الخبر وما وراء الخبر

حقارة غربان السماء وهراء أهل الأرض

166

بقلم / حمود عبدالله الأهنومي


 

هنا مدرستان مدرسة للبنين وأخرى للبنات، تسمع هدير طابور صباحهما، هذه البنت تؤدي تحية العلم، بينما تردِّد إذاعة الأولاد النشيد الوطني.

يتحرك الجميع نحو الفصول الدراسية، ويخفت صراخ الميكرفونات، وتبدأ الفصول بأحاديثها الجانبية، ولكن لم يمض وقت طويل وإذا بصوت انفجار ضخم، وأنت تقف بجانب مدرسة البنات تظن أن الصاروخ السعودي غرز فمه الوهابي القذر في الجانب الآخر من المدرسة.

بنات الصفوف الأولى يصِحْن بصوت واحد، ويكثر البكاء والخوف والقلق منهن؛ وكأنه قرينة لوقوع الصاروخ ضيفا وسخا عليهن.

الأخصائية تفقد وعيها، وبعض المدرسات يبكين، والمدرسون الذين يظنون أن الصاروخ ربما سقط في حارتهم يحاولون مغادرة المدرسة، وأولياء الأمور رجالا ونساء يهرعون إلى المدارس ليطمئنوا أبناءهم وبناتهم الصغار.

هؤلاء يظنون أن الصاروخ انفجر قرب أولئك وأولئك يظنونه حل عند هؤلاء. غير أن ارتفاع الدخان والغبار بأطراف الحي يعطي مكانا آخر للانفجار ليس أيا منهما.

وتنشر الإشاعة نفَسَها الخبيث بأن العدوان السعودي الأمريكي يستهدف المدارس فيظن الطلاب وأمهاتهم سوءا، وتعزز ذلك الظن السيء تلك الصور لمئات المدارس المدمرة وآلاف الضحايا في ربوع اليمن.

وتقرر الفوضى والارتجال أن يغادر الطلاب والطالبات المدارس ولكن مع الأولياء الذين لا زالوا الآن يتزاحمون على أبواب المدرسة والفصول. ثم بعد لحظات يأتي الانفجار الثاني والثالث وتظهر الطائرة المشؤومة لتحوم في سماء الحي ذاهبة وآيبة. يكثر قلق الصغار ويتعوّد من هم أكبر على اللحظة المحزنة شيئا فشيئا هذه الشوارع تموج الآن بالرجال والنساء والبنات والبنين من مختلف الأعمار هذه ثلاث بنات من ذوات الست السنين يمضين من أمامي وتمسك شمال أحدهن بيمين الأخرى والعكس، والدموع من مآقيهن كالغيث المدرار.

وأخريات مثلهن كثير وكثير، تختلف بهن السبل، وتتحد فيهن المأساة التي يصنعها عالم القذارة السعودية الأمريكية.

يبكين، لأن كثيرا من زميلاتهن ومربياتهن يبكين، هن يتوجهن يمينا وأخريات كثيرات يتوجهن شمالا، وكل في طريق بيته يسبح.

يقول أحدنا: إنه لمن الخطأ أن يسمح بخروجهن في هذا الوقت الذي تحتدم فيه الحقارة السعودية الأمريكية وترمي الأحياء السكنية بالقنابل؛ لكن وهل هناك من يستطيع منع أولياء الأمور من التزاحم في بوابة المدرسة وكل منهم يريد طمأنة ابنته أو ابنه ولا يجده إلا بعد اللتيا والتي.

مِن هناك يهرع أب للتو قام من نومه دفعت به زوجته ليشارك في جزئية بسيطة من هذا المشهد التراجيدي المؤسف، ومن هنا تخطو أم بسرعة غير معهودة وقد أمسكت ببنتيها وبنت جارتها، وتجري بهم وهي تتلفت إلى السماء التي حوّلها آل سعود إلى مصدر للحقارة بعد أن عهدها الناس مصدرا للخير والرحمة دائما.

لكن هؤلاء طلاب من ذوي الأعمار الكبيرة يضحكون من خوف الصغار، وبعضهم يحاول أن يشاركنا طمأنة الصغار والتخفيف من روعهم، ومع ذلك قد تسمع من هنا ومن هناك أولئك المشاغبين الذين يتمنون أن يستمر الحال على هذا النحو حتى تغلق المدارس أبوابها، فيتفرغون للعب أكثر. أنت هنا يجب أن تضحك ولو من بين ركام البكاء.

لا سيما حين يصل إلى سمعك صوت ميكرفون متجوِّل يعيش عالما آخر يجول في الشارع، وينادي على رؤوس أشهاد هذا المشهد: البيض البيض، وكأن البيض هو من كان ينقص هذه التراجيديا. يا ألله ما هذا؟ أنت في صنعاء التي حوت كل فن وكل جن هذا يموت وهذا يضحك، وهذا يبكي وهذا يعلن بضاعته على رؤوس الأشهاد.

وهذا يراقب الطائرة ويهزأ منها وتلك تخاف منها. وعلى أفواه الجميع تدور لعائن الله على بني سعود القوم المترفين الذين أكثروا في الأرض الفساد.

في صنعاء لم نعد نستطع أن نمر سريعا بسرعة السنين الضوئية لنعطي بعض حق لمشهد من مشاهد حقارة بني سعود وأسيادهم الأمريكان. بينما أنت مشدوه وتقلبك الأوجاع ذات اليمين وذات الشمال لأن الحقراء قصفوا المكفوفين، فإذا بك تجد على الضفة الأخرى في نفس اللحظة قنابل عنقودية وقد ضربت أكثر من حي.

وبينما يجب أن تعيش بعض الحزن لأن الرياح أتت بخبر استشهاد حبيب؛ فإذا بآخر أقرب إليك صلة وأوشج منك رحما قد غادر الحياة كريما ودفع بالعشرات من أقاربه إلى معركة البطولات العظيمة. وفيما أنت تروي لأطفالك بعضا من صور حياة المجاهدين في ورعهم وعفتهم وبطولاتهم وعشقهم للدفاع عن بلدهم، وهجرانهم لأهلهم وذويهم وعشقهم لحياة المرابطة والمصابرة؛ إذا بحسابك يخبرك أن جيوش المفسبكين تنقسم على نفسها بسبب كلمة الزعيم.

يا رب وهل علينا أيضا أن نتسع لكل هذا الهراء؟!