمثابة غُصَّةٍ في حلق الأُورُوبيين؛ فهذه الحرب التي تقودها واشنطن لا علاقة لها بحماية أُورُوبا ولا مصالحها بل بمصالح أمريكا وحدَها. مع الإحساس بالاستغلال الأمريكي لحاجة أُورُوبا للحماية.
كان ميثاقُ باريس 1990م، أحدَ المحاولات العديدة لاغتنام فرصة سقوط الشيوعية، ودعوة دول الكتلة الأُورُوبية الشرقية السابقة بنشاط إلى الإطار الإيديولوجي للغرب الديمقراطي الرأسمالي. وقد تمت مقارنته بمؤتمر فرساي لعام 1919 أَو مؤتمر فيينا لعام 1815م في طموحه لإعادة تشكيل أُورُوبا قوية ثم البحث عن مستقبل أُورُوبا بعيدًا عن التأثير الأمريكي الكبير على القارة العجوز. غير أن أُورُوبا لم تفلح في تقوية جبهتها والسعي للاستقلال عن الخط الأمريكي، وهي كذلك حتى اليوم، حَيثُ تشعر أَنَّها مكبَّلةٌ بالقيود الأمريكية الاقتصادية على وجه الخصوص.
على مستوى بقيةِ العالم -بما فيه الشرق الأوسط الأكثر حيويةً وتأثيرًا-، كان العداءُ لأمريكا يتعاظم. كما أشرنا فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وانهيار بُـرْجَي التجارة العالمية، تعززت الرؤى والمؤشرات على تزايد العداء لأمريكا؛ فما حصل ليس إلَّا نتاج الاحتقان في المنطقة العربية الإسلامية، حَيثُ اللجوء الأمريكي المتنامي للقوة الصُّـلبة في العدوان على المنطقة العربية الاستراتيجية.
إلى أين وصل مستوى العداء للسياسة الأمريكية.. ولماذا ضَعُفَت قوةُ أمريكا الناعمة؟
تشير استطلاعات الرأي إلى تزايد العداء لأمريكا خلال السنوات الأخيرة، وارتبط ذلك العداء بتناقص شرعية السياسات الأمريكية وقدرتها على جذب الآخرين بقيمها.
العداء الذي ظهر في جنبات الأمم المتحدة، كمؤشر على عدائية الشعوب للسياسات الأمريكية، كان ذا دلالات قوية؛ فالرأي العام العالمي يتحول ضد الولايات المتحدة، والفجوة تتسع بينها وبين بقية دول العالم؛ بسَببِ استخدامها لـ “القوة الصُّـلبة” وقهر الشعوب بها. ذلك العداء يمكن مشاهدته بوضوح تام ولأول مرة، منذ معركة (طوفان الأقصى) وحتى اليوم. الاعتراض والرفض لسياسة أمريكا كانت حاضرة وما تزال في الداخل الأمريكي، في مؤسّسات أمريكا الحاكمة، ومكاتبها الفيدرالية، وجامعاتها ومنظماتها، وفي الشارع الأمريكي ككل، وفي المؤسّسات الدولية التي تتخذ من أمريكا مقرًّا لها.
جوزيف ناي الذي شغل وظائفَ عدة، ومن أهمها عمادة “كلية جون كينيدي للحكم” في جامعة هارفارد، ومساعد وزير الدفاع في إدارة بيل كلنتون، وهو صاحب نظرية “القوة الناعمة” التي أصبحت ذات مكانة مهمة في عملية صنع السياسة الخارجية، أشار إلى ما هو مهم وقَيِّمٌ لإدراك حجم التراجع الأمريكي. من أهم الآراء التي عبر عنها جوزيف، وكانت مفاجأة قاسية للجمهور الأمريكي، أن القوة الأمريكية “الناعمة” تدهورت في عهد ترامب، وأن قدرة أمريكا على تحقيق أهدافها بدون استخدام “القوة الصُّـلبة” تناقصت؟!
كان من أهم النتائج التي توصل إليها فريقٌ من الباحثين الأمريكيين في السنوات الأخيرة، أن “استخدامَ أمريكا لقوتها الصُّـلبة في قهر الدول والسيطرة عليها من أهم أسبابِ تزايد العداء لأمريكا”.
في استطلاع أجراه معهد غالوب أنَّ “30 % فقط من عينة تم استطلاع آرائها في 134 دولة تؤيد السياسات الأمريكية، ولديها اتّجاهاتٌ إيجابية نحو أمريكا”.
مونتي ناريان، في رسالة بحثية -وكانت رسالة دكتوراة له- أوضح أن “العداء المتزايد للولايات المتحدة سيكون له تأثيرُه السلبيُّ على مستقبل أمريكا”، مؤكّـدًا العلاقةَ العكسيةَ بين تناقص شرعية السياسات الأمريكية وزيادة العداء لأمريكا.
في أُورُوبا، كان ملاحَظًا استخدام المرشحين السياسيين خطاب العداء لأمريكا في حملاتهم الانتخابية، خَاصَّة في ألمانيا، فرنسا، أيرلندا،.. فالسياسيون في الكثير من دول أُورُوبا، يمكن أن يستخدموا العواطف المعادية لأمريكا لزيادة شعبيتهم والوصول إلى الحكم، وبدأ هذا الاتّجاه يؤثر على الانتماء لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، واعتبار أن الاتّحاد الأُورُوبي يُشَكِّلُ بديلًا لذلك الحلف.
ذلك العداء بنظر منظِّري السياسة الأمريكية “قد يقود في النهاية إلى التأثير على قدرة الولايات المتحدة على بناء التحالفات”.
في باكستان يجد الخطابُ المعادي لأمريكا طريقًا لكسب قلوب الشارع، والتأثير على اتّجاهاته في الانتخابات.
كما حصل مع “عصبة الأمم” فَــإنَّ مستقبل “الأمم المتحدة” المؤسّسة الدولية على المحك، يمكن تذكر أن عصبة الأمم لم تستطع منعَ أَو وقفَ احتلال اليابان لمنشوريا، ثم احتلال إيطاليا لأثيوبيا، ووصل الأمرُ بتلك الدول للتهجم على هذه المنظمة والانسحاب من عضويتها، ثم طرد روسيا منها بعد ذلك. وفي حالٍ مُشَابِهٍ تظهَرُ الأمم المتحدة التي لا تمتلك قوة تدخل لوقف أي اعتداء دولي على أي بلد. لهذه أصبحت الشعوبُ تنظُرُ إليها على أَنَّها أدَاةٌ تستخدمُها الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها وفرض سياساتها؛ ويمكن ملاحظة أن بعضَ الدول بدأت تعبّر في الجمعية العمومية للأمم المتحدة عن رفضها لاستخدام القوة الأمريكية، في قهر الشعوب، بما فيه القوةُ الإسرائيلية المستندة إلى القوة الأمريكية التي تُواصِلُ مسلسلًا مرسومًا من الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ووصل الأمرُ بمسؤولي هذَينِ النظامَينِ المارقين للتهجمِ على أمين عام المنظمة الدولية، وممارسة الضغوط على مسؤوليها ومؤسّساتها التابعة لها. والأهم أن انسحابَ ممثلي غالبية دول العالم من جلسات لهذه المنظمة كرفضٍ لسياسة الصهيو أمريكان في فلسطينَ، مثالٌ صارخٌ على تنامي الكراهية والعِداء لأمريكا وربيبتها الصهيونية (إسرائيل).
هذا الاتّجاه الذي ظهر في الأمم المتحدة يحملُ دلالاتٍ أخطرَ، وهي أن الرأي العام العالمي يتحول ضد الولايات المتحدة، وأن الفجوة تتسع بينها وبين بقية دول العالم.
بحسب “نيويورك تايمز” فَــإنَّ “اتّجاهَ الدول لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وبحث هذه الدول عن بديلٍ لسياسات الولايات المتحدة يعني أن هناك نظامًا عالميًّا جديدًا يتشكَّل”.
إلغاءُ القوة الناعمة:
في عهد ترامب، بدأت أركان إدارته تُردِّدُ أن القوةَ الناعمة غيرُ مهمة، طالما أن أمريكا تستطيعُ تحقيقَ أهدافها باستخدام قوتها الصُّـلبة. وقد أظهر ترامب عدمَ اهتمام بالدبلوماسية العامة، وبدا هذا واضحًا بتراجع ملحوظٍ في اهتمام واشنطن بتطوير علاقاتها مع الشعوب. فما بدأه البيتُ الأبيض مع كندا والمكسيك -الأقرب جغرافيةً للولايات المتحدة الأمريكية- من تحوُّلٍ استراتيجي في العلاقة معها كان أقربَ المؤشرات للتحول نحو القوة الصُّـلبة وممارساتِ الضغوط الاقتصادية، والتلويح بالقوة العسكرية، ودعم الفوضى، والانقلابات، وكل السبل التي تمثل القوة القاسية. والتي لم تستثنِ الأصدقاءَ والأعداءَ على السواء.
وكانت “صفقةُ القرن” التي أعلنتها أمريكا، مثالًا صارخًا عن حالة الغطرسة الأمريكية الإسرائيلية، حَيثُ رفعت أسهم مشاعر العداء للولايات المتحدة في الدول العربية، وإن لم تستطع الشعوب التعبير عن تلك المشاعر في ظل تقييد أنظمة عربية لحرية التعبير، واستخدام القوة في قهر الشعوب.
ويحضُرُ الموقفُ اليمني، عربيًّا، إقليميًّا ودوليًّا، ليفرِضَ احترامًا لبلدٍ يقفُ بكرامةٍ مع فلسطينَ المستباحة كنموذج أخلاقي شجاع، في مواجهة لا أخلاقية أمريكية إسرائيلية، بينما يشاهدُ العالَمُ هذه المواجهة اللامتكافئة مع العنجهية الأمريكية، وإصرار اليمن على المضي بقوة وشجاعة، ترفع من أسهمه كبلد يستحق تقدير واحترام العالم مقابل استحقار لأمريكا القوة والغطرسة والدموية، وهذا ما يرتسم في ذاكرة الشعوب والنخب، حَيثُ تسرِّعُ القوةُ من تراجُعِ جاذبية أمريكا الديمقراطية، وتعزز أُكذوبة شعارات العدالة وحقوق الإنسان، التي مَلَّ العالَمُ من سماعها على لسان قادة أمريكا.
في بدايةِ العام 2017 كان ريتشارد هاس، رئيسُ مجلس العلاقات الأمريكية، والدبلوماسي الأمريكي السابق، قد أعلن عن نهاية النظام العالمي الذي تشكل منذ نهاية الحرب الباردة وبداية “عصر الفوضى” الذي تسودُه التهديداتُ والتحولات السريعة وغير المتوقَّعة في كتابه المعنون “عالمٌ تكتنفُه الفوضى: السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم”.
ووفقًا لـ”هاس”: “لم يعد النظامُ العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة قابلًا للاستمرار بعد انهيار أركانه الأَسَاسية”، مع انتشار القوة بين عدد كبير من الفاعلين في عصر العولمة، وصعود الظواهر والتهديدات العابرة للحدود، مثل: الأوبئة، والتهديدات الإرهابية، والقرصنة البحرية، بالإضافة لتصاعُدِ التنافس بين القوى الكبرى (كما يحصل اليوم بين أمريكا والصين)، وأزمات الثقة بين الحلفاء (كما هو بين أمريكا وأُورُوبا، وبين أمريكا وأصدقائها حول التعريفات الجُمركية)، وتزايد النزاعات المسلحة، وعدم الاستقرار الداخلي الذي وصلت تجلياتُه إلى الولايات المتحدة.
وكما يقول توماس رايت، صاحب كتاب “التنافس على القرن الحادي والعشرين ومستقبل القوة الأمريكية”: “فَــإنَّ التحولات في السياسة الأمريكية تسببت في عدم الاستقرار في النظم الإقليمية؛ بسَببِ تراجع فاعلية الدور الأمريكي في دعم الاستقرار في هذه الأقاليم، وتوتر علاقات الولايات المتحدة بحلفائها، وتراجع جاذبية النموذج الليبرالي الديمقراطي الذي يعد الدعامة الأَسَاسية للدور الأمريكي في العالم.
وفي كتاب “عالم جديد خطير: نهايةُ العولمة وعودةُ التاريخ”، أشار ستيفن كينج إلى وجود ارتداد عن الليبرالية على مستوى العالم، وصعود للسلطوية السياسية منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وهو ما يرتبط بحالة الإنهاك التي تمر بها الولاياتُ المتحدة التي تسببت في تراجعها عن أداء دورها بالتوازي مع أزمة البقاء التي يمر بها الغربُ بصفة عامة، وهو ما أكّـده بيل إيموت في كتابه “مصير الغرب” الذي ركّز على تأثيرات صعود اليمين المتطرف وانفصال بريطانيا عن الاتّحاد الأُورُوبي وأزمة الديون الأُورُوبية.
ويرى فينبار ليفزي في كتابه “من العالمية إلى المحلية: صناعة الأشياء ونهاية العولمة”: أن “التحوُّلاتِ التكنولوجيةَ وصعودَ الطباعة ثلاثية الأبعاد، والاعتماد على الروبوتات في الصناعة، سوف تدفعُ الشركات للتصنيع داخلَ الدول التي يتم فيها تسويقُ المنتجات بتكاليف منخفضة، مع تراجع جاذبية عوامل رُخْصِ الأيدي العاملة؛ مما سيؤدِّي لنهاية التقسيم العالمي للعمل، وتصدع نموذج “مصنع آسيا”، الذي قام على انتقال الشركات العالمية للتصنيع في الدول الآسيوية، وهو ما يُطلَقُ عليه (العودةُ للنطاق الجغرافي الأقرب بالتناقض مع اتّجاهات نقل التصنيع للخارج سابقًا).
ويرى ديفيد جودهارت في كتابه “الطريق إلى مكانٍ ما: ثورةُ الشعبويين ومستقبل السياسة”، أن “صعود الشعبوية (في أمريكا وأُورُوبا) يُــعَــدُّ بمثابة “ثورةٍ مضادةٍ صامتةٍ”، في مواجَهةِ تهديداتِ العولمة للهُوية والمصالح الاقتصادية للطبقات المهمَّشة وغير المستفيدة من الانفتاح الاقتصادي، حَيثُ تتصاعَدُ اتّجاهاتُ الحِفاظ على الهُوية والخُصُوصية الثقافية.
كُلُّ تلك الإفرازات دفعت إلى تناقُصِ جاذبية السياسة الأمريكية، وعدم الثقة في القيم التي تعبِّرُ عنها؛ فمن الواضح للعالم اليوم أن أمريكا لا يهمُّها سوى تحقيق مصالحها، وقد فقدت مكانتَها بوصفِها قوةً ناعمةً عُظمى؛ نتيجةَ وُضُوحِ النفاقِ في سياساتها، ومشاركتها في إجهاضِ التجاربِ الديمقراطية للدول، ومنع الشعوب من تقرير مصائرها والتعبير عن إرادتها، ودعم حروبِ الإبادة على مرأى ومسمع العالم في فلسطين، ومن قبلُ في البوسنة والعراق، والصومال،…، وهي علاماتٌ للسقوط الأمريكي القريب، حَيثُ القوةُ العسكرية ليست المعيارَ لانتهاء قوة مهيمنة؛ فالاتّحادُ السوفياتي بترسانته الضخمة مثالٌ كافٍ لإدراكِ أن أمريكا ستسقُطُ رسميًّا، وهذا يتوقَّفُ على مدى استخدامِها القوةَ الصُّـلبة؛ فكلما استعجلت السقوطَ لجأت للمزيد من القوة الصُّـلبة.