الخبر وما وراء الخبر

ما بعدَ الذروة.. أمريكا إلى الخلف من البحر

5

ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
19 نوفمبر 2024مـ – 17 جماد الأول 1446هـ

تقريــر || عبد الحميد الغرباني

سبَقَ وأن تعرَّضتِ الدولةُ النوويةُ الأُولى في العالَمٍ لهزيمةٍ ساحِقةٍ وَمُخزِيةٍ هزَّتها حتى النُّخاعِ، كما حصَلَ في فيتنامَ بعد حربٍ شبهِ عقدية.

وَقد كُتِبَ أن أمريكا -حينَها ولأول مرة- أدركت أن للقوة حدودًا وأن هذه الحدودَ تَفرِضُ عليها بشكلٍ قَسْرِيٍّ التراجُعَ وعدمَ التورُّطَ أكثرَ، كما أن نموذجَ فيتنام يبرُزُ -بحسب المُفكِّرِ العربي الكبير جمال حمدان- “كآخرِ طبعةٍ من القانون الاستراتيجي القارِّي القديم -لا بقاءَ لقوةٍ أجنبية غازية على اليابس الآسيوي-” بعد أكثرَ من نصف قرن على هذا التطبيق العملي للقانون السابق أَو من هزيمة أمريكا في البر تجِدُ نفسَها أمام انكشافٍ كبيرٍ في البحر، وتحديدًا في منطقة عمليات الجيش اليمني، ومن هنا يُمكِنُ أن نناقِشَ فاعليةَ المفهوم القتالي الأمريكي “إلى الأمام.. من البحر” في ضوء ما أسفرت عنه عملياتُ اليمن البحرية من نتائجَ، ونبحثُ ما إذَا كانت تُشَكِّلُ بدايةَ النهاية لسيطرةِ أمريكا البحرية واضطرارها وبشكل قَسْري على تعديلِ المفهومِ القتالي السابق إلى ما مفاده “إلى الخلف من البحر”.

إلى الأمام من البحر:

من المعلوم للباحثين والمختصين على الأقل أن أمريكا اعتمدت استراتيجيةً هجومية للهيمنة البحرية المطلَقة تحت هذا الشعار “إلى الأمام من البحر” بما يُشيرُ إليه من إظهارِ القوة العسكرية وفرضِ السيطرة عبر البحر، بالاعتمادِ على حاملات الطائرات الأمريكية كقواعدَ بحريةٍ متحَرِّكة، بالإضافة إلى شبكة مُكوَّنة من عشرات القواعد، تبدأُ على امتداد السواحل الأمريكية، وخارجَها في جزر البهاماس وكوبا، وُصُـولًا إلى عدةِ دول أُورُوبية، ثم في إفريقيا وآسيا وَالمحيط الهندي حتى اليابان.

فحقّقت سيطرةً فريدةً على المحيطات، وأسقطت الطرُقَ التجاريةَ الأكثرَ استخدامًا في العالم، واحتكرت دولُ المركَز -أمريكا وأُورُوبا الغربية- خاماتِ الذهب الأسود في الشمال الإفريقي والهلال الخصيب وفي الجزيرة العربية؛ احتكارًا كليًّا، بدايةً من الاستكشافِ وَالتنقيب إلى النقل والتسويق والتسعير؛ فغدا بالنسبة لها مصدرًا للنفوذ الدولي وليس مصدرًا للطاقة فقط.

وبهذه السيطرةِ على حقول النفط في منطقتنا أمكَنَ لها أن تتحكَّمَ بنسق ومستوى علاقات دول المنطقةِ، وكُلِّ الدول التي تعاني الحاجةَ الدائمةَ إلى مزيدٍ من النفط، مثل الصين واليابان وحتى أُورُوبا الغربية، في المحصِّلَةِ كانت الهيمنةُ متشعِّبَةً -عسكريةً واقتصاديةً وسياسيةً-، وهذه الهيمنةُ لا ترتبطُ ببسط السيطرة على مساحاتٍ كبيرة من العالم، إنما إلى الانتشار الجيِّد والقدرة على الوصول والتدخُّل المباشر السريع، وهي ميزاتٌ فقدت الكثيرَ من حضورِها، ظهَّرَت ذلك عملياتُ اليمن ضد سفن أمريكا وبريطانيا وقبلَهما سفن العدوّ الإسرائيلي؛ فرأينا كيف أن القُدرةَ على الوصول -كميزةٍ بحريةٍ أمريكية سابقة- تراجعت، وأن الانتشارَ الجَيِّدَ اضطرب بدرجة كبيرة وَفقد تموضُعَه في غير بُقعةٍ بحرية ضمن أهمِّ سلسلةٍ فقرية تربطُ شرقَ العالَم بغربه، ونجح اليمنُ في تعقيد قُدرة أسطول الحرب السطحي للبحرية الأمريكية على إسقاطِ القوة في اليمن، لدرجة أن حاملاتِ الطائرات الأمريكية نفسَها لجأت إلى مغادرةِ منطقة عمليات اليمن المُسانِدَةِ لغزةَ، وغير مرة فرَّت؛ خشيةَ النيل منها، كما فعلت ذلك في الأيّام الماضية حاملةُ الطائرات “يو إس إس أبراهام لينكولن”؛ لتترُكَ منطقتَنا “الشرق الأوسط” بدون حاملةِ طائرات للمرة الثانية فقط خلال أكثرَ من عام، وهو ما يجعلُنا ننتهي إلى أن المفهومَ القتاليَّ “إلى الأمام.. من البحر” فقد أثرَه مع انحسار المَدِّ الأمريكي المُهيمِنِ من بحرَينِ اثنَينِ -الأحمر والعربي- وخليج ومحيط، وتحوّله إلى جَزْرٍ حقيقيٍّ؛ مخافةَ انتهاء عصر حاملاتِ الطائرات بكارثة بالنسبة للبحرية الأمريكية، في حال تعرضت للقصف المُدمِّـر والإغراق، كما حذرت من ذلك مراكزُ دراسات علمية ومعاهدُ عسكرية غربية، بعد انتشارِ شكوكٍ كثيرة حول نجاةِ “أيزنهاور” من عمليةٍ يمنيةٍ سبق وَاستهدفتها.

 

 

فيما مضى جَسَّدَت صناعةُ حاملات الطائرات الأمريكية مفهومَ المزج بين القوة البحرية والجوية؛ بغرض زيادة القوات الهجومية الاستطلاعية، وعنونت نهايةَ الحروب البحرية الكلاسيكية، وَقدَّمت البوارج التقليدية عبئًا لسهولةِ قصفها، اليوم يعنوِنُ اليمنُ عبر استخدامه صواريخَ أكثرَ تطوُّرًا في عملياته البحرية نهايةَ عصر حاملات الطائرات، ويؤكّـدُ استحالتَها لعِبْءٍ استراتيجي، وأنها من الناحية العملية لم تعد هذه الأصولُ تُشَكِّلُ مِئةَ ألف طن من الدبلوماسية كما يصفها الأمريكان.

وبمعنىً أوضحَ وأقربَ، لم تعد حاملاتُ الطائرات مفتاحًا من مفاتيح السياسة الأمريكية والهيمنة، بعد أن أصبحت واشنطن -جغرافيًّا وسياسيًّا- جَارًا تشتركُ حدودُه مع حدودِ كُـلِّ دولة.

لماذا بدايةُ النهاية؟

بعد زمنٍ من ذروة تضخُّمِ قوة أمريكا خارجَ كُـلّ حدودِها عبر قواعدها البحرية -العائمة والثابتة-، توصفُ بـ “الأرمادا الأمريكية” أَو “انكشارية العصر الحديث”، قرَّرَ اليمنُ بقوةٍ إسقاطَ جُمُوحِها البحري، حتى أصبح عجزُ أمريكا في منطقةِ العمليات اليمنية قضيةً شبهَ يوميةٍ في وسائل الإعلام والصحافة وَمراكز الدراسات الغربية، وهي تقارب ذلك من نواحِ عدة، وتنطلِقُ من تساؤلات كثيرة، أبرزها تلك المرتبطة ببحث مستقبل الاستراتيجية البحرية الأمريكية، وَما إذَا كان تقادم حاملات الطائرات وانكشاف ذلك عمليًّا أمام القوى المعادية لأمريكا كالصين وروسيا وغيرهما يعني بداية لزوال سيطرتها، هذه المخاوفُ ليست مبالَغةً بل مدفوعةٌ بدروس وعِبَرِ التاريخ الغابر، وهو ما يُظهِرُ أن تراجُعَ وَضعفَ السيطرة التقليدية في البحر شكَّلَ بدايةَ النهاية لإمبراطوريات كُبرى عالميًّا وإقليميًّا مثلما حدث مع الإمبراطوريتَينِ البريطانية واليابانية.

في هذا السياق، تتقاطَعُ توصياتُ الدراسات الأمريكية وصيحاتُ التحذير القادمة من هنا وهناك عند نقطة لافتةٍ ترى أن حَـلَّ التحديات الحقيقية أمام البحرية الأمريكية يكمُنُ في إصلاح الخلل المُهيمِن في عُمقِ الاستراتيجية في المقام الأول، في إشارة إلى استمرارِ واشنطن بتمويلِ الأنظمة القديمة أَو أُسطول الحربِ السطحي للبحرية -بما فيها حاملات الطائرات- والاتّجاه بدلًا عن ذلك للاستثمار في أسلحة جديدة مختلفة، وَحتى تتخذَ وزارةُ الحرب الأمريكية هذه الإجراءات، ستستمرُّ فاعليةُ الجيش الأمريكي ضد أعدائه في التدهور حَــدَّ تعليقِ مجلة “ناشونال انترست” الأمريكية.

ويبقى القولُ إن العالَــمَ متغيِّرٌ، وَمصائرُ الأمم متعلِّقةٌ ومرتبطةٌ بشكل دائم بالمتغيِّرات، وسبق وَشكَّلَ بروزُ قائدٍ ما محطةً أَو عاملًا حاسمًا لتغيير مصير أُمَّـة؛ لأَنَّ الرؤيةَ تُولَدُ مع القيادة، كما أن الأسلحةَ وأدواتِ القوة كانت تعني في منعطفاتٍ كثيرةٍ النصرَ أَو الهزيمةَ، وَالمفارقةُ أن اليمنَ -كصاحَبِ لِواءِ إسقاطِ غُرُورِ القُوَّةِ الأمريكيةِ في البحرِ- يَسِيْرُ في رِكَابِ قائِدٍ عظيمٍ وَفْقَ منهجيةٍ قُرآنيةٍ خالِصَةٍ تَضَعُ في صُــلْبِ استراتيجيتِها محدِّداتِ النهوضِ المختلفة.