الخبر وما وراء الخبر

 الحرب الباردة.. والحرب التجارية الاميركية ضد الصين

23

ذمار نيوز || تقارير ||
[7 يوليو 2020مـ -16 ذو القعدة 1441هـ ]

صوفيا – جورج حداد/ العهد الاخباري

قبل ان ينجلي دخان الحرب العالمية الثانية، وخلال زيارته للولايات المتحدة الاميركية سنة 1946، وفي خطاب له امام احدى الكليات العسكرية، اطلق ونستون تشرشل اشارة انطلاق الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي (والمعسكر الاشتراكي السابق الذي كان قيد التشكل) بالقول “إن الدول الديموقراطية ارتكبت خطأ كبيرا بوقف الحرب، وانه بعد القضاء على المحور الفاشي، كان ينبغي لتلك الدول ان تواصل الحرب ضد الاتحاد السوفياتي (السابق)، وتنجز الهدف باحتلال موسكو والقضاء على الكرملين”. بمعنى آخر كان يجب تحقيق هدف هتلر باحتلال الكرملين الذي كان شبحه ـ ولا يزال ـ يرعب كل اوروبا (واسيا واميركا!) منذ عهد القياصرة.

وفي تلك اللحظة التاريخية كانت الولايات المتحدة الاميركية تتفوق على الاتحاد السوفياتي بالتفرد في امتلاك القنبلة الذرية. وكان الاتحاد السوفياتي مدمرا تدميرا شبه كامل. ونظريا كان بامكان الجيوش الاميركية والغربية ان تشن هجوما مباغتا وتقتحم الاراضي الروسية المحروقة وتقوم بعملية انزال جوي للوحدات الخاصة في قلب موسكو وتحتل الكرملين ذاته وتدك للارض مقر البطريركية الارثوذكسية الروسية.

ولكن الامبريالية الاميركية والغربية “الديموقراطية” احجمت عن الاقدام على هذا العدوان الجنوني لاسباب جوهرية أهمها:

اولا ـ ان العلم الاحمر للجيش السوفياتي كان يرفرف عاليا في برلين، وملايين الجنود والضباط الروس والسوفيات ينتشرون في اوروبا الشرقية التي ساهموا في تحريرها من النازية. والاحزاب الشيوعية الاوروبية التي شاركت في المقاومة الشعبية ضد النازية كانت لا تزال تمتشق السلاح من باريس الى روما والى اثينا. وهذا يعني انه في حال وقوع عدوان “ديموقراطي” غربي ضد موسكو، فإن الجيوش السوفياتية الموجودة في اوروبا الشرقية، بالتعاون مع الاحزاب الشيوعية الاوروبية المسلحة وحلفائها، ستقوم بهجوم مضاد يتمثل في قفزة نمر واحدة تسيطر فيها الحركة الشيوعية على جميع الاراضي الاوروبية، وترفع الاعلام الحمراء في جميع المدن الاوروبية، ولا يعود بامكان السير ونستون تشرشل ان يعود الى لندن، ويبقى “ضيفا” عند اسياده الجدد الاميركيين. وطبعا لن يكون حينذاك بامكان الاميركيين قصف اوروبا كلها بالقنابل الذرية. وبالمقابل كان سيتم عزل جميع القوات الاميركية المعتدية في اوروبا وسحقها بلا رحمة واعادتها الى اميركا بالتوابيت.

ثانيا ـ ان قوات الجيش الشعبي الصيني بقيادة الحزب الشيوعي وماو تسي تونغ، والتي بلغ تعدادها عشرات الملايين، كانت قد حررت الارياف وتدق ابواب جميع المدن الصينية واولها بيكين. وكانت الثورات الشعبية التحررية بقيادة الاحزاب الشيوعية تلتهب في كل الشرق الاقصى ومنطقة الهند الصينية. وكانت الثورة التحررية “السلمية” بقيادة المهاتما غاندي تلتهب بوجه الانكليز في شبه القارة الهندية، ويمكن “بفركة كعب” ان تتحول الى ثورة حمراء شيوعية. اي ان غالبية الاراضي والاكثرية السكانية في القارة الاسيوية كانت مرشحة لانتصار الثورات المعادية للامبريالية الغربية، التي كانت مهددة ان لا يبقى لها من مناطق نفوذ في الشرق سوى المناطق التركية ـ العربية ـ الاسلامية وافريقيا. اي المناطق التي كانت لا تزال “تدفن رؤوسها في الماضي” وتعيش “خارج التاريخ”.

وثالثا ـ في 1947 فجّر الاتحاد السوفياتي قنبلته النووية (الهيدروجينية) الاولى. وهي اكثر فتكا من القنبلة الذرية. وبذلك فقدت الولايات المتحدة الاميركية الى الابد احتكارها للسلاح النووي.

لهذه الاسباب احجمت الامبريالية “الدمقراطية”، الاميركية والغربية، عن تطبيق نصيحة ونستون تشرشل ومهاجمة روسيا السوفياتية في حينه. ولكن هذا لا يعني انها تخلت عن سياستها العدوانية المعادية للشيوعية والمعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي وروسيا. وتاريخيا تعتبر خطبة ونستون تشرشل في تلك الكلية الحربية الاميركية سنة 1946 نقطة انطلاق الغرب الامبريالي في الحرب الباردة ضد الشرق، الشيوعي بشكل خاص والطامح الى التحرر من الامبريالية والكولونيالية بشكل عام.

ومنذ تلك الخطبة لونستون تشرشل حتى الان اتخذت الحرب الباردة شكلين استراتيجيين رئيسيين:

الاول ـ سباق التسلح، ولا سيما النووي، بين اميركا وروسيا. وقد اعتمدت اميركا على ضخامة اقتصادها الطفيلي لتكديس كميات هائلة من شتى انواع الاسلحة لتطويق الاتحاد السوفياتي بالقواعد والاساطيل الحربية على اختلافها، لخنقه وشله عسكريا، من جهة، ولتحقيق الارباح الاسطورية للتكتلات الاحتكارية الرأسمالية، من جهة اخرى. اي ان اميركا اعتمدت على “كمية” الاسلحة الفتاكة من اجل الحصول على مزيد من الارباح. اما روسيا، ولا سيما في العهد البوتيني، فقد انتهجت سياسة تطوير الصواريخ “لتقريب المسافة” مع اميركا، وسياسة التطوير “النوعي” للاسلحة، بشكل يسبق باجيال الاسلحة الاميركية. ويمكن القول ان روسيا كسبت هذا السباق بتفوق واصبحت اميركا مهددة بالفناء في الساعة الاولى من اي صدام شامل بين البلدين اللدودين. والقادة الاستراتيجيون الاميركيون اصبحوا “مقتنعين” بهذا الواقع ولهذا هم اكثر اعتدالا من “كاراكوزات” السياسة الاميركية. واميركا اليوم “تتمرن” بشكل ذليل على التخلي عن لغة الغطرسة الحربية وقرقعة السلاح بوجه روسيا.

والثاني ـ مع الاذعان لواقع التفوق العسكري الروسي، فإن اميركا “مطمئنة” الى ان روسيا لن تهاجمها الا في حالة الدفاع عن النفس. ويبقى الهم الاكبر لاميركا هو احتمال التفوق الاقتصادي الصيني عليها.

والنزاع التجاري الراهن بين اميركا والصين هو احد عناصر الصراع لاجل الزعامة الاقتصادية العالمية. وفي الـ70 سنة الماضية انتهجت اميركا مع الصين سياسات متناقضة تماما. فبعد انتصار الثورة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي في 1949، عوملت بكين كعدو ايديولوجي وعسكري ـ سياسي لواشنطن. وبعد زيارة الرئيس الاميركي نيكسون للصين في 1972 انقلبت السياسة الاميركية 180 درجة، وسعت الادارة الاميركية لاستمالة الصين اليها للوقوف ضد الاتحاد السوفياتي. وفي الوقت ذاته كانت الادارة الاميركية تعمل لتحريك كل اشكال المعارضة (“الليبيرالية”، والاتنية ـ التيبتية، والدينية ـ الاسلامية الاويغورية) ضد القيادة الشيوعية الصينية. وبعد احداث ساحة تيان آن مين سنة 1989، انقلبت السياسة الاميركية مرة اخرى وبدأت في تطبيق العقوبات ضد الصين. ومع ذلك فطوال السنوات الثلاثين الماضية عملت الشركات الاميركية بشكل محموم للدخول الى السوق الصينية “الجذابة” والاستثمار فيها. وتمت مضاعفة التجارة بين البلدين، وتوظيف مليارات الدولارات في الاقتصاد الصيني متسارع النمو. وحتى قبل 11 ـ 12 سنة فقط كانت واشنطن تقترح على بكين تقسيم العالم تجاريا بينهما (واتخذت هذه المفهومة تسمية “الثنائي العولمي” او G-2)، محاولة ان تستخدم هذا “التعاون” كمطية للاحتفاظ بزعامتها في الاقتصاد والسياسة العالميين. ولكن اميركا توصلت في نهاية المطاف الى الاستنتاج أنها لا يمكن ان تعيق النهوض الاقتصادي للصين الا بشن الحرب الهجينة والحرب التجارية عليها.

وانطلاقا من هذه الرؤية الاستراتيجية بدأت اميركا بحشد الاساطيل الحربية وحاملات الطائرات والصواريخ النووية متوسطة المدى في بحر الصين الجنوبي وقرب الحدود الصينية.

وفي الوقت ذاته بدأت العمل بشكل محموم لتقويض المواقع الاقتصادية الصينية في الساحة العالمية، وخصوصا عرقلة تقدم الصين في تحقيق برنامجها التجاري ـ الاقتصادي ـ الثقافي ـ الدبلوماسي الهائل المسمى “حزام واحد، طريق واحد” والهادف الى بعث وتطوير “طريق الحرير” القديم وإيصاله الى نصف الكرة الغربي ومده الى بلدان اميركا اللاتينية ذاتها. ووضعت واشنطن هدفا رئيسيا لها ان تمنع الصين من احتلال مركز الاولوية العالمية في حقل التكنولوجيا العالية، والابحاث والابتكارات في حقل الذكاء الصناعي وما الى ذلك. وكتتويج لكل ذلك بدأت اميركا بشن حرب اعلامية واسعة النطاق ضد الصين.

وتدخل الحرب التجارية في هذا السياق بوصفها حلقة مركزية في المعركة الاميركية ضد الصين. ويأمل فريق ترامب التوصل الى نجاحات سريعة على هذه “الجبهة”، باستخدام وسائل عدوانية كالعقوبات غير المبررة، وخرق قواعد منظمة التجارة الدولية، والتنصل من الاتفاقات الدولية الموقعة سابقا من قبل اميركا، والقرصنة والابتزاز، والتهديدات والضغوط ضد سيادة الدول وضد البيزنس القانوني. وقد فرضت اميركا ترامب ضرائب جمركية اضافية على السلع الصينية، بمئات مليارات الدولارات.

ولكن كل هذه السياسة العدائية ضد الصين، لم تجدِ اميركا نفعا. فبالرغم من جميع المضايقات، فإن الاقتصاد الصيني يواصل التقدم بثبات والنمو بنسب ارفع بكثير من الاقتصاد الاميركي المأزوم. ولن يكون حظ اميركا على جبهة الحرب التجارية ضد العملاق الصيني، افضل من حظها على جبهة سباق التسلح ضد العملاق الروسي.