الخبر وما وراء الخبر

في كلام السيّد نصرالله.. سعال لا يُخفي التحوّلات

29

شغلت الحالة الصحية للأمين العام لحزب الله رُوّاد مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام المناوئ للمقاومة أيضاً، بصورة خاصة. لم يُخفِ السيّد حسن نصر الله وضعه الصحي، عندما أكّد في خطابه أنه عانى “سعالاً شديداً” منعه من التكلم منذ “يوم القدس”.

على الرَّغم من ذلك، فإن المحبّين عبّروا عن قلق عفويّ، وانشغل المناوئون بالمشاغبة ومحاولة تسميم الخطاب. من المفهوم أن تتناول وسائل الإعلام وضع السيّد نصرالله الصحي، بدافع الإثارة واستقطاب مشاهدين وقرّاء، لكنّ هذا الدافع لا ينطبق على جزء كبير من الإعلام المعادي للمقاومة. مواقع ومنصات متعدّدة حاولت التركيز على السعال من أجل حرف الأنظار عن الكلام المتقدم واللافت، والذي أدلى به السيد نصر الله، وتحديداً حديثَه عن “المعادلة التي يجب أن نصل إليها”، بالإضافة إلى عناوين أخرى مهمّة حَفِلَ بها الخطاب. وإلاّ، فما معنى اقتصار مواكبة الخطاب على “السعال” فقط؟

موقع “سي أن أن” مثلاً، أفردَ للخطاب على مدى يومين (25 و26 أيار/مايو) ثلاثة عناوين. أوّلها: “حالة نصر الله الصحية بكلمته تثير تكهنات إصابته بكورونا بين نشطاء تويتر”. والثاني عنوان دعائيّ (بروباغندا)، يستحضر تغريدة المتحدِّث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي. والثالث “نصر الله يتحدَّث عن سعاله الشديد ويؤكد: كان من الصعب أن أخطب أو أتكلّم”. تحت العناوين الثلاثة، لم يجد الموقع الأميركي (باللغة العربية) في مفردات السيد نصرالله ما يستحقّ النشر إلاّ السعال.

في موقع “العربية” عنوان يتيم: “ظهور نصر الله الأخير يُثير التكهنات حول إصابته بكورونا.. ونجله يغرّد عن حالته”. لا أثر في مضمون المقال إلاّ للحالة الصحية.

لا يعني هذا الأمر أن حالة السيد الصحية غيرُ جديرة بالمتابعة الإعلامية، ولا يعني أنها ليست حالة لافتة، إذ تعتبر من الحالات النادرة التي يَظهر فيها سيّد المقاومة عبر الشاشة وهو يعاني وعكةً صحية، مثل التي ظهر فيها بمناسبة ذكرى عيد المقاومة والتحرير. لكنّ التغييب المقصود لتوضيحه في مستهل الخطاب بشأن وضعه الصحي، هو ما يستدعي التوقُّف عنده، والسؤال “ماذا سيفعل هؤلاء عندما ينتهي السعال؟”.

لقد غاب عن وسائل الإعلام المعادية للمقاومة، وعن منصات المناوئين لها وحساباتهم، توضيحُ السيّد نصرالله في مستهل خطابه بأنْ ليس هناك أيُّ شيء خطِر، وتشديدُه “لست مصاباً بكورونا، وليس لديّ عوارضها”. كما غابت شفافيته من خلال إصراره على الظهور على الرغم من توقّعه المسبَّق ما قد ينجم عنه من تعليقات وحملات بروباغندا.

موقعا “العربية” والـ”سي أن أن” ليسا إلا نموذجاً عن نمط إعلامي غير جديد في كيفية التعامل مع خطابات المقاومة عموماً، إلاّ أن بعض الجديد هو التحوّلات الاستراتيجية التي عكسها الخطاب، والتي لم يحجبها السعال.

لقد أسّس السيد نصر الله في خطابه (الثلاثاء) لمعادلة لم تكن مطروحة سابقاً في الإعلام؛ معادلة تُراكِم وتُضيف إلى معادلة “سيف القدس” التي ربطت سلاح غزة بالقدس وبفلسطين، من النهر إلى البحر. أكّد السيد نصر الله أن “المَسّ بالمسجد الأقصى والمقدَّسات لن يقف عند حدود مقاومة غزة”، وأن المعادلة التي يجب أن نصل إليها هي التالية: “القدس في مقابل حرب إقليمية”.

لا يحتاج الأمر إلى كثير من التمعّن كي يدرك المتابع أن طرفَي الحرب الإقليمية هما “إسرائيل” في مقابل محور المقاومة الممتدّ من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى إيران. ما لم يُسهب فيه السيّد نصرالله، في خطابه في ذكرى المقاومة والتحرير، سبقَ أن لفت إليه في خطابات سابقة عند الحديث عن التحوّلات في الإقليم لمصلحة محور المقاومة. وهو عندما يتوقف، على نحو خاصّ، أمام موقف المرجعية الدينية الممثَّلة بالسيد السيستاني في العراق، فهذا الأمر له دلالاته التي لا تتوقف عند الرهان على تحويل مزاج الرأي العام في العراق، وتحويله عن القضية الجوهرية، فلسطين، لمصلحة محور التطبيع، وما يستتبعه من حرب ناعمة تُسخَّر لها مختلف الأدوات.

إن الترجمة الفورية لمعادلة “القدس في مقابل حرب إقليمية”، هي الانتقال من حالة الدفاع الاستراتيجي إلى حالة الهجوم الاستراتيجي لدى محور المقاومة. أمام هذا التحوّل الذي بدأت ملامحه تتنامى منذ مدة، سيدرك الإسرائيلي، بحسب تعبير السيد نصرالله، “أن أيَّ خطوة ستكون نتيجتها زوالَ كيانه”.

لقد شكّلت معركة “سيف القدس”، في هذا السياق، “بروفة” عما ينتظر الكيان الصهيوني في حرب في جبهات متعددة؛ حرب توقعّها واستشرفها في مراكز أبحاثه، وفي تقديراته الأمنية والعسكرية، لكنه ما زال قاصراً عن إكمال استعداداته لها، بحسب ما كشف الإعلام الإسرائيلي خلال الأسبوعين الأخيرين. هذا فضلاً عمّا كشفته “ملحمة فلسطين” عموماً من عيوب تعتري “إسرائيل” التي فوجئت بهبّة أهل الأرض الأصليين والأُصَلاء في فلسطين المحلتة. ومع ذلك، تبقى هناك احتمالات لمغامرات قد تُقْدِم عليها “إسرائيل” في لحظة تعتبرها ملائمةً لتغيير قواعد الاشتباك، واستباقاً للقدرات المتنامية لدى المقاومة في لبنان، وبلوغها نقطة اللاعودة. من هنا، يأتي تحذير المقاومة من أي رهانات إسرائيلية على الوضع الاقتصادي في لبنان، والمغامرة في أيّ عمل عسكري أو أمنيّ، وهو ليس التحذير الأول.

لم يتوقف إعلام التطبيع عند إشارة السيد نصر الله إلى أن “معركة سيف القدس وجَّهت ضربة قاسية إلى مسار التطبيع ودول التطبيع ووسائل إعلامها”، ليضيف أنه “بعد المعركة نستطيع القول بوضوح إن صفقة القرن سقطت وتلاشت”.

لقد مثّلت “صفقة القرن” محطةً جديدة ومتقدِّمة في طريق محاولة إنهاء القضية الفلسطينية. شُبِّه لعرّابيها أن اللَّحظة باتت مؤاتية للانقضاض على ما تبقّى من جَذْوتها، والاستفراد بفلسطين. من المفيد هنا التذكير بما قاله جاريد كوشنير، في منتصف شهر آذار/مارس الماضي، خلال مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال”؛ أي قبل معركة “سيف القدس”.

قال: “نحن نشهد آخر بقايا ما عُرف بالصراع العربي الإسرائيلي”، وذكَر أن أحد أسباب استمرار الصراع العربي الإسرائيلي فَترةً طويلة “هو الأسطورة القائلة إنه لا يمكن حلُّه إلاّ بعد أن تحلّ إسرائيل والفلسطينيون خلافاتهم”، مشدداً على أن هذا الأمر “لم يكن صحيحاً أبداً”. ورأى أن “العالم العربي لم يعد يُقاطع الدولة اليهودية، بل يراهن على أنها ستزدهر”، مضيفاً “أن الأهم من ذلك، أن التطبيع بين السعودية وإسرائيل يَلُوح في الأفق.. بدأ الشعب السعودي يرى أن إسرائيل ليست عدوَّه”.

“صفقة القرن” لم تكن إلاّ محطة جديدة ومتقدِّمة في طمس القضية والتآمر على المقاومة. جاءت معركة “سيف القدس” لتُنهِيَ مفاعيلها، تماماً كما أنهت حرب تموز/يوليو 2006 مفاعيل مشروع “الشرق الأوسط الكبير”. مشاريع ومخطَّطات اتَّخذت أشكالاً ولبوساً متعدِّدة، منها الحرب العسكرية، ومنها التآمر، ومنها الضغوط الاقتصادية، ومنها التسلُّل الناعم، ومنها مخطَّطات التعاون الاقتصادي، كما نظّر شمعون بيريز في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، عندما رأى أن “مشروع السلام” في المنطقة، لو قُدِّرَ له النجاح، سيكون بالنسبة إلى “إسرائيل” أفضلَ من الخوض في مواجهات جديدة، إذ يعتبر أن التركيز على السلام والتنمية الاقتصادية والتعاون التكنولوجي أهمُّ من الحروب.

مفاعيل “سيف القدس” لم تَنتَهِ بعدُ، وهي ستشكِّلُ، على الأرجح، محطةً تأسيسية مضادّة للمشروع الصهيوني وأدواته، التي تنوّعت خلال السنوات الأخيرة، وعملت على إشعال المنطقة ومحيط “إسرائيل” بحروب الفتنة خلال سنوات “الربيع العربي”، وإطلاق “داعش”، الوجه الآخر للصهيونية، والتي جاءت “صفقة القرن” و”اتفاقات أبراهام” تتويجاً لها.

ماذا لو نجحت المخطَّطات التي حيكت لمنطقتنا خلال السنوات الأخيرة، فكيف كان ذلك سيؤثّر في فلسطين؟ يسأل السيد نصر الله في خطابه، لكن من غير المتوقَّع أن يجيب إعلام التطبيع.