الخبر وما وراء الخبر

كيف تقودُ سياسات ترامب العالَــمَ إلى استقطابات عالمية جديدة؟

4

ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
6 أبريل 2025مـ – 8 شوال 1446هـ

تقريــر || إبراهيم العنسي

في خطاب ألقاه رئيسُ مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، خلالَ المؤتمر السنوي لجمعية النهوضِ بالتحرير والكتابة التجارية، تناول باول تأثيرَ الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأمريكي والتي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأشَارَ إلى أن هذه الإجراءات قد تؤدِّي إلى ارتفاعِ معدلات التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي.

مع ذلك أكّـد باول أنه من السابق لأوانه تحديدُ المسار المناسب للسياسة النقدية، مُشيرًا إلى أن الاحتياطي الفيدرالي يتمتع بالمرونة اللازمة للانتظار حتى تتضحَ المعطياتُ الاقتصادية.

وفي جانب التضخم، أوضح أن الرسوم الجمركية قد تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم في الأرباع القادمة، مع احتمال أن تكون تأثيراتها أكثر استمرارية؛ مما قد يُشكِّلُ تحديًا على المدى الطويل.

وقبل تناول التصور الأُورُوبي لما يحصل، يكمل “باول” حديثَه باستمرار حالة الضبابية من تبعات تلك السياسات، حَيثُ “إن الاقتصاد الأمريكي يواجه تحديات متعددة نتيجة تأثير الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأمريكي والسياسات التجارية الحالية، ورغم أن مؤشرات النمو وسوق العمل تبدو قوية؛ فَــإنَّ حالة عدم اليقين المحيطة بالتجارة والسياسات الفيدرالية قد تؤثر سلبًا على ثقة المستثمرين والشركات، ومن المتوقع أن يستدعي ذلك مراقبة دقيقة من قبل الاحتياطي الفيدرالي واتِّخاذ إجراءات استباقية لضمان استقرار الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل”.

إلى ما سيقود هذا؟

في تحليل لتفاعلات الصورة مع السياسة الترامبية في جانب أُورُوبي آسيوي، أشار “هال براندز” الأُستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، في مقال نشره موقع “بلومبيرغ”، إلى أنَّ “حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الأُورُوبيين والآسيويين متوترون، جرّاء تهديدات ترامب ورسومه الجمركية، وأنهم يفقدون الثقة بها في الكثير من المجالات، خَاصَّة في الشؤون العسكرية والمِظلة النووية وحتى في الأمور الاقتصادية، وهذا ما يهدّد -بنظر براندز- هيمنةَ أمريكا العالمية”.

تآكُلُ الثقة:
ذلك التوتُّــرُ سيحمِلُ مؤشرات لعالَمٍ متحوِّلٍ، كما يقول براندز؛ فـ “أحيانًا، يكشف حادِثٌ صغيرٌ عن حقائقَ أكبرَ عن عالمنا… لننظر إلى التقارير التي تفيد بأن بعض حلفاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) يعيدون النظر في خطط شراء مقاتلات إف35 أمريكية الصنع. هذه القصة ليست مُجَـرّد طائرة، إنها نافذة على اختلالات القوة والتبعيات الملحوظة في قلب النظام الدولي الحديث. إنها أَيْـضًا لمحة عن إعادة التنظيم الملحمية التي ستحدث إذَا تفكك العالم الحر… فالبرتغال وكندا وحلفاء آخرون في الناتو، ممن أعادوا النظرَ في شراء طائرات إف35، كانوا قلقِينَ من أن الطائرات قد تحتوي على “مفتاح إيقاف” يسمح لرئيس أمريكي معادٍ بتعطيلها، نفت الشركة المصنعة، لوكهيد مارتن، هذه الشائعة على عجل. ولكنَّ هناك مفتاحَ إيقاف مجازيًّا، حَيثُ تتطلَّبُ طائراتُ إف35 الصيانةَ والذخائر وقِطَعَ الغيار وترقيات البرامج، التي يجبُ أن توافق عليها واشنطن.

يضيفُ براندز “بعدَ 10 أسابيع من رئاسة دونالد ترامب، يبدو أن قِلَّةً من الحُلفاء الأُورُوبيين مقتنعون بأن الاعتمادَ على أمريكا هو رهانٌ مضمون. وما إعلان البيت الأبيض عن رسوم جمركية عالمية ضخمة سوى تأكيدٍ على هذا التشكيك. إلا أن الواقع المرير هو أن النظام العالمي الأمريكي ينطوي على اعتماد شديد، يكاد يكون شاملًا، من جانب الحلفاء على قوة عظمى لم تعد تبدو جَديرةً بالثقة”.

ويشرح الوضعَ الصعبَ لأُورُوبا التي تبدو مكبَّلةً بكعب واشنطن، حَيثُ “تعتمدُ الدولُ الأجنبيةُ على اقتصاد عالمي تُقوَّمُ فيه معظمُ معاملاتها بالدولار؛ فتبيع سلعَها في سوقٍ أمريكية ضخمة. وتقود واشنطن بشكل أَسَاسي المؤسّسات الدولية الحيوية، من حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى صندوق النقد الدولي… كما أن ترسيخ الولايات المتحدة لعلاقات استخباراتية في العالم الحر يتضمَّنُ تبادُلًا روتينيًّا لمعلوماتٍ بالغة الحساسية. لقد قبل معظمُ حلفاء أمريكا منذ فترة طويلة، بل ورحّبوا، بنظامٍ تستخدمُ فيه الولاياتُ المتحدة أهمَّ القدرات العسكرية – من النقل الجوي الثقيل إلى الأسلحة النووية – نيابةً عن أصدقائها… وعلى الرغم من أن هذا نظامٌ استثنائيٌّ بكل معنى الكلمة، فَــإنَّه -كما قال براندز- يقلب مفهومنا للسيادة الوطنية رأسًا على عقب؛ بمعنى أن عشرات الدول تعتمد على الولايات المتحدة لتحقيق الرخاء والأمن والبقاء. وعلى عكس تذمُّرِ ترامب الشديد من استغلال الحلفاء لأمريكا؛ فَــإنَّها -أي “أُورُوبا” بحسب الكاتب- تمنحُ واشنطن نفوذًا هائلًا على تلك الدول الصديقة، وتكشفُ عن مدى الهيمنة الأمريكية .

في المحصلة يبدو براندز، المؤرِّخُ الأمريكي، كمن يشعر بأسى على حظ أُورُوبا وقد كُبِّلت بالقيود الأمريكية، وإن كان يستدركُ بآمال ربما لا تستجيب لها نزعة ترامب في الاستحواذ التام والحصول على تعويض أُورُوبا، حَيثُ يفترض ترتيبات استثنائية تتطلب ثقة استثنائية بأن أمريكا لن تخونَ حلفاءَها أَو تستغلَّ اعتمادَهم عليهم باستمرار.

أُورُوبا العدو:

لكنه يعودُ لحقيقة تضعُ أُورُوبا أمام خيارات صعبة وشاقَّةٍ بالحديث عن أن ترامب “يُصِرُّ على أنه سينتزعُ أراضيَ من حلفاء أمريكا في الناتو. وقد سحب (وإن لفترة وجيزة) المساعداتِ الأمريكيةَ من أوكرانيا، ويريد الاستيلاء على ثروات ذلك البلد من الموارد الطبيعية. وقد وصف هو ونائبه، جيه دي فانس، الأُورُوبيين بأنهم أعداءٌ أكثرَ من كونِهم أصدقاءً. وتستغلُّ إدارتُه اعتمادَ الحلفاء والجيران على السوق الأمريكية لشن حروبٍ تجارية عقابية. فالخلافاتُ بين الحلفاء ليست بالأمر الجديد، لكن هذا يبدو مختلفًا، هناك قلقٌ متزايد، وخَاصَّةً في المجتمعِ عبرَ الأطلسي، من أن اعتمادَ الحلفاء يُستغَلُّ الآن من قِبَلِ قوة عظمى ذات توجّـه غير ليبرالي وتعديلي.

مع حالة اليأس التي دَبَّت في القارة العجوز، حَيثُ أمريكا تظهر كقوة غير صديقة للعالم من حولها ولأُورُوبا الحليف، إلا أنه “في الوقت الحالي، لا يستطيع العديدُ من الحلفاء فعلَ الكثير سوى استرضاء واشنطن. أعلن رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، الذي يخوض حَـاليًّا حملة انتخابية، صراحةً أن العلاقة الخَاصَّة لبلاده مع أمريكا قد انتهت. إنه أقربُ إلى الاستثناء منه إلى القاعدة.

ويشرح صورةَ تفاعلات العالم في إطار معيار المصلحة القومية للدول؛ إذ “يحاول رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاهدَينِ إبقاءَ ترامب منخرطًا في أُورُوبا؛ لأَنَّهما يعلمان أن الدفاعَ عن أوكرانيا – وربما الدفاع عن القارة – أمرٌ ميؤوسٌ منه، على المدى القريب، وَإذَا عادت أمريكا إلى الوطن. ولأسبابٍ مماثلة، ستفعل اليابان أي شيء تقريبًا للبقاء في صَفِّ ترامب.

استقطاباتٌ جديدة:

وفي حَالِ استمرارِ الظاهرة الترامبية على ما هي عليه فهذا حتمًا سيقودُ إلى حالة استقطاب عالمي جديد، هي إحدى سماتِ تحولات النظام العالمي نحو ما هو جديد -بحسب براندز- “حتى الحلفاء الذين يفتقرون إلى الثقة في أمريكا ترامب يدركون أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنها. ولكن إذَا استمر هذا التآكل في الثقة، فستكون العواقب وخيمة. قد نشهد انتشارًا لأنظمة دفع غير دولارية، من النوع الذي جرَّبته أُورُوبا خلال ولاية ترامب الأولى. هيمنةُ الدولار تُصعِّبُ الأمور، لكن الرغبة – في أُورُوبا والجنوب العالمي، ناهيك عن العالم الاستبدادي – قائمةٌ بوضوح”.

والأهمُّ أنه “ستكون هناك تجمعات دبلوماسية وعسكرية جديدة للدول الديمقراطية التي تتعاون بشكل أكبر؛ لأَنَّها لا تستطيع الاعتماد على واشنطن بشكل كبير. قد تتحد دول أُورُوبا الشرقية -بولندا، رومانيا، دول البلطيق، أوكرانيا- في تحالف صغير، منفصل عن حلف الناتو، لمقاومة الضغوط الروسية. يُقرّ المحللون اليابانيون بأن تقوية العلاقات مع أستراليا والفلبين والهند وكوريا الجنوبية ودول أُخرى تُعدّ، في الوضع الأمثل، مُكمّلة للتحالف الأمريكي، ولكن في سيناريو أقل جاذبية وأكثر قبولًا، تُشكّل بديلًا عنه”.

وبرؤية المراقب لتشكُّلات العالم الجديد “ستتغيَّـــرُ علاقاتُ التوريد العسكري أَيْـضًا؛ فمن سيرغب في شراء أسلحته الأكثر تطورًا من دولة لم تعد تُشارِكُه مصالحَه الاستراتيجية الأَسَاسية؟! لا تستطيعُ أُورُوبا التخليَ عن طائرة إف35 فجأةً؛ فهي لا تُنتِجُ شيئًا بجودة تُضاهِيها. لكن شراكات مثل الخُطة المُعلنة مؤخّرًا لليابان وإيطاليا والمملكة المتحدة لبناء طائرة مقاتِلة من الجيل التالي قد تزدهر. وستُحفّز رسوم ترامب الجمركية، إلى جانب الرسوم الجمركية المُضادة التي لا مفرَّ منها من الاتّحاد الأُورُوبي، الاكتفاءَ الذاتي العسكري لأُورُوبا، وستكون نعمةً لمُقاوِليها الدفاعيين، وليس أقلها توقُّع عالم أكثر تسلُّحًا بالأسلحة النووية، حَيثُ يخلُصُ الحلفاءُ السابقون إلى ضرورة امتلاكِهم للسلاح النووي النهائي بأنفسهم. وقد بدأت بالفعل مناقشاتٌ حول الأسلحة النووية في كوريا الجنوبية وبولندا وحتى ألمانيا. وَإذَا ثبت عدمُ جدوى توسيع المِظلة البريطانية أَو الفرنسية لتشملَ أُورُوبا -إذ ستحتاج لندن وباريس إلى ترساناتٍ أكبرَ وأكثرَ تطورًا- فقد نشهدُ طَفْرَةً في الردع الوطني الجديد في القارة.

أمامَ هذه الصورة “قد لا يمانِعُ ترامب في هذا: فلطالما اعتقد أن اعتمادَ الحلفاء على أمريكا مشكلةٌ تحتاجُ إلى حَـلٍّ. لكن ربما عليه أن يُعِيدَ النَّظَرَ في هذا الأمر”.

تضاؤل النفوذ:

القاعدة الشرطية مع كُـلّ هذا أنه “إذا توقَّف حلفاءُ الولايات المتحدة عن شراء القدرات الأمريكية المتقدمة، فستقلّ الأموال التي سيحتاجها المقاولون الأمريكيون لصنع أسلحة عالمية (ناهيك عن فرص العمل). وَإذَا تقوضت أولوية الدولار؛ بسَببِ تفكُّك تحالفات الولايات المتحدة، فقد تتضخَّمُ تكاليفُ اقتراض أمريكا، وبالتالي عجزها المالي. وَإذَا تفشَّى الانتشارُ النووي، فسيتضاءلُ نفوذُ الولايات المتحدة”.

ورغمَ أن ترامب يرى أن الأُورُوبيين كانوا أكثرَ استغلالًا لأمريكا فَــإنَّ أُورُوبا تنظُـــرُ من زاوية أُخرى بأن “الولاياتِ المتحدةَ الأمريكية حقّقت مكاسِبَ هائلةً من كونها القوةَ العظمى في قلب كُـلّ شيء، وأن إعادةَ ترتيب العالم التي يدعو إليها ترامب من شأنها أن تُضعِفَ بلادَه أيضًا”.