الخبر وما وراء الخبر

التوحّش الإسرائيليّ تحت “قبّة الغرب”

18

تجهد الحكومات الغربية للتملّص من مسؤوليتها التاريخية في المأساة الفلسطينية المستمرة منذ 8 عقود، لم يمر منها يوم أو ليلة أو ساعة من دون أن تنفذ الوحشية الإسرائيلية خلالها جرائم طالت كل ما هو فلسطيني.

كل ذلك جرى، ولا يزال، برعاية التكتل الاستعماري (الأوروبي العتيق – والأميركي الحديث) المتغني بديمقراطية يتم طعنها بأيدي “أصحابها” في الإدارات السياسية والقطاعات الإعلامية والثقافية الشريكة في “أسرلة” وعي الرأي العام لدى الشعوب على ضفتي الأطلسي، والتي استفاقت على دهشة حكامها من قدرة الفلسطينيين على قلب المعادلات، وفضح نفاقهم المديد الذي أفقدهم بالأمس مصداقيتهم أمام الشعوب المعتدى عليها، وأفقدهم إياها اليوم أمام شعوبهم نفسها.

كل الحكومات الغربية منخرطة في الجرائم الإسرائيلية بمستوى أو بآخر. رفع الرايات الصهيونية على مقار حكومية أوروبية خلال العدوان الأخير على غزة سيبقى وصمة عار على جبين “المنظومة الليبرالية” التي تتقدم على “دولة” الاحتلال بصهيونتها.

يكفي ذكر اسم “دولة” الاحتلال في أوساط السلطات الغربية، حتى ينتهي المنطق على الفور، وتنعدم الأخلاق، وتتراجع السياسة، وتحل الخرافة والشعوذات، وتضاف الوصفات الكولونيالية الاستعلائية إلى مآسي الفلسطينيين، الّذين يطلب منهم أن يقبلوا الفصل العنصري بهدوء، وأن يتمتعوا بـ”نعمة” الصمت أمام الإبادة الممنهجة تحت “قبة الغرب”، الذي يحتاج إلى أن يتحرر من الهيمنة الصهيونية بقدر حاجة فلسطين إلى التحرر من الاحتلال.

لا ريب في التبعية الأوروبية للولايات المتحدة، لكنّهما يتساويان في التكتل الرأسمالي الصانع لوظيفة “دولة” الاحتلال في الأصل، والتفاوت النسبي في الأداء الدبلوماسي بينهما لا يصل إلى السياسة، ولا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى تعزيز الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة إلى تفكيك الوجود الاجتماعي لملايين الفلسطينيين، وإحلال أكبر عدد من اليهود وحد أدنى من الفلسطينيين في فلسطين التاريخية.

الدعوات “السوريالية” لخفض التصعيد (بين الطفل الفلسطيني والدبابة الإسرائيلية) تتبعها معزوفة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، والتي تصور الاحتلال ضحية تتعرض لهجوم، وتمنحه “شرعية مؤسسية” للقتل والطرد والتنكيل، وتعتبر الضحايا أضراراً جانبية في جدول مشروع السيطرة على الشرق الأوسط، كخطوة “إلزامية” نحو السيطرة على العالم بأسره.

لم تعد خيانة الأسس والمبادئ الحقوقية سهلة، ولم يعد كيّ وعي الشعوب ممكناً، وكذلك الاستمرار بمنع مساءلة “إسرائيل”، وباتت “الأحادية” إلى أفول، وصارت شراسة نفاق الحكومات الغربية تقابلها شراسة “الشارع الغربي” الرافض بمعظمه للرواية الإسرائيلية، فالمسيرات التي عمت المدن الأوروبية والأميركية غير مسبوقة بحجمها، وأكبرها مسيرة مدينة لندن، النادمة ربما على جريمة “وعد بلفور” المشؤوم. ولم تتوانَ مئات المنظمات الحقوقية المستقلة عن وصف “إسرائيل” بـ”الدولة” الإرهابية. وفي أحسن الأحوال، “دولة أبارتهايد” يجب مقاضاتها في محكمة “نورمبيرغ” الشهيرة.

دعمت المنظومة الغربية باطراد الاحتلال الاقتلاعي بمدد مالي وعسكري “هائل” خلال 73 عاماً، وقدَّمت للفلسطينيين الفتات والوعود الكاذبة، بقصد تخديرهم وكسب الوقت، حتى يستكمل الاحتلال تكوين بنيته وخلق وقائع تخنق آمال الفلسطينيين وتبعثر حقوقهم، تمهيداً لبعثرتهم في السياسة والجغرافيا والتاريخ.

على الأرجح، سيستمر الغرب بإنكار فشله، كجزء من طبيعته “الميكافيلية” التي تسمح له بجمع الضدين في يهودية الدولة و”ديمقراطيتها”، وسيواظب على طرح “حل الدولتين” (ثمرة اتفاق “أوسلو”) الذي وفّر في العقود الثلاثة الأخيرة غطاءً متواطئاً لترسيخ نظام الفصل العنصري، ولن يتم الاعتراف بخطايا الماضي والتعويض عنها، لأنها لا تؤدي إلى تفكيك “دولة” الاحتلال فقط، بل تقود إلى انهيار المنظومة السياسية الغربية برمتها أيضاً، والتي تحتاج إلى “إعادة بناء” أكثر بكثير من حاجة الاتحاد السوفياتي لها في العام 1990.

على هذه الرهانات الصهيونية، نامت المنظومة الغربية مطمئنة إلى أن “إسرائيل” انتصرت، والكفاح الوطني الفلسطيني انتهى، و”القضية” لم تعد مركزية لدى معظم الدول العربية، وغيرها من الأوهام التي أطاح بها الفلسطينيون بصوت واحد، من القدس إلى غزة، ومن اللد وحيفا وعكا إلى كل ضفة وحبة تراب فلسطينية. أوضح الفلسطينيون بلا لبس عمق الهوية الوطنية “الأسطوري” الَّذي يشكّل الموقع الأول والأخير على جبهة المواجهة بين قوى الهيمنة وقوى التحرر.

المصدر/ الميادين نت