“حارس الأسوار” غفا في وقت الحراسة
بقلم/ وليد القططي
قبل حرب أكتوبر، كانت المعلومات الاستخبارية المُنذِرة بقرب هجوم الجيشين المصري والسوري على الكيان الصهيوني تتدفّق إلى قادته، ولكنَّ انتصاراتهم العسكريّة الثلاثة السابقة لحرب أكتوبر في العام 1973 على الدول العربية، كانت كافية لمدّهم بالغرور الذي أعمى بصرهم، وتزويدهم بالغطرسة التي طمسَت بصيرتهم، فصدّقوا ما كذبوا به على أنفسهم، بأنَّ جيشهم لا يُقهر، وأنَّ العرب لن يجرأوا على مهاجمتهم، ولم يصدّقوا تلك المعلومات الاستخبارية وتجاهلوها، فكان هذا هو خطأهم الاستراتيجي الذي دفعوا ثمنه في الحرب.
وبما أنَّ الله تعالى وصفهم في القرآن الكريم بأنهم قوم لا يعقلون ولا يفقهون، فقد كرروا خطأهم الاستراتيجي بعد أنْ طال عليهم الأمد، وصولاً إلى معركة “سيف القدس”، ولم يصدّقوا جدّية المقاومة في تحذيرهم من مواصلة انتهاك حُرمة المسجد الأقصى والدم الفلسطيني، وأنَّها قد تبدأ المعركة وتُبادر إلى الهجوم، ذلك أنّهم بادروا إلى الهجوم في كل معاركهم السابقة مع المقاومة في فلسطين ولبنان، ولا سيّما أنَّ قطاع غزة غارقٌ في الحصار والفقر، فتفاجأ الكيان الصهيوني بالهجوم، وفتحت معركة “سيف القدس”، فكانت اسماً على مُسمّى، وأتت منسجمة مع أهدافها ونتائجها.
معركة “سيف القدس” كانت اسماً على مُسمّى، بتطابق الاسم مع أهدافها ونتائجها، بخلاف الاسم الذي اختاره قادة الكيان الصهيوني لمعركتهم، وهو “شومير هحوموت”، ومعناه بالعربية “حارس الأسوار”، فقد كان اسماً على غير مُسمّى، وأتى متناقضاً مع أهدافها ونتائجها، فاسم “حارس الأسوار” هو اسم أُغنية عبرية قديمة كُتبت على لسان جندي إسرائيلي، واصفاً ذكرياته وأحلامه وطموحاته بأن يكون حارساً لأسوار مدينة القدس العتيقة، مُتذكّراً حلمه طفلاً بأنَّ يصبح جندياً ليحرس “أورشليم”، ومزهوّاً بتحقق حلمه شاباً.
وقد أصبح جندياً يحرس “أورشليم”، متوهّماً إمكانية مجيء السلام المستحيل بالمفهوم الإسرائيلي، كي لا يحتاجوا إلى حُراس أسوار جُدد… هذا الحُلم الفردي الذي تحقق، يُخفي في باطنه حُلماً جمعياً لليهود الصهاينة لم يتحقَّق بعد، وهو إعادة بناء “هار هبيت”، المعروف عربياً بـ”جبل المعبد” أو “هيكل سليمان”، للمرة الثالثة، مكان المسجد الأقصى بعد هدمه.
ولتحقيق هذا الحلم الصهيوني، هم بحاجة إلى “حارس الأسوار”، “الجيش” الإسرائيلي، ليحمي مدينتهم “أورشليم” ودولتهم “إسرائيل”، ولكنَّ حارس الأسوار في معركة “سيف القدس” فشل في إنجاز مهمته، فانطبق عليه المثل العبري الذي يُطلق على كل شخص يفشل في أداء مهمته “هشومير نردام بزمان هشميراه”، بمعنى: الحارس غفا في وقت الحراسة.
“حارس الأسوار” غفا في وقت الحراسة. وبعد أنْ فشل في إنجاز مهمته في ميدان المعركة، وأخفق في تحقيق النصر في ساحة القتال، حاول إنجاز مهمته في ميدان الإعلام، وأراد تحقيق النصر في ساحة الصّور، فاختراع ما يُسميه بالعبرية “تمونات نيتسحون”، بمعنى “صورة النصر”، وهي شيء وهمي اخترعته قيادة الكيان الصهيوني في زمن العجز عن تحقيق النصر الفعلي في حروبها مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بعد أنْ ولّى زمن هزائمنا وزمن انتصارات العدو العسكرية الواضحة والحاسمة، عندما كانت صورة الحروب النهائية تتطابق مع نتائجها، كصورة الجنود العرب وهم قتلى غارقون في دمهم، أو أسرى غارقون في ذلّهم، أو صورة الجنود الإسرائيليين وهم يغرسون “علم دولتهم” على قبة الصخرة في القدس، أو قمة جبل الشيخ في الجولان، أو شاطئ قناة السويس في سيناء، أو صورة الدبابات الإسرائيلية على مداخل بيروت الغربية.
وعندما أفل نجم انتصارات “إسرائيل”، أصبح التقاط صورة النصر مهمة شبه مستحيلة، لعدم وجودها في معاركها مع المقاومة، وآخرها معركة “سيف القدس” أو “حارس الأسوار” بالتسمية الإسرائيلية. عبثاً حاول “الجيش” الإسرائيلي قتل قائد كبير – بالمعايير الإسرائيلية – في المقاومة، وأصبح تصوير بعض مجاهدي المقاومة مستسلمين بعيد المنال، واستمرار تدمير الأبراج توقّف جبرياً بعد تهديد المقاومة… والعكس هو الّذي حدث، فقد كسبت المقاومة صورة النصر في اللحظات الأولى للحرب، عندما قُصفت القدس، فصوّرت الكاميرا ذُعر المستوطنين المحتشدين في “مسيرة الأعلام” وهروبهم، وعندما قصفت تل أبيب، فصوّرت المستوطنين يُهرعون إلى ملاجئهم مرعوبين، وهو ما شهد به المُراسل العسكري الإسرائيلي للقناة “13” أور هيلر، بقوله: “إنَّ الصراع على صورة النصر كسبته المقاومة فور إطلاق الصواريخ باتجاه القدس، والحصول على حاضنة شعبية في القدس والضفة وعند العرب في إسرائيل، بينما غابت أي مشاهد انتصار أو إنجازات حقيقية على الساحة الإسرائيلية”.
حارس الأسوار غفا في وقت الحراسة، ففشل في أداء مهمته، وأخفق في انتزاع النصر في الميدان أو الصورة. ولذلك، عجز عن تصدير وعي وهمي بالنصر الإسرائيلي. وبناءً على استطلاعات الرأي الإسرائيلية، لم تصدق غالبية المستوطنين مزاعم قيادتهم بتحقيق النصر على المقاومة، ولم يتكوّن لديهم وعي بالنصر المزعوم، وهو إدراك عقلي وشعور قلبي بالنصر، وهذا يعني أنَّ لديهم وعياً بالهزيمة على المستوى الفكري والشعوري، وهو ما أكده طاقم التحرير في جريدة “هآرتس” الإسرائيلية بعد المعركة: “يجب قول الحقيقة، وهي أنَّ الرأي العام الإسرائيلي يرى أنَّ إسرائيل هُزمت في هذه المعركة”. وعلّق عضو الكنيست (بن غبير) على شعور الخيبة عند مستوطني غلاف غزة فور وقف إطلاق النار، بقوله: “إنَّ وقف إطلاق النار هو بصقة في وجوه سكان جنوب إسرائيل”.
في المقابل، إن الشعب الفلسطيني تملّكه وعي النصر وإدراك الظفر، ووصل إليه إحساس الإنجاز وشعور الثقة، فعبّر عن كل ذلك بخروجه إلى الشوارع مُحتفلاً، فور دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، في كل أماكن تواجده داخل فلسطين وخارجها، فكان ذلك أصدق تعبير عن وعيهم بالنصر في معركة “سيف القدس”، التي أعادت لهم ثقتهم بأنفسهم ومقاومتهم، وإحساسهم بعزتهم وكرامتهم، وأملهم بالتحرير والعودة.
حارس الأسوار غفا في وقت الحراسة، ففشلت معركة “حارس الأسوار” في تحقيق أهدافها العسكرية. وأهم مظاهر هذا الفشل هو عدم قدرة “الجيش” الإسرائيلي، حارس أسوار “دولة الجيش” (“إسرائيل”)، على وقف إطلاق رشقات الصواريخ وقذائف الهاون من قطاع غزة، وهو سلاح المقاومة الأساسي في المعركة، والخطر الأول على أمن المستوطنين في الجبهة الداخلية للكيان.
وتأكيداً لفشل حارس الأسوار، كتب الميجر جنرال احتياط إسحق بريك في جريدة “هآرتس”: “مئات الغارات، ومئات الطائرات، وآلاف الذخائر الموّجهة الدقيقة التي تبلغ تكلفتها مليارات الشواقل على قطعة أرض صغيرة جداً. وعلى الرغم من ذلك، لم تنجح في وقف إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون حتى موعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ… يبدو أنهم كانوا يستطيعون الاستمرار بذلك لفترة طويلة جداً”.
صواريخ المقاومة الفلسطينية التي استمرّت بالانهمار على المستوطنة الصهيونية الكُبرى، عمّقت المأزق الإسرائيلي الأمني، وتجاوزته لتُعمّق مأزقه الوجودي، فالمشروع الصهيوني قام على أساس إقناع يهود العالم بأنَّ “إسرائيل” هي الوطن القومي اليهودي والمكان الأكثر أمناً وأماناً لليهود في العالم (أرض الميعاد)، والمكان الأكثر فائدة اقتصادية لليهود في العالم (أرض السمن والعسل).
إن حروب المقاومة، وآخرها “سيف القدس”، حوّلت “إسرائيل” إلى المكان الأكثر خطراً وخوفاً على اليهود في العالم. وإذا استمر ذلك الخطر والخوف، فسيكون المكان الأكثر خسارة اقتصادية لليهود في العالم، وستبخّر حرارة الصواريخ ما تبقى من سمن وعسل.
هذا المأزق الوجودي يعني وضع إمكانية زوال الكيان في حيز الإمكان، وهو ما أشار إليه جنرال إسرائيلي تحدث عن سيناريو سقوط آلاف الصواريخ الدقيقة من محور المقاومة في الحرب الشاملة، وتنبأ بأنّ “هذه الحرب ستشكل تهديداً وجودياً علينا وعلى حياتنا في دولة إسرائيل”، وهي الحرب الإقليمية التي تحدّث عنها السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، والتي ستكون نتيجتها زوال “إسرائيل” حتماً بإذن الله.
وخُلاصة الأمر أنّ “حارس الأسوار” غفا في وقت الحراسة، ثم استيقظ متأخراً بعد فوات الأوان، فوجد أنَّ زمن انتصاراته أدبر من دون رجعة، وأنَّ زمن هزائمه أقبل من دون توقف، واكتشف أنَّ هزائمه الاستراتيجية أمام محور المقاومة في لبنان وفلسطين زادت هزيمة في “سيف القدس”، وأدرك أنَّ مأزقه الأمني ازداد عمقاً في الحضيض، وأنَّ مأزقه الوجودي أسرع صعوداً إلى الهاوية، وانتبه إلى أنَّ الخط البياني لزوال “دولته” إلى هبوط، والخط البياني للتحرير والعودة إلى صعود.
وعندما يتقاطع الخطان، الصهيوني الهابط والفلسطيني الصاعد، سيتوقف الزمن بُرهة، ليتحقق قدر الله، في انتصار تمام الحق والخير على تمام الباطل والشر، فيُنزع الخنجر المغروس في قلب الأمة “فلسطين”، وقلب فلسطين “القدس”، وقلب القدس “المسجد الأقصى”، فيفرح المؤمنون بنصر الله، ويفرح الفلسطينيون بالتحرير والعودة.
المصدر/ الميادين نت