الخبر وما وراء الخبر

الانسحاب الأمريكي من السعودية: «الحماية» رهن أسعار النفط

26

لم يكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، غامضاً أو موارباً يوماً في لعبة الابتزاز التي يتبعها مع السعودية. لكن عملية «الحلب» التي يمارسها اتخذت في الأيام الماضية منحى أشد وضوحاً، وأكثر حساسية في آن.

حين سئل عن صحة التقارير بشأن تخفيف الوجود العسكري في المملكة والخليج، استعاد فوراً عباراته المكرورة بهذا الشأن: «هناك دول غنية نحميها مقابل لا شيء، وإن كنا نقدم الحماية إلى بعض الدول، فعليها احترامنا».

اكتفى ترامب بترداد سياسته المعروفة مع الحلفاء من دون الإسهاب في تفاصيل أكثر، لكنها كانت إجابة كافية لفهم ما تقوم به القوات الأميركية في المنطقة. مع ذلك، بدا أن ترامب يترك الباب موارباً أمام الرياض لتقديم مزيد من الخضوع في أسعار النفط، إذ قال: «لا أريد التحدث عن ذلك… هناك تحرّكات لقوّاتنا في الشرق الأوسط والعالم»، معقباً حول «دول غنية نحميها مقابل لا شيء» بالقول: «هذا الأمر لا ينطبق على السعودية… إنها وافقت على تحمّل بعض النفقات».

هذا التعليق كان على تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» كشف عن سحب واشنطن بطاريات «باتريوت» مضادة للصواريخ نشرتها عقب الهجمات اليمنية على منشآت «أرامكو» النفطية، ومغادرة سربين من المقاتلات الأميركية المنطقة، بموازاة دراسة البنتاغون خفض الوجود البحري. معلومات مشابهة أفاد بها مسؤول أميركي ونقلتها وكالة «أسوشيتد برس». أما «فرانس برس»، فنقلت عن مصدر عسكري أمس أن واشنطن «قرّرت سحب أربع بطاريات باتريوت مع طواقمها من السعودية بعدما اعتبرت أنّ التهديد التي تمثّله إيران على مصالح الولايات المتّحدة في المنطقة تراجع… اثنتان من هذه البطاريات نشرتهما في السعودية بعد الاعتداءات الصاروخية التي استهدفت منشآت نفطية تغادران الآن»، مشيرة إلى أنه كان من المفترض أن تعود هاتان البطاريتان إلى الولايات المتّحدة للصيانة لكنّ القيادة العسكرية أبقتهما في المملكة بسبب التوترات. وقال المصدر نفسه: «الجميع كانوا يعلمون أنه أمر مؤقت ما لم تسؤ الأمور»، مع العلم أن إعادتها تعني إعادة طواقمها المؤلّفة من نحو 300 عسكري.

وضْعُ هذه الروايات، كما رواية «وول ستريت جورنال»، تخفيض الحشد الأميركي في الخليج والمنطقة في سياق تراجع التوتر مع إيران لا تدعمه الوقائع، سواء الاستنفار البحري الذي أدى إلى المواجهة البحرية الأخيرة، أو قيام الولايات المتحدة، على النقيض، بنشر «باتريوت» في العراق لتجنب الهجمات الصاروخية، فيما لم تتراجع واشنطن عن مضاعفة العقوبات والضغوط على طهران. يضاف إلى ذلك تلميح ترامب إلى أن الخلفية هي الابتزاز المالي للمملكة. وإن كان يعني هذا التناقض شيئاً، فهو يسمح للرياض بفهم أكبر لطبيعة التلاعب الأميركي المكشوف بأمنها وأمن المنطقة عبر الحفاظ على التوتر مع إيران وحرب اليمن كأوراق تخويف وابتزاز بالحماية.

كل ذلك قاد المراقبين إلى العودة إلى ما نشرته وكالة «رويترز» قبل أيام، حين كشفت، نقلاً عن أربعة مصادر، أن ترامب هدّد ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في اتصال في الثاني من الشهر الماضي، بأنه إن لم تبدأ «أوبك» بخفض إنتاج النفط، «فلن يكون هناك سبيل لمنع الكونغرس من فرض قيود قد تؤدي إلى سحب القوات الأميركية»، ما اضطر ابن سلمان إلى توجيه أوامر لمعاونيه بمغادرة الغرفة لإكمال الاتصال على انفراد. وكان لافتاً، بالتزامن مع تقارير الانسحاب، وبعد أسبوع على تقرير «رويترز»، نشر المتحدث باسم السفارة السعودية لدى واشنطن، فهد ناظر، تغريدة قال فيها إن تقرير الوكالة «لا يعكس حالة الاحترام المتبادلة بين الجانبين»، مؤكداً أن ذلك «يحمل تشويهاً تاماً لمضمون ونبرة المكالمة».

ما تقدّم يقود إلى تفسير الانسحاب الأميركي الأول منذ انتشار قوات الولايات المتحدة عقب ضربة «أرامكو» في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على الأراضي السعودية للمرة الأولى منذ عام 2003، أنه انعكاس لمأزق العلاقة بين الطرفين، ولا سيما إثر حرب أسعار النفط وما سبّبته لصناعة النفط الأميركي في الأسابيع الماضية. وإذ يريد ترامب إظهار جدية تهديداته، فهو يبدو أنه «يعاقب» السعودية أو يطلب منها ما هو أكثر من اتفاق «أوبك+» على خفض الإنتاج في 12 نيسان/أبريل، الذي أنهى حرب الأسعار.

وداخلياً يظهر ترامب مقابل غضب الكونغرس من الرياض بعد الانهيار التاريخي لأسعار النفط أنه مستعد لتصعيد الابتزاز إلى أبعد مدى مع «الأصدقاء» خدمة لمصالح بلاده الاقتصادية. يبقى أن عدم إعلان واشنطن، حتى الآن، انسحاباً شاملاً، مع المواربة بشأن مصير قواتها ومنظومة الحماية في قاعدة «الأمير سلطان» الجوية، يُبقي الباب مفتوحاً أمام السعوديين لتقديم مزيد من التنازلات يرغب فيها البيت الأبيض.

*(الأخبار اللبنانية)