الخبر وما وراء الخبر

نتعاطف مع ضحايا حلب في جانبي خطوط القتال مثلما نتعاطف بالقدر نفسه مع ضحايا “عاصفة الحزم” الذين لا بواكي لهم..

186

والغضب يجب ان يتوجه الى امريكا وحلفائها العرب الذين لم يتدخلوا عسكريا لوقف المجزرة.. الشعبان السوري واليمني مثل الفلسطيني والعراقي والليبي ضحايا “لعبة امم” دموية..

بقلم / عبد الباري عطوان

بات الوضع اكثر هدوءا في مدينة حلب بشقيها الغربي الخاضع للسلطة، والشرقي الواقع تحت سيطرة قوات المعارضة المسلحة، بشقيها “المعتدل”، و”الجهادي” المتشدد، بعد المجازر التي وقعت طوال الايام الماضية، وادت الى مقتل 350 شخصا نتيجة القصف من الجانبين للاحياء المدنية، حسب بيانات المصدر السوري لحقوق الانسان الذي يتزعمه السيد رامي عبد الرحمن المعارض.

الحكومة السورية التي تحاصر مدينة حلب شنت طائراتها 260 غارة و110 قصف مدفعي، واطلقت 18 صاروخا منذ انهيار وقف اطلاق النار قبل ثمانية ايام، حسب منظمة الدفاع المدني، وردت قوات المعارضة بقصف صاروخي ومدفعي على الاحياء الواقعة تحت سيطرة قوات النظام.

كان لافتا ان الدول الداعمة للمعارضة السورية المسلحة اكتفت بـ”الهجمات الاعلامية” على شاشات تلفزيوناتها، ووسائط التواصل الاجتماعي كرد فعل على الخسائر الكبيرة، المؤلمة والوحشية، التي وقعت في اوساط المدنيين في الجانب المعارض، ولم تتدخل مطلقا بطائراتها لحماية هؤلاء، وهي موجودة في الاجواء السورية والعراقية في اطار التحالف الستيني ضد “الدولة الاسلامية” بزعامة امريكا.

غارات طائرات النظام وبراميلها احدثت الكم الاكبر من الدمار والخسائر البشرية، خاصة قصفها لمستشفى القدس الميداني، الذي ادى الى مقتل خمسين شخصا على الاقل، من بينهم اطفال ومرضى ومصابين، ولكن صواريخ المعارضة التي استهدفت المواقع المدنية الخاضعة لسيطرة النظام، احدثت ايضا خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، وتعرضت محطة “بي بي سي” البريطانية الى حملة شرسة على وسائل التواصل الاجتماعي لانها تحدثت عن هذه الخسائر في الطرف الآخر، فكل طرف لا يرى غير ضحاياه فقط، في ظل حالتي الشيطنة والاستقطاب اللتين اتسمت بها الازمة السورية منذ بدايتها قبل خمس سنوات.

***

من المؤكد ان المقارمة بين الضحايا الذين سقطوا ببراميل النظام وغارات طائراته، ونظرائهم الذين سقطوا من جراء القصف الصاروخي للمعارضة على الجانب الشرقي الواقع تحت سيطرة النظام في غير محلها، لان حجم القدرات التدميرية للنظام وقواته وطائراته اكبر بكثير، لكن المقارنة بين طائرات “عاصفة الحزم” وصواريخها الفتاكة، وبين قدرات التحالف “الحوثي الصالحي” في غير محلها ايضا، وكل الضحايا في الحالين، وفي الجانبين من العرب والمسلمين.

اللافت ان هناك اتفاقا بين القوتين العظميين على استثناء مدينة حلب وريفها من اي اتفاق لوقف اطلاق النار، لان الدولتين، امريكا وروسيا، متفاهمتان على ضرورة القضاء على قوات “جبهة النصرة” و”الدولة الاسلامية”، المصنفتين على قائمة “الارهاب”، واعطاء الضوء الاخضر لقوات النظام وطائراته للقيام بهذه المهمة، بغطاء جوي روسي، وهذا ما يفسر صمتهما، وخاصة الولايات المتحدة، طوال الايام القليلة الماضية التي شهدت اعمال القصف غير المسبوقة منذ بداية الازمة، ولم تتدخل الاخيرة مطلقا، عسكريا او دبلوماسيا، لوقف المجازر، فماذا نفسر ذلك غير التواطؤ؟

الدولتان العظميان تدركان جيدا انه من الصعب استئصال تنظيمي “النصرة” و”الدولة الاسلامية” دون اراقة دماء زكية، لان هاذين التنظيمين متغلغلان في المناطق السكنية، وهذا امر متوقع، لان خروجهما من هذه المناطق التي تشكل غابات حماية اسمنتية، يعني تصفيتهما بكل سهولة من قبل الطائرات الروسية والسورية.

ادانة النظام باقوى العبارات وتحميله المسؤولية الاكبر عن ازهاق ارواح الضحايا من قبل الكثيرين، وخاصة اصحاب الامبراطوريات الاعلامية الجبارة، امير مشروع، لكن هذه الادانة يجب ان تتوجه ايضا الى الدول الحليفة والداعمة للمعارضة، والعربية منها على وجه الخصوص، التي وقفت موقف المتفرج، واكتفت بطلب عقد جلسة لمجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين يوم الاربعاء المقبل، اي بعد توقف المعارك نتيجة اتفاق روسي امريكي شبه مؤكد، وهذا بيع “الوهم” و”الخذلان” للشعب السوري الضحية، وحالها كحال من “يرش على الموت سكر”.

الاشقاء اليمنيون الذين يعيشون ومنذ اكثر من عام تحت قصف طائرات “عاصفة الحزم”، الذي استهدف مزارع دواجن، واسواق شعبية، ومستشفى “شهار” في صعدة، يشعرون بالالم، لان التعاطف معهم كان، وما زال، محدودا جدا، ومن حقهم ان يتوقفوا كثيرا عند بيان مجلس التعاون الخليجي الذي ادان قصف البراميل “الرسمية” السورية، ونحن معه،  بينما يقدم الدعم والمساندة لقصف صواريخ طائرات “عاصفة الحزم” السعودية، الاكثر حداثة، التي تقتل اليمنيين في عملية انتقائية غير مقبولة على الاطلاق.

***

روسيا اللاعب الرئيسي في هذه الحرب السورية، والتي تحظى بدعم امريكي لا يمكن تغطيته، تقترب من تحقيق الجانب الاكبر من اهدافها الثلاثة الرئيسية التي كانت تقف خلف تدخلها، ولا بد من ذكرها اذا اردنا ان نفهم ما يجري حاليا على الارض السورية.

  • الاول: حماية المنطقة العلوية الساحلية، حيث توجد قواعدها البحرية والجوية، ولوحظ ان هذه المنطقة ظلت هادئة حتى الآن.

  • الثاني: تعزيز موقع الرئيس بشار الاسد، والحيلولة دون سقوط المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية، في ايد قوات المعارضة المسلحة، والاسلامية المتشددة على وجه الخصوص، مثل “جبهة النصرة” و”الدولة الاسلامية”.

  • الثالث: قطع خطوط امداد المعارضة المسلحة، ومنع وصول الامدادات العسكرية لها من اسلحة وذخائر، خاصة تلك القادمة من تركيا.

يبدو واضحا ان الهدفين الاول والثاني تحققا حتى الآن كليا، فلم تقع اي هجمات جدية على اللاذقية وطرطوس منذ التدخل العسكري الروسي، ولم تقع اي مدينة كبرى اخرى في يد المعارضة، منذ سقوط ادلب وجسر الشغور المحاصرتين حاليا، بل حدث العكس، اي اخلاء حي الوعر في حمص، بعد حصار تجويعي خانق من قبل قوات الجيش السوري استمر العامين.

المعارك المحتدمة حاليا في حلب جاءت بسبب تقدم قوات الجيش السوري باتجاه معبري اعزاز وباب الهوى على الحدود التركية السورية، بهدف قطع الطريق على امدادات المعارضة القادمة عبر الاراضي التركية، وجرى قطع نصف الطريق الى المعبر الاول (اعزاز) بعد سيطرة قوات سورية الديمقراطية الكردية، ويبدو ان عدم التدخل الامريكي، والحلفاء الاتراك، والعرب، لوقف المعارك كان يريد اكمال السيطرة على النصف الآخر.

***

الاوضاع في سورية تسير نحو الاسوأ، والضحايا من المدنيين في جانبي الصراع هم الذين يدفعون الثمن من دمائهم وارواحهم قتلا وتدميرا وتهجيرا، في اطار “لعبة امم” دموية كبرى.

ربما ستهدأ حلب نتيجة الاتفاق على هدنة، ولكنها ستكون هدنة مؤقتة حتما، لان الاولوية بالنسبة للدولتين العظميين هي اجتثاث “النصرة” و”الدولة الاسلامية”، ولكن بالتقسيط المريح لهما، وعلى مراحل، ودون اي اعتبار او حرص، على المدنيين الذين سيسقطون من جراء ذلك، وكل هذا التعاطف الشعبي العربي لن يغير من الواقع كثيرا، مسموح به من قبيل التنفيس وامتصاص حالة الغضب ليس اكثر.

سامنثا فوكس سفيرة الولايات المتحدة في مجلس الامن اكدت مرة اخرى على ما قاله رئيسها كيري، وقبلهما الرئيس اوباما، وهو ان امريكا لن تخوض حربا عالمية ثالثة مع روسيا من اجل المعارضة السورية، وهنا تكمن الماسأة والخديعة الكبرى في سورية التي لا تقل، في رأينا، عن خديعة اسلحة الدمار الشامل العراقية.

نبكي على حلب، وضحاياها جميعا، وندين مرتكبيها بأقوى الكلمات والبيانات، وتستمر المجازر، ومعها الحملات على وسائط التواصل الاجتماعي، اما ضحايا “عاصفة الحزم” من الابرياء الفقراء المعدمين في اليمن فلا بواكي لهم، وهنا تكمن المأساة الكبرى، والنفاق في ابشع صوره.

اللافتة التي حملها احد السوريين اللاجئين في طرابلس وقد لف عنقه بعلم “المعارضة” وقال فيها “طز بحرياتكم.. طز بانسانيتكم.. عالم منافق” هي اروع تعبير، واقوى من كل العبارات، وتلخص الموقف في سورية بأبلغ وصف.

الضحايا العرب والمسلمين بالنسبة الينا سواسية، وفي اي ارض سقطوا، سواء بالبراميل، او الصواريخ الفتاكة الحديثة، فهم بشر، وهم اهلنا وابناء جلدتنا، وعقيدتنا، ولا نبكي على طرف ونتجاهل الآخر، وهنا يكمن الفرق.