الخبر وما وراء الخبر

الحرب الباردة الاميركية ترتد على واشنطن

25

حتى نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، كانت الوضعية الجيوستراتيجية العالمية تقوم على “الحرب الباردة” بين المعسكرين الشرقي والغربي. وكانت السمة الظاهرة للحرب الباردة حينذاك هي السمة الايديولوجية، أي سمة الصراع بين النظام الاشتراكي الموصوم بالتوتاليتارية والنظام الرأسمالي الموصوف بالدمقراطية البورجوازية. وكانت آلة البروباغندا الغربية الجبارة تزعم ان الدمقراطية البورجوازية (اي الرأسمالية) هي الحل لمعضلات المجتمع البشري.

ومع تفكك المنظومة السوفياتية السابقة وانهيار الاتحاد السوفياتي السابق ذاته، بفضل خيانة النيوستالينية الغورباتشوفية، تأكد أن المحتوى الحقيقي للحرب الباردة السابقة كان ـ ولا يزال ـ يتمثل في نزعة السيطرة الامبريالية على العالم للطغمة الرأسمالية الاحتكارية الكبرى الاميركية ـ اليهودية بمشاركة توابعها في الكتلة الغربية من اوروبا الى اليابان. ولكن بعد انهيار المعسكر الشرقي السابق تأكد ان العالم لم يعد أفضل وأكثر استقرارًا، بل أصبح أسوأ بكثير مما كان عليه. ومن ثم تأكد أن الرأسمالية ليست هي الحل لمعضلات المجتمع البشري، بل هي المشكلة الرئيسية والأساسية للتراجيديا الانسانية. وتأكدت أكثر من أي وقت مضى المفاهيم التي طرحها كارل ماركس منذ أكثر من 150 سنة من أن الرأسمالية لا تدمر المجتمع فقط، بل وتدمر الطبيعة ذاتها والبيئة الطبيعية التي يعيش فيها الانسان.

فاذا تابعنا منطق البروباغندا الغربية كان من المفترض انه ـ بسقوط الاتحاد السوفياتي وزوال خطر “شبح الشيوعية” عن العالم الغربي ـ تنتهي ايضا الحرب الباردة بزوال اسبابها الايديولوجية. ولكن الحرب الباردة استمرت وتفاقمت بعد زوال الاتحاد السوفياتي والغاء “حلف فرصوفيا” العسكري الذي كان يرتبط به. واستمر حلف الناتو بزعامة اميركا في الوجود وادخل تعديلات على نظامه الداخلي الذي كان ينص على “الطابع الدفاعي” للحلف ضد العدوان السوفياتي المحتمل، لكي يتحول “الناتو” الى قوة هجومية لها الحق في التدخل العسكري والامني في البلدان الاخرى في جميع انحاء العالم، حسبما تقرر قيادته الاميركية. وقد شهد العالم التدخل الفظ للناتو في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة وتفكيكها ثم شن الحرب الظالمة للناتو ضد جمهورية صربيا المظلومة وتقسيمها بالقوة وفصل كوسوفو عنها. كما قام الحلف بالتدخل، الى جانب اميركا، في افغانستان والعراق وليبيا، وفي جورجيا واوكرانيا ضد روسيا، وذلك لتأمين المصالح السياسية والاقتصادية لاميركا.

وفي العقدين الماضيين صعّدت أميركا بشكل مسعور الحرب الباردة ضد الدول التي تعتبرها خصماً لها، وخاصة روسيا والصين وايران وكوريا الشمالية وفينزويلا، وفرضت عليها العقوبات الاقتصادية الشديدة بما يتعارض مع جميع القوانين الدولية، كما فرضت العقوبات على الدول التي تتعامل معها خلافا للاملاءات الاميركية. وحشدت الجيوش الاطلسية على الحدود مع روسيا، كما حشدت أميركا الأساطيل الحربية وحاملات الطائرات المزودة بالأسلحة النووية في بحر الصين، وقامت بالاستفزازات العسكرية الخطيرة ضد ايران.

ويصب ترامب الاتهامات ضد حلفائه الاوروبيين، وخاصة المانيا، الذين يتهمهم بالتوجه لوضع برامج تعاون بينهم وبين روسيا.
وقد اشتدت هستيريا ادارة ترامب بشكل خاص بعد اندلاع وباء كورونا الذي بدأ في الصين في نهاية السنة الماضية. وفي البدء راجت انباء صحفية بأن الصين تتهم المختبرات العسكرية الاميركية بنشر فيروس كورونا للنيل من قدرات الصين وتدمير اقتصادها. وسواء كان انتشار الفيروس فعلة اميركية او نتيجة التلوث البيئي فإن الصين واجهت انتشار الوباء باتخاذ تدابير حازمة وتأمين المستشفيات والضرورات الطبية على نطاق واسع وفعال، مما مكنها من خنق انتشار الوباء والسيطرة عليه. ومع انتشار الوباء في مختلف بلدان العالم لم تتوان الصين عن تقديم المساعدات الطبية الى البلدان الاخرى في اوروبا واسيا وافريقيا، وابدت الاستعداد لمساعدة الولايات المتحدة الاميركية ذاتها بعد ان انتشر فيها الوباء واحتلت المرتبة الاولى عالميا في الاصابات والوفيات.

وقد استغلت أميركا وباء كورونا في اتجاهين:

الاول ـ تصعيد الحرب الباردة ضد الصين وشن حملة شعواء ضدها واتهامها بالتسبب في انتشار الفيروس في أميركا وعجز الادارة الاميركية عن مجابهة الوباء.

والثاني ـ استغلال التدهور الاقتصادي الكبير بسبب وباء كورونا وانتشار البطالة والافلاسات الكثيرة وانخفاض أسعار أسهم مختلف الشركات من اجل شراء الاسهم واصول الشركات بارخص الأسعار وتضييق دائرة حيازة الرساميل لصالح الاحتكارات الرأسمالية الكبرى الاميركية واليهودية.

ولكن بالرغم من كل المجهودات الاميركية المسعورة لتأجيج الحرب الباردة ضد الدول التي تعتبرها معادية لها، وعلى رأسها روسيا والصين وايران، فإن رياح الحرب الباردة الاميركية تسير بعكس ما تشتهي الادارة الاميركية، بل وضد المصالح الاميركية اي ضد مطامع التوسع والهيمنة الاميركية بالذات. ويكفي ان نشير الى المعطيات العالمية التالية:

ـ1ـ في تسعينيات القرن الماضي أجرت مجلة “نيوزويك” الأسبوعية الأميركية استطلاعًا ذكرت فيه أن الصين تتقدم لتنتزع من أميركا المركز الاول كأضخم اقتصاد عالمي. ومنذ ذلك الحين والصين تمثل كابوسًا حقيقيًا للدوائر الامبريالية الاميركية لأنها تدرك أن احتلال الصين لهذا المركز سيعني انقلاب الاوضاع الاقتصادية والجيوستراتيجية العالمية رأسا على عقب، في غير مصلحة اميركا، وانه سيوضع اكليل اخير على قبر الهيمنة العالمية والاحادية القطبية لاميركا.

وقد بدأت أميركا منذ عهد اوباما تحشد اساطيلها وحاملات الطائرات المزودة بالاسلحة النووية في بحر الصين. وبادر دونالد ترامب الى شن الحرب التجارية المسعورة ضدها. ولكن هذه الحرب فشلت فشلا ذريعا منذ بدايتها بالذات. والان وبالرغم من الاضرار التي اصابت الاقتصاد الصيني بسبب وباء كورونا فإن الصين لا تزال تسجل معدلات نمو اقتصادي، في حين يتدهور الاقتصاد الاميركي نحو انكماش كارثي. ويتوقع الكثير من الخبراء ان تحتل الصين المركز الاول كأضخم اقتصاد عالمي في هذه السنة بالذات.

ـ2ـ عمدت الادارة الاميركية الى فرض عقوبات اقتصادية شديدة ضد روسيا بهدف الخنق التام للاقتصاد الروسي والتسبب باحداث مجاعة حقيقية في البلاد ومن ثم تحريض المعارضة المشبوهة الموالية للغرب للقيام باضطرابات تؤدي الى اسقاط النظام القومي للرئيس بوتين تمهيدا لوضع اليد الامبريالية العالمية على روسيا وتمزيقها ونهب خيراتها. ولكن هذه السياسة العدوانية فشلت فشلا ذريعا وادت الى دفع روسيا لاقامة علاقات تجارية ومالية واقتصادية واسعة وثيقة مع الصين وايران ودول البريكس تقوم على التعامل بالعملات الوطنية للبلدان المعنية خارج الدائرة الدولارية، وهذا ما ادى الى تقليص ضخم في مساحة استخدام الدولار وزعزعة مكانته المميزة في الاقتصاد العالمي.

ـ3ـ ان السياسة الانانية التي تنتهجها الادارة الاميركية، ولا سيما في عهد ترامب، والتي لا تقيم اي اعتبار لمصالح اي دولة تتعامل معها، بما فيها الدول الحليفة التاريخية لها، تدفع العديد من دول اوروبا الغربية ذاتها، وعلى رأسها المانيا، وشتى الدول الاسيوية والافريقية للبحث عن آفاق جديدة للعلاقات الدولية، ولا سيما الاقتصادية، خارج نطاق النفوذ الاميركي. وتتجه المزيد من الدول للانفتاح اكثر فأكثر “نحو الشرق” وخاصة نحو روسيا والصين.

ـ4ـ منذ الاطاحة بنظام الشاه في ايران واقامة الجمهورية الاسلامية الايرانية، وايران تمثل شوكة في حلق الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية.

وفرضت على ايران اشد العقوبات والحصار الاقتصاديين وهي تتعرض للاستفزازات العسكرية اليومية من قبل القوات الاميركية التي تضع العالم على شفير حرب اقليمية مدمرة او حرب عالمية ماحقة. وفي رأس اهداف اميركا من الحصار على ايران تخفيض تصدير النفط الايراني الى الصفر لخنق الاقتصاد الايراني تماما. ولكن كل هذه الحملة الهستيرية الاميركية ـ الناتوية ـ الاسرائيلية ضد ايران تصاب بالفشل الذريع امام صمود الثورة الايرانية بشعبها الصابر المناضل وقيادتها الحكيمة. ومؤخرا اقدمت ايران على عقد صفقة تجارية لتصدير البنزين الى فنزويلا.

ويعتبر ذلك تحديا مزدوجا للامبريالية الاميركية، أولًا لاقدام ايران على خرق الحصار عليها وبيع نفطها للخارج علنا وعلى رؤوس الاشهاد، وثانيا، لانها تبيع البنزين الى فنزويلا بالذات التي هي ايضا محاصرة من قبل اميركا وممنوع عليها استيراد حاجاتها الحيوية من الخارج. وقد ابحرت 5 حاملات نفط ايرانية تنقل البنزين الى فينزويلا على مسافة اكثر من عشرة الاف كيلومتر بين الخليج العربي ـ الفارسي والبحر الكاريبي، تحت انف البواخر الحربية وحاملات الطائرات والغواصات والطائرات الحربية الاميركية التي لم تجرؤ على اعتراض الناقلات الايرانية، لان ايران هددت بأنها سترد بالشكل المناسب اذا تعرضت ناقلاتها لاي عدوان. ان وصول الناقلات الايرانية الى فنزويلا قد مرغ هيبة الامبريالية الاميركية في الوحول.