الخبر وما وراء الخبر

قراءة نقدية لحسن المرتضى في قصيدة مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان للشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح

30

يشي لنا عنوان النص بالكثير فالطوفان قد جرف وجه الوطن وجرح كل أعضائه وتشبعت بطنه بالماء الذي استوطنها بعد أن جرف معه الكثير من ملامح حضارة هذا الوطن الذي أصبح مجرد بئر مرصوص بالأحجار تملؤه المياه التي جرجرت معها كل حجارة الرقي الحضاري إلى داخل بئر مائي حجري لا يستطيع من ورد ذلك البئر أن ينهل منه إلا الحزن والأسى.

من العنوان أيضاً ندرك أن رسالة نوح التي كتبها قبل الطوفان قد غرقت هي أيضاً بين أذرع الغرق وما تبقى منها سوى …. مقتطفات فقط.

ومن العنوان والنص ندرك شيئاً مهماً أن الشاعر قد وظف الرموز القرآنية وأسقطها على الواقع فمن قصائده الموحي بذلك هذا النص (مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان) وكذلك نصه (أيوب المعاصر) و(هابيل الصغير) و(ما تيسر من سورة النصر) وكذلك (حوليات يوسف في السجن)، والكثير الكثير مما نفهم تأثر الشاعر الكبير برموز القرآن ومن هنا ندخل إلى جو النص فكأني بالشاعر يتكلم على لسان نبي الله نوح (ع) كما هي مهمة الشعراء مستشعراً مسؤوليته فبادر قبل الغرق ببناء سفينة الكلام ليصعد عليها أبناء أمته ليكون ملاحا لهم وفي خدمتهم ليوصلهم بئر الأمان ولكن ما الذي حصل …؟

فلندع النص يخبرنا بما جرى لسفينته ولمن حجز لهم تذاكر الصعود عليها ….

الملامح الخطابية في النص

من العنوان (مقتطفات من خطاب نوح قبل الطوفان) ندرك أن الزمان قد أصبح في حكم (الماضي) والمكان قد انمحى وقد عبثت به أيدي الغرق ورقصت على أطلاله ثياب ممزقة من أناشيد النواح والتفجع.

وعلى ذلك فما دام الزمن تشبع بالماضي والمكان قد عربدت فوق رأسه الرياح

يقتضي بدلالة الالتزام أن يستخدم الشاعر الأفعال الماضية كنسمة سائدة في النص.. كافتتاحيته بدأ بالفعل الماضي وسيادة هذا الفعل حتى نهاية القصيدة فقد بدأ القصيدة بقوله (قلتُ لكم) ولما في عبارة المضي من تذكر واستنكار لمن لم يسمع النصح.. وعلى هذه الشاكلة استمرت أفعال التأنيب بصيغة الماضي كوقع حبات الزجر الممطرة تتوالى مثل (قلتُ – لم تعقلوا – لم تسمعوا – كنتم – قريبُ – أنفقت – قطعتُ – بكيتُ – شدني – لا يتكلم – أخذتني – أن أشهد – تضرع – أن تختطي – أن تغرق – أن تغمر – تلاشت – أطبق ––أن تفتحوا -– أن تجمعوا – أن تصنعوا – لكنكم – أقعى – مات – فكانت – وكان ……

نُلاحظ أن طغيان الفعل الماضي على النص قد ارتبط بالزمان والمكان الأشخاص، فتارة يكون الزمان مجرداً من أي ضمير لعودته إلى الزمان ذاته أو ارتباط الضمير بالفعل لدلالة على (آثار الشاعر) في الكلام والخطاب الموجه لأن الجميع عندما يرتبط الفعل بواو الجماعة مثل لم تسمعوا أو بميم الجماعة مثل كنتم..

فأنا الشاعر إما أن تتحدد بتاء المتكلم مثل قلتُ وبالنون أحزنني..

والفعل الماضي قد ارتبط إما بأدوات النفي نحو (لم تسمعوا) أو بإن الناصبة باعتبار ما كان يفترض عليهم فعله في الماضي فلم يحصل فالخطاب كان في الحاضر ولكنه في طيات الماضي مثل (أن تصنعوا، أن تختفي) فإنه وإن كان الخطاب باستخدام الماضي والمجيء به على صيغة المضارع في الماضي به دلالة فإن الكلام هنا يمكن أن يطبق مرة أخرى فإن عدم تطبيقه استوجب الطوفان ولما فيه من العتاب والاستنكار والتحريض على عدم التفريط في النصيحة مرة أخرى فكر بما كان الطوفان القادم أكثر شراسة فإن مخالفة نصيحة أكثر من مرة توجب عقاباً أشد.

فلهذا ختم النص بقوله (لا سفن البحر ولا الفضاء تنقذكم من قبضة القضاء، فقد طغى الطوفان وكان وكان) …

فيه تريث وشحذ هممهم على عدم المخالفة مره أخرى …

-فموضوع النص لا بد أن يرتبط بالشكل الشعري الذي تصل فيه النصيحة إلى قلوب سامعيهم فقد كُتبت القصيدة أو كتب الشاعر خطابه بعد الطوفان من الشعر التفعيلي بتفعيلة (مستفعلن) لأنها كتبت بعد الطوفان فلو كانت القصيدة كتبت والماء ينهمر ليكوّن الطوفان لاختار الشاعر تفعيلة (فعلن) لأنها تناسب حوافر المطر التي تدك الأرض وتثير الجلبة عندها ليتكون من زوبعة ريحها الطوفان في شقوق القلوب وبعثرها وكأنه باختيار هذه التفعيلة الحزينة يحاول بناء ما تركه الطوفان بأناشيد من الحزن والعتاب.

-ومما يلائم الحقل الدلالي في (نوح بعد الطوفان) من المعجم اللفظي داخل النص (ماء البحر – تعربد الأمواج – الغيوم – إلى لا سحاب – سفينتي – أشد سمايا – إلى سماء – فأبحرت – الملاح).

1- أن أشهد التاء (غارقة)

2- أن (تغرق) – (تُغمر المياه)

3- (المد)

4- (سُفن البحر) (طغى الطوفان)

نُلاحظ أن حقل الغرق والسفينة وكلما يتصل بهذه الألفاظ يمثل تماسكاً في النص ووحدة عضوية داخلية تجعل من القارئ يتدفق بداخل موج النص ويحاول أن يبعد عينيه قليلاً عن النص لكيلا يغرقوا فيه وزارعا مجداف نصيحة نوح ليتجنبوا طوفاناً قادماً قد لا يرحم حتى الأحجار.

-البعد الاجتماعي لمقتطفات نوح فإن نوحاً هنا يقدم (النداء والعلاج) فأي داء وصف الشاعر لهذا المجتمع وأي علاج حمله فالداء من النص يختم:

(هناك في الغيوم والأبراج

أرجلكم ممدودة إلى السحاب

رؤوسكم مغروزة في الوحل والتراب)

ومن الداء أيضاً حسب قوله:

(أحزنني أن أشهد الأطفال..

أن أشهد النساء تضرع في ابتهال

تلعنكم قبضتهم في وجوهكم يا أيها الرجال

يا أيها الأنذال أحزنني أن تختفي البيوت والأشجار

أن تختفي الآثار

أحزنني أن ألمح البطون فوق الماء

مبقورة شوهاء…)

أما ما هو العلاج الذي قدم نوح الشاعر:

(قلت لكم والمد لم يزل بعيداً،

والبحر لم يزل بعيداً

أن تفتحوا عيونكم عن الخطر

أن تجمعوا السادة والعبيد، أن تصنعوا

من شوقكم، من حبكم نشيداً، لتصعدوا به إلى الجبل)

ولكن بعد أن أتى الشاعر بالداء والعلاج فما سبب الطوفان إذاً …؟؟

يجليه قول الشاعر:

(لكنكم لم تسمعوا، تعالت الضحكات

في ردهات “القات ” أفل الضمير في دياركم ومات

فكان هذا الهول والأحزان كانت الهزات)

ومثلما كان نوح يتلو علينا مقتطفات من خطابه بعد الطوفان كنتُ أسرد الملامح المهمة في خطابه.