الخبر وما وراء الخبر

هل ستغير الكورونا من طبيعة الرأسمالية؟

26

اعداد/ مصطفى الحاج علي/ العهد الاخباري
يرى جاك أتالي(*) أنه على مدى الألف سنة الماضية أدى وباء كبير إلى تغييرات جوهرية داخل أنظمة الأمم السياسية وداخل الثقافات التي تبنى عليها تلك الأنظمة. هكذا فعل وباء الطاعون الكبير في القرن الرابع عشر حيث ساهم في قيام القارة القديمة بمراجعة جذرية لمكانة رجال الدين السياسية ومن ثمة أدى إلى نشوء أجهزة الشرطة باعتبارها الشكل الفّعال لحماية أرواح الناس. وهو ما أدى إلى ولادة الدولة الحديثة، ومعها روح البحث العلمي، وهذه الولادة تعيدنا في الواقع إلى المصدر نفسه: مراجعة سلطة الكنيسة الدينية والسياسية بعد ثبوت عجزها عن إنقاذ أرواح الناس أو حتى إعطائها معنى للموت، ومن ثمة حلّ الطبيب محل الشرطي، إذ عُدَّ أفضل وسيلة لمواجهة الموت، وهكذا جرى الانتقال من سلطة قائمة على الإيمان الكنسي، إلى سلطة قائمة على القوة، وصولاً إلى سلطة قائمة على القانون.

بكلمة أخرى، من شأن الكوارث الكبرى وذات السمات التراجيدية الإنسانية، كفيروس كورونا، أن تضع الإنسان مجدداً أمام الأسئلة الأساسية والمفصلية التي يرى نفسه معنياً بتقديم إجابات حاسمة عنها، إجابات من شأنها أن تعيد تشكيل صورة العالم والحياة مجدداً.

إن قوّة الصدمة التي تحملها اختبارات الكوارث تشكل في الوقت نفسه قوة إيقاظ للوعي، إيقاظ يخرجه من سبات الأنماط السائدة، والمفاهيم المتسيدة، والاعتقادات المهيمنة، إلى فضاءات وعي جديد, وهنا تحديداً مكامن الفرص التي إذا أحسن قراءتها وانتهازها سيصبح الواقع أفضل، وإذا دست الرؤوس في الرمال، فسرعان ما ستواجه العالم كوارث أشد وأدهى.

هناك تفاوت في أداء الدول والحكومات، والملاحظ أن مجمل العالم الغربي وفي طليعتهم الولايات المتحدة جاء أداؤهم متعثراً وفاشلاً، والفشل هنا وإن اتخذ مصداقاً مباشراً هو فشل الأنظمة الصحية. فإن قراءة معمقة لهذا الفشل يكشف عن أزمات أعمق ليس فشل الأنظمة الصحية إلا تعبيراً صارخاً لها. يكشف هذا الفشل في الأنظمة الصحية عن:

أ – غلبة النزعة المادية ومقاييس الربح والخسارة حتى على عالم الصحة والاستشفاء، لدرجة أن اهتمامات المستشفيات الخاصة، وشركات الأدوية، انحصرت في الاستثمار في المجالات التي تضمن لها الأرباح، متجاوزة أي حسابات أخرى.

ب – إن الرأسمالية المتوحشة والمتغولة في الغرب عموماً وأمريكا تحديداً، ركزت استثماراتها وتوظيفاتها خصوصاً المجمعات الصناعية فيها على السلاح والنفط، وبالتالي على الحروب وتدمير الدول والمجتمعات أكثر من استثمارها في البنى التحتية لدولها نفسها.

وما فاقم من هذه الأخطار هو تحول هذا النموذج من الرأسمالية المتوحشة إلى نموذج معولم، نموذجاً فاقداً لأية أبعاد إنسانية. والأدهى هنا، أن هذا النموذج تحول إلى قاطرة تجر خلفها مجمل قافلة البشرية ومساراتها، ملحقة بالعالم أجمع الأضرار البالغة في اقتصاده، واستقراره، ومصالحه ورفاهه، وأمنه، بما فيه الصحي.

إن هذا النموذج في تغوله وجشعه وحرصه على مراكمة الثروات، بات يشكل تهديداً وجودياً لمجمل البشرية، تهديداً ظهرت مؤشراته على أكثر من صعيد في التغيرات المناخية، والتلوث العام للبيئة، وظاهرة التصحر، وقبلها التصحر الأخلاقي، وظاهرة الاحتباس الحراري، وامتلاك أسلحة دمار شامل بما فيها الأسلحة البيولوجية.

باختصار نحن أمام نموذج لا أخلاقي ولا إنساني، وفي هذا السياق، جاء فيروس كورونا ليشكل شاهداً ومنذراً في آن، شاهداً وكاشفاً عن مدى وحشية وعدم إنسانية منظومة قيم العولمة وأخلاقها وأبعادها الحضارية، وشاهداً على مدى فشل هذه المنظومة بأبعادها الاقتصادية والسياسية. فعندما يكون الاقتصاد حكراً ولمنفعة وخدمة أقلية من المترفين، لا يكون اقتصاداً، وإنما أداة للهيمنة والاستغلال بأبشع صوره، وعندما تصبح صناعة السلطة بيد أمثال هؤلاء الطواغيت والمترفين، فهذا يعني خسارة السياسة لمعناها الحقيقي، خصوصاً عندما نتحدث عن النموذج الأميركي الذي أصبحت فيه الديمقراطية وسيلة لصناعة سلطة تلبي مصالح أمثال هؤلاء الجشعين، مستفيدين من سيطرتهم على إدارة وصناعة وتوجيه العقول والرأي العام.

يبقى السؤال، هل ستشكل صدمة كورونا دافعاً لإجراء الغرب مراجعة جذرية؟

لا يبدو الأمر سهراً، لأنه لا يتوقع أن تغير الرأسمالية المتوحشة من طبيعتها بين ليلة وضحاها، وما لم تجد نفسها مضطرة إلى ذلك، بل ستقاوم مباشرة، أو عبر وسائل متنوعة من الدهاء والاحتيال للالتفاف على كل النتائج والتداعيات التي يفترض أن تفرزها جانحة كورونا.

وقي المقابل، لا تعفى الشعوب من مسؤوليتها، فبقدر ما لحظة جانحة كورونا هي لحظة اختبار للحكومات والدول، فهي لحظة اختبار أيضا للشعوب، فهل ستدفع الكورونا الشعوب إلى إجراء مراجعة جذرية تقود إلى تغيرات أساسية؟

العبرة تبقى بالتاريخ، وبالمقبل من الأشهر وربما السنين القليلة القادمة.
(*) مفكر واقتصادي فرنسي