الخبر وما وراء الخبر

الإنسان الجديد أحمد النهمي

65

ذمار نيوز || مقالات ||
[ 30 يونيو 2020مـ -9 ذو القعدة 1441هـ ]

بقلم || أنس القاضي

بشرت الاشتراكية بالإنسان الجديد، هكذا أسماه منظروها الأوائل، وقد وضعوا شروطاً اجتماعية اقتصادية صارمة ومثالية منها ينبثق هذا الإنسان ولا وجود له خارجها او قبلها، ولطالما أبحرت في التجريد اتصور الإنسان الجديد وكيف ستتحدد أخلاق وسلوكيات مجتمعه، لكني حين ابتعدت عن التجريد واقتربت من الواقع الملموس وجدت بأن الانسان الجديد ليس فقط بشارة ماركس ولينيين ولا سلعة ينتجها ظرف اقتصادي معين بل هو موجود في واقعنا، يستطيع الانسان بما فيه من تسام روحي أن يقهر الظرف الاجتماعي الاقتصادي المعرفي السائد ويظهر كإنسان جديد متجاوز لوضع الركود والتخلف والانحطاط إنها جبروت الشخصية الانسانية والعوامل الذاتية النفسية الروحية الوعي المثل التي تجاهلتها النظرية الماركسية الكلاسيكية.

خلال سنوات الحرب المؤسفة المستمرة تعرفت على ممن استطيع أن اقول عنهم بأنهم فعلاً من نمط الانسان الجديد، بعضهم على قيد الحياة، وهناك منهم من قضوا نحبهم شهداء، وهناك من فقدناهم لانقضاء أجل، وقد كان العزيز الدكتور احمد النهمي أحد هؤلاء، كان بحق نموذجا للإنسان اليمني الجديد.

تعرفت على الدكتور النهمي منذ عامين وهي بالنسبة لي مدة كافية لما عرفته فيها وخبرت من أحواله، لأن أطلق تعميمات حول شخصيته، فقد أمتلك شخصية متميزة إنسانية وسياسية فريدة.

كان النهمي على درجة عالية من اليقين بالحرية والديمقراطية والتفتح الانساني الحر، فإلى جانب موقفه الصلب من مسألة التدخل العسكري العدواني الأجنبي إلا انه ظل مدافعاً عن الحقوق الديمقراطية، فتحقق في نضاله هدف رفعه القيادي الشيوعي الكوردي خالد بكداش مؤسس الحزب الشيوعي السوري: “الدفاع عن الوطن ولقمة الشعب”، وصب نضاله نحو شعار رفعه الشيوعي التركماني مؤسس الحزب الشيوعي السوري فهد سليمان : “وطن حر وشعب سعيد”، حيث جعل فهد من حرية الوطن شرطاً لسعادة الشعب، كما جعل بكداش من الدفاع عن خبز الشعب سنداً للدفاع عن حرية الوطن.

أمسك النهمي ببعدي القضية الوطنية البُعد الوطني في مواجهة الأجنبي والبعد الديمقراطي في الحياة الداخلية وما يتعلق بها من خبز وحريات سياسية نقابية، لقد تمسك بهذا المبدأ الديمقراطي في ظرف صعب، ظرف عسكري حربي عادة ما يتم فيه التنازل عن الحقوق الديمقراطية لصالح التمسك بالحقوق الوطنية في مواجهة الأجنبي، وقليلون هم من يستطيعون ان يمسكوا ببعدي القضية الوطنية الخبز والسيادة، وكتابات الدكتور شاهدة على هذا التناسق.

ومما تميزت به شخصية النهمي، بأنه أخذ أفضل السمات التي أكتسبها في مجرى الحياة الاجتماعية السياسية الثقافية، فالنهمي ينتمي إلى مرحلة انتقالية ولد في عهد الاقطاع وترعرع في ظل الرأسمالية، هو شيخ قبلي ودكتور جامعي مدني ومتدين فقيه زيدي متصوف قائد سياسي حزبي وأديب شاعر وناقد معا، هذه السمات والأنماط لا تجتمع في شخصية واحدة، من له هذه الانتمائات والسمات لا يستطيع ان يعيش متناغماً فإما يصاب بانفصام في شخصيته أو تتغلب عليه أحد سماته هذه فتصبح الأخرى هامشية، تناغم وتناسق عجيب استثنائي في شخصية الإنسان أحمد النهمي.

لقد أخذ النهمي أفضل ما في هذه السمات ونبذ ما هو سيء فيها، فهو في التدين ثوري زيدي عقلاني يتبع شعار العدل والتوحيد متصوف ناسك، وفي القبيَلة شيخ جواد كريم خدوم مستعد للتضحية، وفي السياسة وطني ديمقراطي يفرق بين الرئيسي والثانوي، وفي الشعر حساس مرهف وفي النقد حاد مدقق، عرفت الدكتور وقد نضجت شخصيته هذه بشكلها المتكامل، لكني أجهل قصة حياته منذ الطفولة وسير تطورها الانساني الفذ فلا بد ان فيها من الأسرار والأنوار الاجتماعية والروحية الكثير.

عرفت النهمي في فترة محدودة لكنها كانت غنية، ربما كانت لقاءاتي به معدودة لكنها كانت مليئة به بشخصيته الشاملة المبدعة المتناسقة، وأنا الساكن في صنعاء وجدته عندي يوم فرحي وحزني فكان اقرب لي من صلات النسب، لا ريب سنفتقده، ولكنا نتعلم من شخصيته هذه بان الانسان الجديد يُمكن ان يكون قادماً من الريف وعابداً متبتلاً ان يكون سياسي وشاعر ان يدافع عن حرية الوطن وخبز الشعب، ان يكون في درجة أكاديمة عالية ويصغي باهتمام لحديث من هم دونه في التراتبية العلمية، إنه لمن المؤسف بأننا نتأمل فيمن نحب بعد ان نفقدهم ونرى فيهم افضل ما فيهم حين نفتقر إلى حضور هذه القيم والقسمات الفضيلة، والنهمي يقول لنا بأن الارتقاء الانساني في هذا الوضع ممكن وبأن الانسان الجديد يمكن ان يوجد اليوم في هذا الواقع المتردي.