الكسوف اﻷعظم
بقلم// عفاف البعداني
لا أقصد هنا كسوف الشمس، فالشمس بيد الله وبرحمةٍ من الله ، ولو كانت بيد البشر لعاثوا وأفسدوا واستقالت كواكبنا من الحياة كل يوم، ولكن أنا عنيت بهذا المصطلح من زاوية أخرى ومن جهة مختلفة تمامًا ، جهة باردة لاتصلها الشمس جهة تختبأ خلف ضبابٍ مجهول الهوية، ربما لم يقترب منها أحد ؛ فهي صماء سوداء ظلماء لا ترى بالعين المجردة ؛ ولكنها ٱمنت المكوث وارتفعت فوق سطوح المنازل، ورؤوس الجبال فتخللت ومضى مشروعها بيننا، تركز على أرواحنا بحنكة محلل حروب قديم .
تلك الزاوية المختبئة ،خلف مدينتنا النائمة ،باتت تطلق أشعة كسوفية خرجت من سرداب الموت البطيء، أُفقية المدى بين البشر وليست عمودية التأثير من السماء، فمصدرها ليس الشمس باختفاء الضوء ، أو انسحاب نور القمر ؛ وإنما مصدرها كان قصة احتجاب ضمائر البشر، فما عاد يروينا ويبهجنا وينعشنا سوى صوت المطر .
ولكي أكون منصفة مع اليوم واﻷمس ، فالشمس مازالت على عهدها قائمة تشرق الساعة السابعة 7:00ص ، وتغيب الخامسة مساءًا، وتكسف بالسنين ربما مرة واحدة رحمة بالبشرية والعودة إلى تنقية النفس، والقمر لازال على عهده يظهر في الحضر والبادية ، وفي منتصف الشهر و لازلنا نتأمل شقه ولونه وسره بالدقيقة والثانية.
وإنما هذا الكسوف الذي تناوله قلمي بدقة في هذه اللحظة، واحدودب الفكر له بشدة هو ذاك الكسوف الذي وقع فيه اﻹنسان ، فالطبيعة برياحِها الموقرة لم تكسر الفنجان وبريئة لم تيقظ البركان، لم تغرق اليابسة لترضي البحر ، ولم تشرب البحر لتسعد اليابسة، بل كان كسوفاً من وقع البشر فاحتفلت به نفوس مظلمة، وانصهر بعالمي كجبال ممددة، وتخلل موطني بشراهة أحمق أغرق صديقه في بحور ضاربة، هو كسوف أرقد الحياة ووضعها تحت رحمة الموت السريري، ولم تعد في موطني أي حياة كسوف توغل في الفعل ، في النية، في المشاعر في العمل ، في الوظيفة في الكتابة في اﻷدغال واﻷوطان ، والمؤسف أن قائدهُ ومطبله ومدندنه هو نفسه اﻹنسان ذو البصيرة العقيمة.
هو كسوف عالم أجحف رمى بشرارة حقده بنيزك حربي مجوف، باطنه العذاب ، وظاهره الرحمة ،كسوف بتعاملاتنا وتصرفاتنا أباد الحياة ولم يعد في وطني إلا أشباه حياة ، كسوف تجسد في ذرات صغيرة مسممةً ضريرة، محملةً بأمراض دخيلة، تفوق وقعًا من كورونا الدخيلة، انتشرت ببطء وتحركت بدهاء بين التراب والماء واﻷرض واﻷجواء ؛لتصل إلى ذواتنا المفقودة والمثقوبة مرة واحدة، حصرتها بزاوية مكان مكتظ وأصبحنا على هذه الأرض لسنا نحن بل نؤدي دور أشباهنا وربما غيرنا أين نحن من كل هذه الحقيقة لم أعد نعرف !! .
كسوف بشري نتداوله فيمابيننا ونمضي معه مجبورين وهو من خبأ عنا خريطة السلام والحب والتسامح، تحت الجذور العميقة فأصبحنا له ضحية من الدرجة اﻷولى، كسوف أرقد الحياة، وعندما قررت أن أستيقظ وأقلع من مطار شجرتي الخيالية، مصبوغة بألوان زرقاوية، ترتدي القرمزية والتي كان طولها يبلغ الفي متر ومائة ، وصلنا ورأينا الكون بصروفنا كئيباً يبحث فينا ويسأل أين ربيعكم أين حضوركم، وفعلاً وأنا في هول الرؤية في الكسوف تبدلت ملامحي ، وفقدت جدولة الحديث ، وصرت معهُ عمياء لاأرى ، وصماء لاأسمع، فأنا قست بنظرة بعيدة، من حد اﻷفق رأيت الزخم الواسع من الكسوف الذي تبادلانه فيما بيننا بجمل الاعتياد، يوما بعد يوم.
فاﻷمر كان بسيط جدًا أن نرى شوارعنا تذبح، ومدننا تموت، وأبناءنا يرحلون، الأمر كان عاديا أن نجد أحباءنا يسقطون ويرحلون دون أن نعنيهم بالمحبة الصادقة، اﻷمر كان بسيطا للغاية حين أعلن المارد الشرقي، والغربي، واﻷوروبي، شرارة حقدهم من البداية وقالوا: سنمحي ذلك الوطن، سنذبح شوراعه ،ونخليها من الموازرة، ونلتهم حضارته ونوقعه فوق الفقر فقرًا ، سندمر موانئه ونلوث شواطئه، ونطمس حضارته، سنتقاسم جزره النادرة، ونتحكم بمضيقه اﻷسطوري ،وسيكون جنوبه دولة مستقلة ؛يسهل المتجارة فيها سنرفع اﻷعلام ونقتل حرية إنسان باسم الوطن باسم الدين واﻹسلام .
رجعت من عالم الفلك بنفسية متخمة الجراح، وعدت لموطني أمضي في قريتي الصغيرة، استيقظت أخيرا من رحلة السماء ، شاركتني فيه الحياة وتكرمت البصيرة بأن تهديني المقتطف بأن الكسوف البشري يحتاج هو أيضا لصلاة كسوف روحية، صلاة طويلة مقدسة ، نحط عليها أرواحنا ركوعا وسجودا بكل صدق ؛لتعود شمس السماء وشمس الروح مرة واحدة.