الخبر وما وراء الخبر

 الجماهير الشعبية الاميركية تتدرب على الثورة الانارخية والحرب الاهلية

29

ذمار نيوز || تقارير ||
[11 شوال 1441هـ ]

صوفيا ـ جورج حداد/ العهد الاخباري

عام 1947 وفي تصريح صحفي له، قال غيورغي ديميتروف الأمين العام السابق للكومنترن (الاممية الشيوعية) وبطل محاكمة لايبزغ الشهيرة في 1936: “ان الفاشية ليست ألمانيّة فقط. والفاشية الجديدة هي الاميركانيزم” (اي الاميركانيانية او الامركة).

وفي نظرة الى تركيبة الدولة الاميركية المعاصرة تتأكد تمامًا المقولة الاستشرافية لغيورغي ديميتروف، المناضل الفذ ضد الفاشية. فالدعائم الثلاث للفاشية: العدوانية الامبريالية الخارجية، والقمع الوحشي الداخلي والدعاية الديماغوجية الضخمة، تنطبق تمامًا على الدولة الأميركية أكثر مما كانته الدولة الالمانية الهتلرية ذاتها، مع فارق بسيط هو أن الاميركانيزم هي هتلرية بدون هتلر.

فأولا ـ تمتلك الولايات المتحدة الاميركية أكبر ميزانية حربية في العالم، وهي تفوق بحجمها الميزانيات الحربية لأكثر من العشر دول التي تليها، بما فيها روسيا والصين معا. وهي تحتفظ بمئات القواعد العسكرية وباكثر من مليونين ونصف المليون جندي في الخارج، وكانت “البطل!” الرئيسي في جميع الحروب المباشرة والحروب الهجينة التي وقعت بعد الحرب العالمية الثانية.

وثانيا ـ تمتلك الولايات المتحدة الاميركية شبكة اعلامية وآلة بروباغندا لا مثيل لضخامتها، وهي تنفق الوف مليارات الدولارات على هذه الشبكة الاخطبوطية التي تتولى غسل الأدمغة جماهيريًا وتضليل وتسميم وعي الشعب الاميركي (وشعوب العالم بأسرها) لابقائه رهينة ومطية للسياسة الامبريالية، العنصرية، الشوفينية، السوبرمانية والعدوانية، الاميركية.

وثالثا ـ تمتلك الولايات المتحدة الاميركية أضخم جهاز بوليسي في العالم للقمع الداخلي. وهو يتألف من قوات الامن المركزية (الاتحادية = الفيديرالية) المسماة الحرس الوطني الفيديرالي وهي جيش كامل بكل المعدات الخاصة بالجيش الاميركي ذاته ما عدا حاملات الطائرات والسفن الحربية الضخمة والسلاح الصاروخي الفضائي وعابر القارات والسلاح النووي الاستراتيجي، بالاضافة الى أجهزة البوليس الخاص بكل ولاية.
وأخيرًا لا آخرًا، أجهزة المخابرات المتعددة، وأشهرها الـ “سي أي ايه” والـ “إف بي آي”، التي يعتبر كل منها “دولة في الدولة” ويمتلك ميزانية تقدر بعشرات أو مئات مليارات الدولارات، وجيشًا من العلماء والاختصاصيين والعملاء والمخبرين، وخصوصا “المخبرين الشعبيين” الذين ينتشرون كـ”الذباب على جثة” في كل منظمة ونقابة وجمعية وجامعة ومدرسة وكنيسة ومؤسسة وحي وشارع في طول الولايات المتحدة وعرضها. وهذا الجيش يحصي على كل مواطن اميركي او مقيم في اميركا انفاسه ويتم استدعاؤه للتحقيق لدى ادنى شك في “الولاء لاميركا” من تصرفاته واقاويله وصداقاته وعلاقاته الاجتماعية والعائلية حتى أكثرها حميمية. ومع كل تبجح البروباغندا الاميركية حول حقوق الانسان، فإن المواطن الاميركي هو انسان مستباح كليا، لا حقوق ولا خصوصية ولا كرامة شخصية له امام طاغوت الدولة الاميركية.

ورغم كل هذا الجبروت للطاغوت الدولوي الاميركي الثلاثي (العسكري ـ البروباغاندي ـ البوليسي والمخابراتي) فقد اندلعت الانتفاضة الشعبية الواسعة الاخيرة في اميركا انطلاقا من شرارة واحدة تمثلت في القتل البوليسي الوحشي لمواطن اميركي من اصل افريقي.

كيف أمكن لهذه الانتفاضة الشعبية الواسعة أن “تنزلق” من بين أصابع القبضة الحديدية للدولة الأميركية؟

للإجابة عن هذا السؤال ينبغي التعرف على الجماعات أو الفئات المجتمعية الأميركية الخارجة موضوعيًا عن سيطرة الأجهزة البوليسية المخابراتية الاميركية. ونحاول فيما يلي أن نتعرف على هذه الفئات:

ـ1ـ المشردون المهمشون (اي غير المؤطرين في مؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تسيطر عليها الدولة حكما مباشرة او غير مباشرة). وهؤلاء المشردون “يعيشون؟!” في أكواخ عشوائية في ضواحي المدن وفي زواريب الأحياء الفقيرة، وينامون على الأرصفة وفي الحدائق العامة ومحطات القطارات وبعض المباني المتهالكة والمهجورة. وهم يعدون بالملايين في الجنة الأميركية.

ـ2ـ العاطلون عن العمل، وخاصة الشبان، الذين تنهشهم الحاجة والفقر، والغاضبون جدا على المجتمع الاميركي، ولكنهم لا يعبرون عن غضبهم لانهم غير منظمين ولا يجدون الوسيلة للتعبير عن غضبهم الا ببعض الثرثرات الجانبية.

ـ3ـ المحاربون القدامى، وخاصة الجرحى والمعاقون وأصحاب الأمراض والأوضاع النفسية السيئة، الذين سبق وعانوا تجربة “الحضور الدمقراطي” الاميركي في فيتنام ولبنان وافغانستان والعراق وسوريا وغيرها. وهؤلاء يعدون بمئات الالوف. وهم يجترّون خيباتهم وآلامهم ومعاناتهم ويتوقون الى الانتقام لما حل بهم، ولكنهم لا يعرفون أين وكيف وممن.ـ4ـ الطلاب والشباب في مقتبل العمر، المستقلون، المصدومون بتفاهة وحقارة “المثال الاميركي” و”نمط الحياة الاميركي” وسلبياته وبشاعة وجهه الاخر، وجهه الحقيقي القائم على التمييز العنصري والديني والاتني والاجتماعي والطبقي، والثروة الفاحشة مقابل الفقر المدقع، وامتهان الحرية الشخصية والكرامة الانسانية تحت حذاء أي شرطي أو لص بورجوازي أو غانغستر أو مافياوي أميركي.

ـ5ـ المثقفون وأنصاف المثقفين، الفردانيون، الذين يدركون الطبيعة اللاانسانية للنظام الاجتماعي الاميركي، ويملكون الرؤية الخاصة لضرورة واشكال الثورة عليه وتغييره، ولكنهم يلتزمون الصمت ليحتموا من الآلة القمعية للدولة الاميركية، ويحافظوا على لقمة عيشهم، الا أنهم يتوقون الى التعبير عن أفكارهم في الوقت المناسب والظرف المناسب والمكان المناسب. وهؤلاء يعدون بعشرات ومئات الألوف في كافة أرجاء أميركا.
وقد جاءت الانتفاضة الأخيرة لتسحب الى الشارع، بالتدريج، كل هذه الفئات.

ولا شك أن القتل العلني السادي البشع للمواطن الاميركي الزنجي قد ألهب مشاعر كل انسان شريف في اميركا وخارجها. ولكنه من السطحية الاعتقاد ان هذه الجريمة هي السبب الوحيد لتفجير الانتفاضة الاميركية الحالية، وأن هذه الانتفاضة تهدف فقط الى المحاسبة العادلة لرجال الشرطة المسؤولين عن الجريمة.

فالواقع أن تراكم كل أزمات المجتمع الأميركي هو الذي أدى الى انفجار الانتفاضة وبهذا الشكل الواسع والعنيف. وقد جاءت أزمة وباء كورونا لتصب الزيت على نار الانتفاضة. اذ إن الوباء والاجراءات المرافقة له ألقت بعشرات ملايين العمال والموظفين في براثن البطالة والفاقة والجوع، كما أن انتشار الوباء فضح حقيقة مرعبة وبالغة الخطورة وهي أن الدولة العظمى الأميركية التي تنفق ألوف مليارات الدولارات على الأسلحة والجيوش والبروباغندا والبوليس والمخابرات لا تملك الحد الادنى من نظام صحي لحماية “القطيع الشعبي” الاميركي من كارثة بيئية غير استثنائية.

إن دونالد ترامب وكل أجهزة الدولة الأميركية يصبون جام غضبهم اليوم على ما يسمونه “اليسار الراديكالي” وحركة “انتيفا” “antifa” وهي اختصار للكلمة المركبة “antifascism معاداة الفاشية”. وهم يهددون باتهام “انتيفا” بأنها “منظمة ارهابية” كالمنظمات الاسلاموية التي شاركت في أحداث ايلول 2001 في أميركا، ومن ثم الحكم على المتهمين بها بالسجن عشرات السنين.

ولكن ادارة ترامب تصطدم بعقبة دستورية وقانونية عويصة وهي أن “انتيفا” ليست منظمة أو حركة ذات اطار تنظيمي محدد.
إن انتيفا هي أشكال تنظيمية ظرفية ومكانية تظهر في لحظة معينة لتنفيذ مهمة محددة ثم تزول بعد تنفيذ هذه المهمة (مثلا مهاجمة مخفر شرطة واحراقه، او مهاجمة متجر والاستيلاء على محتوياته) فإن “التنظيم” الذي يقوم بهذه المهمة يولد في مكانه ويختفي ويزول مباشرة بعد تنفيذ المهمة ويذهب كل واحد من المشاركين في طريقه.

وبذلك يمكن تشبيه فعاليات انتيفا بفقاعات الهواء التي تخرج من الماء وهو في حالة الغليان. وهو ما يقودنا الى مفهوم الانارخية anarchy التي تترجم أحيانًا كثيرة في العربية بكلمة (الفوضوية) وهي ترجمة خاطئة تمامًا، والصحيح هي “اللاسلطوية”، والاصح “اللاآمرية”. ولمنع الالتباس يفضل استخدام تعبير (الانارخية) وهو اللفظ العربي للعبارة يونانية الاصل.

والآن، يحتمل أن تستمر الانتفاضة الاميركية الحالية لتتحول الى ثورة عارمة أو حرب أهلية. ولكن حتى لو توقفت عند حد معين فإنها تمثل تمرينًا ميدانيًا كبيرًا للثورة والحرب الأهلية.

ومن يدري ربما تقدم لنا أميركا الشعبية تجربة انسانية جديدة مفادها أن الثورة و”النظام؟!” الانارخيين هما ممر الزامي لبناء نظام اشتراكي علمي حقيقي، انساني الغاية والوسيلة معًا، ولا تنخره ولا مكان فيه للجرائمية الستالينية العميلة للامبريالية واليهودية العالمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل