الخبر وما وراء الخبر

مفاوضات جنيف والهرم المقلوب

148

بقلم/ حسن زيد


أكّد المبعوثُ السابقُ للأمين العام للأمم المتحدة السيد جمال بن عمر، أن حوارَ موفمبيك بين القوى السياسية الذي كان برعايته وشاركت فيه كُلُّ المكونات والأَحْزَاب الموقّعة على اتفاق السلم والشراكة، كاد ينجز اتفاقاً يعالجُ الأزمة السياسية في الـيَـمَـن، إلّا أن العدوان السعودي أجهض ذلك.

قرارُ مجلس الأمن ٢٢١٦ (قميص عثمان الذي يسفك الدم الـيَـمَـني بدعوى تنفيذه) ينص على استكمال الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة وكل القرارات والبيانات الأممية والإقْليْمية، بما في ذلك بيانات مجلس التعاون الخليجي تؤكد على أن الحل السياسي هو الوحيدُ الممكن لمعالجة الأزمة الـيَـمَـنية، كما تؤكد على أن الحوار والحوار وحده هو المدخل الوحيد لوقف الحرب والعودة إلى العملية السياسية لاستكمال مهام المرحلة الانتقالية وصولاً للعودة إلى الوضع الطبيعي الدستوري بعد إجراء الانتخابات بناءً على الدستور الذي يجب أن يقر أولاً بعد تعديل مسودته الحالية لإزَالَة ما فُرض بدون توافق وبالتجاوز لمقررات مؤتمر الحوار الوطني المتوافق عليها.

المشكلة كانت ولا تزالُ سياسيةً، وجوهرُها إصرارُ الأنظمة والحكومات المتعاقبة قبل ثورة ٢١ سبتمبر ٢٠١٤على التفرد بالسلطة والحكم وعدم القبول بالشراكة الوطنية، وكان آخرها حكومة  خالد بحاح التي أقصت المؤتمر كحزب وإن استوعبت شخصيات مؤتمرية وأقصت أَنْصَـار الله رغم أنهم القوة التي أوصلت الحكومة للسلطة.

ولقد حاولت الوثائقُ والاتفاقات السياسية وآخرها اتفاق السلم والشراكة والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية ثم ورقة الضمانات رغم التحفُّظ على بعض ما ورد فيها ومقررات مؤتمر الحوار ومن قبل ذلك كُلُّ الاتفاقات بدءً من وثيقة العهد والاتفاق عام ١٩٩٤م أن تضع أسساً ومحددات لتوسيع قاعدة الشراكة الوطنية والحد من التفرُّد والاستئثار والاقصاء للشركاء (الذين يتمتعون بوجود سياسي واجتماعي مؤثر)، إلّا أن هذه الاتفاقات كان يتم الالتفاف عليها وتعطيل مضامينها كما جرى لاتفاق السلم والشراكة ومن قبله المبادرة ومقررات مؤتمر الحوار والنقاط العشرين والإحدى عشرة… إلخ لأَسبَاب لا مجال لذكرها ولكن أهمها من وجهة نظري هو أن التنفيذَ منوط برجل السلطة الأول (الرئيس كموقع ومؤسسة) الذي يتمتع بسلطة استثنائية تعززها الثقافة الأبوية التي تجعل من الرجل الأول مصدر السلطة والجاه والمال والثروة، ولهذا حاول الـيَـمَـنيون معالجة ذلك باللجوء إلى مجالس الرئاسة الجماعية (في الشمال تجربة المجلس الجمهوري والجنوب المكتب السياسي وتوزيع السلطة بين الأمين العام للحزب ورئيس الدولة والحكومة، وعقب الوحدة مجلس الرئاسة) وتزداد الأزمة تعقيداً عندما يمارس الرئيسُ سلطته بمزاجية وانعدام مشروع وطني ورؤية كما حدث في عهد الرئيس المنتهية ولايته والمستقيل الفار عبدربه منصور هادي.

المشكلة إذاً سياسية والعدوان عمل شيطاني طارئ أقدم عليه لتدمير الـيَـمَـن ولمنع اتفاق الـيَـمَـنيين خارج إطار الوصاية التي مورست على الحكومات الـيَـمَـنية منذ المصالحة الوطنية نهاية ستينيات القرن الماضي ورسّخت أكثر في فترة صراع المعسكرَين واعتماد الـيَـمَـن على الدعم الخارجي (في الشمال والجنوب) ورسمت بفرض الاتفاقية الخليجية التي منحت دولَ الخليج والمجتمع الدولي الوصاية الصريحة معززةً بإخضاع الـيَـمَـن والـيَـمَـنيين تحت البند السابع.

عوداً على بدء، القرار 2216 (قميص عثمان) ينص على استكمال الحوار السياسي بين المكونات السياسية المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني والملتزمة بتنفيذ قرارته ومنها الأَحْزَاب والمكونات الموقّعة على الاتفاقية الخليجية.

ولكن المبعوث الدولي السيد إسماعيل ولد الشيخ قلب الهرَمَ وتجاوز القرار الدولي وطبيعة المشكلة وأَسبَابها ويصر على تجاهُلِ الحوار السياسي بين المكونات السياسية وحصْر المفاوضات في محاولة يائسة مستحيلة لوقف الحرب الداخلية التي رغم أهميتها إلّا أنها غيرُ قابلة للوقف ونارها غير قابلة للإطفاء، والوقف بالعملية التي يقودها الآن وبالكيفية التي يتم التعامل معها وكأن المفاوضات مجرد امتصاصٍ للضغط الدولي المتذمر من استمرار العدوان الغاشم الهمجي على الـيَـمَـن والمدرك لمخاطر اتساع رقعة التطرف والإرْهَاب في الـيَـمَـن كنتيجة للحرب وتحولت المفاوضات إلى مجرد ملهاة وإضاعة للوقت وتعزيز للانقسام والشرخ ووضع عقبات أمام الحوار السياسي.

لماذا؟ لأن الأطراف التي حددها كأطراف للتفاوض لا تستطيع أن توقف الحرب الداخلية وليست مخولة بقرار وقف العدوان الخارجي؛ لأنه لا يكفي حضور طرف واحد من أطراف الاقتتال (أَنْصَـار الله والمؤتمر إن كان طرفاً في المواجهات) لوقف المواجهات في تعز أَوْ مأرب أَوْ الجوف أَوْ لحج وشبوة وحضرموت وجيزان ونجران وعسير وتهامة، بمعنى أوضح وفد الرياض لا يمثل الجماعات المسلحة في تعز وليست خاضعة لإمرته حتى مع إدراكنا لوجود شخصيات حزبية تنتمي للإصلاح والناصري والرشاد في الوفد فهم يمثلون (هادي) ويتلقون التوجيهات منه عبر أحمد عوض بن مبارك أَوْ من المسؤولين السعوديين، ولا أعتقد أن حمود المخلافي أَوْ صادق سرحان وأبو العباس في تعز يدينون بالولاء لأحمد عوض بن مبارك أَوْ يتلقون أوامرهم مباشرةً من دول التحالف (لها تأثيرٌ كبير ولا شك لأنها من تدعم وتتعامل معهم كما تتعامل مع المرتزقة الذين تدفع لهم وترسلهم لدعمهم) إلّا أن القادة الميدانيين لهم أولوياتهم ومرجعياتهم، ولهذا اتُّهموا بالخيانة من قبل قيادات إمَارَاتية وتعرضوا للكثير من المذابح بالقصف الجوي، وقد أعلنها حمود المخلافي صراحةً أن قرار هادي أَوْ التحالف بالهُدنة لا يلزمه ولا يعنيه، والأكثر وضوحاً أن هذه الجماعات والمليشيات سواءٌ أكانت حزبية أَوْ تنتمي للقاعدة وداعش والحراك تستخدم العدوان وقدراته والشرعية المدعاة لتحقيق أَهْـدَافها وغاياتها هي ربما أكثر مما تستخدم قوى تحالف العدوان هذه الجماعات والمليشيات والمنظمات الإرْهَابية.

ولم يَدَّعِ وفدُ الرياض في مفاوضاته أنه يمثل هذه الجماعات ولو فعَلَ لكان كاذباً، كما أنه غير مفوّض من السعودية بالتفاوُض نيابة عنها، ولهذا اقتصرت مطالب وفد الرياض على المطالبة بإطلاق ثلاثة إلى خمسة معتقلين، وبإلحاح معتقل واحد، ورفع الحصار لإيصالِ الدعم إلى ثلاثة أحياء في مدينة تعز، وعندما تجاوز الوفد ذلك وطالب كتعجيز بتنفيذ بعض بنود القرار ٢٢١٦ بقصْد الاستفزاز والهُروب من الحرج الذي شعر به لعجزه وانعدام صفتِه التمثيلية أسقط من يد وفد الرياض الموافقة الصريحة التي أعلنها الوفد الوطني والذي طلب هو بالاتفاق على آلية لتنفيذ البنود التعجيزية (تسليم المؤسسات والأَسْلَحة والانسحاب من المدن) لم يملك وفد الرياض إجابة عن كيفية ذلك ولن يتم ذلك لأنه لم يأت إلّا للمشاركة في ملهاة تمديد وقف العدوان وامتصاص الضغط الدولي المطالب بوقف الحرب لأَسبَاب إنْسَـانية وسياسية و…، فكان التأجيل للمفاوضات إلى منتصف هذا الشهر.

 

هل آلية المفاوضات الحالية يمكن أن توقف الاقتتال الداخلي والعدوان؟

الإجابة لا حتى لو اتفق الطرفان (الوفد الوطني ووفد الرياض) على ذلك وصدر بناءً على اتفاقهما قرارٌ أممي ينص على وقف الحرب؛ لأن الأطراف الفعلية في الاقتتال الداخلي غير ممثلة في المفاوضات وغير معنية بها وبعضها لا تعترف بالشرعية الدولية وتعتبر الاعتراف بها (الكفر بعينه) كالقاعدة وداعش ولا تعترف بشرعية هادي أَوْ بحاح ولا بشرعية سلمان أَوْ أية شرعية عدا شرعية البغدادي والظواهري، وأُخْرَى الحرب بالنسبة لها ارتزاق ومصدر للتهريب والنهب والسلب والتحكم والسيطرة على مناطق توجدها، هذا من ناحية ومن ناحية أُخْرَى السعودية لا يمكن أن توقف العدوان إلّا باتفاق مع قيادة أَنْصَـار الله يفضي إلى انسحاب القوات الـيَـمَـنية من المناطق والمواقع التي يسيطرون عليها وتأمين الحدود وكشف مصير المفقودين من الجنود والضباط السعوديين وغيرهم الذين يعتقد أنهم أسرى أَوْ قتلى ودُفنوا في مناطق سيطرة الجيش واللجان الشعبية داخل أراضي نجران وجيزان وعسير.

ولو فرضنا أن المفاوضات انتجت وقفاً للحرب (سيُستثنى منه المنظمات الإرْهَابية لأنها لن تتوقف)، ما الذي سيحرك الواقع السياسي ليعيد بناء الدولة الـيَـمَـنية الموحدة (الاتحادية أَوْ البسيطة أَوْ حتى الاتفاق على عَودة الدولتين)؟ وما الذي سيعيد السيادة للـيَـمَـن، بمعنى لو تصورنا وقفاً دائماً للحرب كيف سيكون الوضع؟ تثبيت الواقع وتجميده، مناطق تحت سيطرة الجيش واللجان الشعبية وتُحكم بقيادة اللجنة الثورية ومركزه صنعاء ومناطق تحت سيطرة القاعدة (كالمكلا وسيتمدد إلى بقية حضرموت وابين) والحراك وهادي وداعش والمرتزقة بلاك ووتر والقوات الأَجْنَبية بقيادة الإمَارَات والسعودية ومدري مَن في عدن)، ومأرب بعضها تحت سيطرة العرادة وحلفائه الذين سيتقاتلون على السلطة والسيطرة وبعضها تحت سلطة صنعاء وكذلك الجوف، ما الذي سيحرك هذا الواقع إذا توقفت الحرب؟ هل سيظل الوضع هكذا وهل هو قابل للاستقرار ام أن المواجهات ستعود أَوْ تشتعل بين الجماعات المسلحة نفسها (كالمخلافي وأبي العباس في تعز) و…؟، وكيف ستحل قضية العلاقة الـيَـمَـنية السعودية في جيزان ونجران وعسير؟

هل الأمم المتحدة تريد تجزيء الـيَـمَـن وتثبيت عناصر التوتر والحروب بين أجزائه (محافظات ومناطق وأَحْزَاب)؟

المؤكد أن المفاوضات الحالية بجدول موضوعاتها وبالأطراف المدعوة اليها جزء مكمل لعملية العدوان التي هدفت وتسعى إلى منع الحل السياسي الذي لن يكون إلّا عبر حوار سياسي يستكمل الحوار الذي استكمل في الموفمبيك برعاية الأمم المتحدة نفسها كاد يوصل لاتفاق على توسيع قاعدة الشراكة بإصلاح مؤسسة الرئاسة (تشكيل مجلس رئاسي أَوْ حكم انتقالي أَوْ قيادة انتقالية تمثل فيها المكونات السياسية الرئيسة) وحكومة وحدة وطنية وإعَادَة تشكيل المؤسسات السيادية (قيادة المؤسسة الأمنية والعسكرية التي ستتولى تنفيذ بنود القرار ٢٢١٦ المتعلقة بجمع الأَسْلَحة والإشراف على انسحاب المليشيات المسلحة وقيادة العمليات العسكرية والأمنية ضد المنظمات الإرْهَابية) وايضاً إعَادَة تشكيل الهيئة الوطنية للمتابعة والإشراف الرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني واهمها مسودة الدستور، واللجنة العليا للانتخابات ومكافحة الفساد والمجالس المحلية وتوسيع السلطة التشريعية، ولفترة محددة تحدد فيها مهام المرحلة بدقة شديدة وبتزمين واقعي دقيق.

البدء بالمفاوضات الأمنية والعسكرية وتأخيرُ وتجاهلُ المفاوضات السياسية قلبٌ للهرم وعكسٌ لخط السير وتعقيدٌ للأزمة وتمديد لزمن الحرب وتعقيد للمشهد السياسي بصورة أكبر مما هو عليه ومنح قوى الإرْهَاب والغلو المزيد من الوقت للتوسع في امتلاك القوة والموارد

حتى لو وقفت الحرب ولن تتوقف من خلال هذه المفاوضات (لن تتوقف إلّا بقرار أممي) فَإن توقفها لن يكون إلّا صورياً وآنياً ولن يكون شاملاً بل استراحة محاربين.

والأمم المتحدة تدرك ذلك، بدليل أن معالجتها للحرب في سوريا وليبيا كمثال بدأ بالاتفاق السياسي على تشكيل حكومة شراكة تنفذ هي وقف الحرب، وكذلك عمل المجتمع الدولي عام ٢٠١١م في الـيَـمَـن بفرض الاتفاقية الخليجية التي كان جوهرها التزام التوافق في تشكيل وممارسة السلطة.

ما سبق لا يعني أن الوفدَ الوطني اختار المشاركة في هذه الملهاة والانزلاق في متاهة امهال العدوان مزيد من الوقت لقتل المزيد من ابناء الشعب الـيَـمَـن وتدمير مقدراته، لأنه يدرك ولا شك عبثية المفاوضات ويدرك أنه لن يحقق منها للشعب الـيَـمَـني إلّا استمرار الكارثة.

الوفد الوطني يشارك كي لا يقال عنه معرقل ولكي يثبت للشعب الصابر الصامد المجاهد أنه يسعى للسلام وحريص عليه،

وأعتقد أن قيادةَ الأَنْصَـار والمؤتمر الشعبي كما تبين من مواقفهما الأخيرة باتت على قناعة راسخة أن الاستمرارَ في هذه الملهاة شرعنةٌ لاستمرار العدوان ومنح العدوان غطاءً ووقتاً وأيضاً الأخطر إضعافُ الروح المعنوية عند المجاهدين.