الخبر وما وراء الخبر

ترامب في عالم أمريكا الجديد.. مؤشراتُ الانكفاء والبحث عن ذات أمريكا الضائع

7

ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
25 نوفمبر 2024مـ – 23 جماد الأول 1446هـ

تقريــر|| ابراهيم العنسي

في العام 2019 أجرت مجلةُ “النيوز ويك” الأمريكية مقابلةً مع الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.. كانت النقطة الأهم التي أشار إليها أن أمريكا على مدار عمرها المقارِب 250 عامًا لم تنعَمْ باستقرار سوى 16 عامًا، ثم يسرُدُ كَثيرًا من تفاصيل ما بدَّدته من تريليونات على حروبها العبثية.

وأمام تلك الصورة لواقع أمريكا، حَيثُ كان مِلَفُّ الاقتصاد محورَ اهتمام الناخب الأمريكي، وسببًا لعودة ترامب في جزء منه: هل تعود أمريكا لحالة الانكفاء على الذات خَاصَّة بعد قرابة قرن من صراعات صنعتها حول العالم، وتدخلات لممارسة سلوك الهيمنة، والحديثُ هنا عن فترة بدأت منتصف القرن الماضي ومُستمرّة حتى اليوم؟

ما تعنيه عودةُ ترامب للمشهد الرئاسي بعد مسلسل طويل من المواجهات القانونية في المحاكم التي لم تنتهِ إلى الآن، ومحاولة اغتيال أثناء حملته الانتخابية، وعلاقة ذلك بالدولة العميقة التي تحدث عنها ترامب؟ والملامح التي ستكونُ عليها فترة حكْمُ ترامب الثانية، خَاصَّةً في المنطقة العربية في ظل معطيات الاقتصاد والأمن الأمريكي، وتوجّـهات اليهودِ في الداخل الأمريكي مع تنامي الشعور السلبي في العالم تجاههم.

ترامب سيكون أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية منذ “جروفر كليفلاند” قبل 130 عامًا يخدمُ فترتين غير متتاليتين، حَيثُ لا يمنحُه الدستور الأمريكي فرصةً أُخرى للترشح لفترة ثالثة.

بشخصيته النرجسية الانتهازية المتقلبة، وعقلية التاجر الباحث عن المكاسب قدَّمَ نفسَه منذ البداية كرئيس جديد؛ مِن أجلِ التغيير مقابل من سبقه من تيار الجمود السياسي والمؤسّسة الراكدة، سواءٌ أكان ذلك خلال الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الجمهوري، أَو خلال مواجهته للمرشحة الديمقراطية “هيلاري كلينتون”، أَو خلال سنوات حكمه الأولى، ولم تكن شخصيته وممارساته للحكم تروقُ للكثير من النخب المؤثرة داخل أمريكا، فيما كان سقوطُه في انتخابات 2020م، وسيلةً عبَّرت بها تلك النُّخَبُ عن فرحة الخَلاص من شخصية شكّلت تهديدًا لقوى كثيرة في الداخل قبل الخارج.

والتحدي الأكبر أمام ترامب أنه يبحث عن كسر قاعدة الحكم المعمول بها في أمريكا، وهي تعدد الفترات الرئاسية، إذ لا يملك ترامب دستورياً حق خوض انتخابات جديدة، عقب انقضاء فترة حكمه الثانية، من هنا يصعب تصور المسار الذي سيسلكه لتحقيق وعوده.

وقد بدأت التساؤلاتُ عما إذَا كان يحقُّ للرئيس الجمهوري المنتخَب أن يرشِّحَ نفسَه لولاية ثالثة، خَاصَّة وأنه أطلق مُزحةً بهذا الخصوص في الحملة الانتخابية، إلى جانب أنه أبدى إعجابَه بتجربة الصين التي تخوّل للزعيم شي جين بينغ أن يكون “رئيسًا مدى الحياة” بعد إلغاء تقييد الرئاسة بمدتين، وسيحضر لدى ترامب أن الرئيس الأمريكي “فرانكلين روزفلت” الرئيس الأول تولَّى رئاسة أمريكا أكثر من فترتين.

كتأكيد على شخصيته المتقلبة التي لا تعطي الأيديولوجية الحزبية أهميّةً تظهر سجلات ترامب أنه غيّر انتماءَه السياسي 5 مرات منذ انضمامه إلى الحزب الجمهوري عام 1987.

في عام 1999 انضم إلى “حزب استقلال نيويورك”، وفي عام 2001 انضم إلى الحزب الديمقراطي، ثم عاد جمهوريًّا في عام 2009، ولم ينتسب إلى أي حزب عام 2011، وأخيرًا عاد إلى الحزب الجمهوري في عام 2012.

تصفُه ماري ترامب -أخصائية علم النفس وابنة شقيقه فريد جونيور- في كتابها “كثيرٌ جِـدًّا ولا يكفي أبدًا”: كيف خلقت عائلتي أخطرَ رجل في العالم” (الصادر عام 2020) بكونه كان عُرضةً لـ “الإهمال العاطفي”، ففي غياب والدتِه، أَو مرضها عانى من قساوة الأب، الذي كان يفضِّل ابنًا قويَّ الشخصية، وهو ما كان من شأنه -بحسبها- “أن يترك ندبة على حياة دونالد مدى الحياة، ويؤدي إلى مظاهر النرجسية، والتنمُّر والعظمة، التي طبعت سلوكَه لاحقًا.

 

تذهب التحذيراتُ إلى أن العودة لولاية ثانية في البيت الأبيض من شأنها أن تمنح ترامب سلطةً واسعة “للانتقام” وتطبيق سياساته بفعالية أكبرَ؛ مما يشكل “تهديدًا خطيرًا للمؤسّسات الديمقراطية الأمريكية والعلاقات الدولية”، حسب صحيفة “إيكونوميست” البريطانية.

وتشير الصحيفة إلى أن السياسةَ الخارجية تحت إدارة ثانية لترامب ستثير قلقًا واسعًا على المستوى العالمي؛ فنهجُه غيرُ المتوقع في السياسة الخارجية يعزز حالة عدم اليقين بين الحلفاء والخصوم.

الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وهي حارسٌ للرأسمالية العالمية، تمثل شبكةً معقَّدةً من المصالح لشركات كبرى مثل “لوكهيد مارتن” و”بوينغ”، و”المجمع العسكري الصناعي” ككل، حَيثُ يدفع نحو حالة حرب مُستمرّة.

إلى جانب شركاتِ التكنولوجيا كأذرع جديدة للهيمنة، تسيطر على تدفق المعلومات، وتحلّل البيانات لتوجيه الرأي العام، وتطوير أدوات القتل والتدمير باستخدام الذكاء الاصطناعي، ومعها الأدوات الأمنية والعسكرية، والبيروقراطية، والبنوك، وشركات الأدوية، وحتى نظام الحزبَينِ في الولايات المتحدة، الذي يقدم خيارات ديمقراطية للشعب، هو في الحقيقة أدَاةٌ لضمان استمرار سيطرة الدولة العميقة.

فالمرشحون يتم اختيارُهم بـ “عناية” بما يتماهى مع أجندة هذه الشبكة، ولا يصل إلى سدة الحكم من يهدّد هذه المصالح بشكل حقيقي.. هذه العناصر التي تمثّل شبكة المصالح هي بمجموعها ضمان استمرار النظام الرأسمالي العالمي لخدمة نخبة الدولة العميقة.

في السابع عشر من يناير عام 1961، ألقى الرئيسُ الأمريكي الأسبق “دوايت أيزنهاور” خطابَ رحيله عن الرئاسة، ومن أهم ما قاله فيه كتحذير شديد اللهجة: “إن على الأمريكيين أن يأخذوا حذرَهم من “المجمع العسكري الصناعي” الذي يزداد نفوذُه في أعقاب الحرب العالمية الثانية باطِّراد في كُـلّ مناحي الحياة، ويؤثر في القرارات المصيرية للأمريكيين والعالم”.

ومع تسارع العولمة، أصبحت الشركات العابرة للقارات تقودُ الاقتصاد العالمي وتسيطر عليه.

لم تعد الدولة الفاعِلَ الرئيسَ، بل أصبحت أشبهَ بخادمة لهذه الشركات العملاقة، وَأَدَّى هذا الواقع إلى حالة من الغضب والتمرد، خَاصَّةً بين الطبقة العاملة البيضاء التي شعرت بأنها تعرضت للخيانة من قبل النخب السياسية والاقتصادية، وقد تم توجيهُ هذا الغضب من قبل تلك النخب نحو المهاجرين، والأقليات، حَيثُ صُوِّروا على أنهم السببُ وراء معاناتهم، مما زاد من حدة الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي على مبدأ “فرِّقْ تَسُدْ”.

 

فترةُ رئاسة ترامب الأولى كانت مليئة بالصراعات، حَيثُ واجه مقاومة شديدة من الدولة العميقة، التي استخدمت كُـلّ أدواتها السياسية والقضائية والإعلامية لإفشال برامجه، تعرض ترامب لتحقيقات قضائية وجنائية متعددة، وواجه هجومًا مُستمرًّا من وسائل الإعلام التي صوَّرته على أنه خطرٌ على الديمقراطية الأمريكية، واتهموه بأنه يريد تدميرَها وتنصيبَ نفسه كديكتاتور.

اليوم، وفي ظل سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري، وولاء أغلبِ الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس له أَو خوفهم منه، واستعادة الجمهوريين للأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، إضافةً إلى هيمنة المحافظين على المحكمة العليا، فَــإنَّ ترامب قد يتمتعُ بصلاحيات غير محدودة، يعيد من خلالها تشكيل الولايات المتحدة.

يزيد على ذلك حديثُه عن تفويضٍ شعبي بعد أن فاز بأغلبية الأصوات على المستوى الوطني، وفي المجمع الانتخابي، أشار إلى ذلك بعد فوزه في الانتخابات حين قال: (لقد منحتنا أمريكا تفويضًا غيرَ مسبوق).

قالت كارولين ليفات، المتحدثة باسم الفريق الانتقالي لترامب، في بيان: “أعاد الشعب الأمريكي انتخابَ الرئيس ترامب بهامش كبير؛ مما منحه تفويضًا لتنفيذ الوعود التي قطعها خلال حملته الانتخابية، وسوف يفي بوعوده”.

هذا الإنجازُ الانتخابي يشير إلى توجّـه الشارع الأمريكي الذي حاول الإعلام الأمريكي في انتخابات 2020 تصويرَ ترامب على أنه “كارثة” على أمريكا، وأنه يجب التخلص منه، فضلًا أن يعودَ للبيت الأبيض من جديد، واليوم يعود ترامب مسكونا بهاجس الانتقام من “الدولة العميقة” التي نظر إليها على أنها وراء فشله في الانتخابات الرئاسية السابقة.

. منذ إعلان فوز ترامب، تعكفُ الدوائر المعنية داخل واشنطن، وحول العالم، على البحث في طبيعةِ فترة حكمه الثانية، وإلى أي مدى سيختلف ترامب في فترة حكمة الأولى عن ترامب الذي سيحكم خلال الفترة 2024-2028، في ظل حقائقَ سطحية الرجل السياسية وثقافته الهزيلة وشخصيته المتنمرة، وعقلية من يبحث عَمَّا هو أكثر من حكم الأربعة أعوام، وعَمَّا هو أكبر من أيديولوجيات الحزب والولاء الديني، وولهه الشديد بالمكاسب والمزيد من الثروة.

ومن أجل أن يعيد تشكيل أمريكا هناك عوائق عاش معها في فترة رئاسته الأولى؛ فهناك ما يحد من تحَرّكات الرئيس ويحجِّمُ ذلك التحَرّك.

ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، أن الفريق الانتقالي للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب يدرس مشروع أمر تنفيذي من شأنه تكوينُ لجنة تتكوّن من كبار العسكريين المتقاعدين الذين ستكون لديهم سلطة مراجعة والتوصية بإقالة جنرالات في الجيش.

هذه اللجنةُ المقترحة، التي تسمى بـ “مجلس المحاربين”، متوافقة مع تعهُّدات حملة ترامب بتخليص الجيش مما وصفه بالقادة “التقدميين” المهتمين بسياسات تنوُّع الأفراد داخل المؤسّسة العسكرية.

لقد تعهّد الرئيس الأمريكي المنتخَب دونالد ترامب خلال حملته لفترة ثانية بتطهير الجيش ممن وصفهم بالجنرالات التقدميين.

والآن بعد أن أصبح رئيسًا منتخبًا، فَــإنَّ السؤال المطروح في أروقة وزارة الحرب الأمريكية “البنتاغون” هو ما إذَا كان سيذهب إلى أبعد من ذلك بكثير؟

فمن المتوقّع أن تكون لدى ترامب وجهةُ نظر أكثرُ قتامة عن قادته العسكريين في ولايته الثانية، بعد أن واجه مقاومةً من البنتاغون بشأن كُـلّ شيءـ، بَدءًا من شكوكه تجاه حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى استعداده لنشر قوات لقمع الاحتجاجات في الشوارع الأمريكية.

 

جنرالات سابقون في فترة ولاية ترامب الأولى ووزراء حرب في الولايات المتحدة كانوا من بين أشد منتقديه، ووصفه بعضهم بأنه “فاشي” وأعلنوا أنه لا يليق بالمنصب.

وأثار ذلك غضبَ ترامب، ودفعه للقول إن رئيس هيئة الأركان المشتركة السابق في ولايته الأولى، مارك ميلي، يمكن إعدامُه بتهمة “الخيانة”.

ويقول مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون: إن ترامب سيعطي الولاءَ أولويةً في فترته الثانية، ويتخلص من العسكريين والموظفين الذين يرى أنهم غير مخلصين له.

وقال السيناتور الديمقراطي جاك ريد -رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ: “صراحةً.. سيدمّـر ترامب وزارة الدفاع. سيتدخل وسيقيل الجنرالات الذين يدافعون عن الدستور”.

ويمكن أن تكونَ قضايا “الحرب الثقافية” أحد أسباب الخلاف المحتدم؛ فقناة “فوكس نيوز” سألت ترامب في حزيران الماضي عما إذَا كان سيطرُدُ جنرالات وصفوا بأنهم “تقدميون”، وجاء رد ترامب: “سأطردهم، لا يمكن أن يكون لدينا جيشٌ من التقدميين”.

وصوّت نائبُ الرئيس المنتخَب ترامب، جي دي فانس، عضو مجلس الشيوخ العام الماضي ضد تأكيد تعيين براون رئيسًا لهيئة الأركان المشتركة، وكان “فانس” من منتقدي المقاومة المتصوَّرة لأوامر ترامب داخل البنتاغون.

وقال فانس في مقابلة مع تاكر كارلسون قبل الانتخابات: “إذا كان الناس في حكومتك لا يطيعونك، فعليك التخلُّصُ منهم واستبدالُهم بأشخاص يستجيبون لما يحاول الرئيس القيام به”.

 

تعهّد ترامب خلال حملته الانتخابية بتقليص دور “شرطي العالم” الذي تقوم به الولايات المتحدة، مع تعزيز رفض أمريكا لتحمُّلِ تكلفة حروب لا تخدم مصالحها المباشرة، والتركيز على إعادة أمريكا كـ “دولة قومية” وإنقاذ البنية التحتية المتهالكة، وحماية رأس المال الوطني بدلًا من رأس المال “المعولم” إلى جانب إعادة المصانع وتشغيل العمال الأمريكيين لتحقيقِ الرفاهية الوطنية، ضمن شعار “جعل أمريكا عظيمة ثانيةً”.

مشاكلُ المهاجرين واللاجئين الشرعيين وغير الشرعيين ستكون من أهم المِلفات التي سيركز عليها، إضافةً إلى الحرب الدائرة في أوكرانيا المفتوحة، وما قد تقود له من صراعٍ غربي تكون للولايات المتحدة والعالم جزءٌ منه في ظل التهديدات النووية.

استنادًا إلى نهجِ “أمريكا أولًا” في التعامل مع التجارة، ستتخذُ إدارة ترامب مسارًا “تصادميًّا “في العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والاتّحاد الأُورُوبي، وغالبًا ما تصوّر العجز التجاري مع الاتّحاد الأُورُوبي على أنه غير عادل للمصالح الأمريكية.

شكوكُ ترامب تمتدُّ إلى مختلف المؤسّسات المتعددة الأطراف، بما في ذلك الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، فضلًا عن الاتّحاد الأُورُوبي نفسه.

ويعكس انسحابُ إدارته من اتّفاق باريس للمناخ، وخفض التمويل للعديد من برامج الأمم المتحدة تفضيلَ الصفقات الثنائية على الالتزامات المتعددة الأطراف.

وتظهر سياسات ترامب في الشرق الأوسط وأُورُوبا أولوية إدارته، في إعادة تعريف الولايات المتحدة للمشاركة الدولية على أَسَاس أكثر تركيزًا على الذات الأمريكية.

ستعيد سياساته تشكيل التحالفات بديناميكيات جديدة، تستندُ على التحديات والفرص التي ينطوي عليها نهجُ “أمريكا أولًا” في التعامل مع السياسة الخارجية، كنقطة مرجعية لنطاق وحجم النفوذ الأمريكي في الخارج.

سياسةُ ترامب تجاه أُورُوبا قامت منذ فترة حُكمه الأولى على مطالَبة حلفاء الناتو بزيادة الإنفاق الدفاعي، وانتقد ترامب مرارًا وتكرارًا الدولَ الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، وخَاصَّة ألمانيا؛ بسَببِ ما اعتبره إنفاقًا دفاعيًّا غير كاف.

الولاياتُ المتحدة اليوم تواجهُ تحدياتٍ استراتيجيةً تهدّد مكانتها كقوة عالمية مهيمنة؛ فقرارات ترامب في تعامله مع الكيان الإسرائيلي رغم تعيينه مؤيدين صقورًا للكيان الغاصب ستكون حاسمةً في رسم مستقبل أمريكا، في ظل معطيات صمود المقاومة في غزةَ ولبنان، مدعومًا بتحولات إقليمية ودولية، يجعل الرهان على الكيان الإسرائيلي الغاصب رهانًا خاسرًا، فـ “أمريكا أولًا” لا تلائمُ سياسةَ “تل أبيب” اليوم جُملةً وتفصيلًا؛ إذ إن مشاريع التصفية والتوسُّع في فلسطين لن يسمح بها محور “المقاومة” على الأقل، هذا ما لم تتحَرّك الدول المجاورة أَيْـضًا لمنع المشروع الإسرائيلي، وهذا أمرٌ محسوم، ومقابل هذا تكون أمريكا بين خيارين: إما كبح جماح النتن ياهو بإيقاف حرب غزة ولبنان، أو دعم كيان العدو، والثمن المزيد من الفوضى والنزيف المالي والخسائر الاقتصادية لأمريكا، قبل اقتصاد الكيان، وربما حرب واسعة تتعارض بالمطلق مع توجّـه ترامب نحو بناء الداخل الأمريكي، وفوق هذا وذاك المزيد من الغضب والاحتجاج في أمريكا نفسها وهذا ما لم تقبله سياسة ترامب، حَيثُ سيكون حريصًا على الوقت في تجاوز معضلات الداخل “الدولة العميقة” والشروع في تنفيذ سياساته الاقتصادية؛ مِن أجلِ “أمريكا العظيمة” من جديد.

فيما يخص علاقته مع إيران، فَــإنَّ اتِّباع سياسة صارمة لن تكونَ في مصلحة أمريكا اليوم في ظل الكلفة الباهظة للتدخل الأمريكي، حَيثُ إن خيارَ إعادة إحياء الاتّفاق النووي مع طهران أفضلُ الطرق التي ستعطي واشنطن وترامب حيزًا زمانيًّا للتفرُّغ لما هو أهم في نظره؛ مِن أجلِ إنقاذ أمريكا التي استهلكت؛ مِن أجلِ مصالح الغير.

وفي اليمن، لا يبدو أن ترامب -وفق معطيات توجهاته القادمة- يرغب بخوض معركة عسكرية كبيرة، حيث أن الخيارات المتاحة للولايات المتحدة وأوروبا فيه محدودة ومحفوفة بالمخاطر.

ومن مصلحتِه لأجل ذلك أن تتوقَّفَ حرب غزة ولبنان، ومعها يتوقف حصار اليمن البحري على الكيان الغاصب، واللجوء للخيار السياسي في اليمن، طالما أن التصعيدَ سيوقد هذه المرةَ نارًا أكبرَ مما كان في فترة رئاسته الأولى، ستزيدُ من التهديدات البحرية، وتُشعِلُ حربًا مع الجوار الذي لم يعد يرغبُ في أية حرب، حَيثُ ترفع السعوديّةُ اليوم شعارَ “السعوديّة أولًا”.