الخبر وما وراء الخبر

 تركيا والرقص على حافة الهاوية في سوريا

19

اعداد/ سركيس أبوزيد/ العهد الاخباري

للمرة الأولى منذ التدخل العسكري التركي في سوريا يحصل تصادم عسكري واشتباك مباشر بين الجيشين السوري والتركي، كان حصيلته أكثر من عشرة قتلى أتراك، ولأول مرة منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا في العام 2015 وحادثة إسقاط طائرة روسية مقاتلة بنيران تركية، يحصل توتر مكشوف في العلاقة بين روسيا وتركيا بعد أعوام من التنسيق والتفاھمات كان من بينھا وأبرزھا “تفاھم سوتشي حول إدلب” و”تفاھم أستانة حول مناطق خفض التصعيد التي تشمل إدلب”.

التطورات العسكرية في إدلب حركت المعارضة داخل تركيا وتحوّلت الى بند أول في الحراك السياسي الداخلي، حيث طلب حزب “الشعب الجمھوري” عقد جلسة للبرلمان لمناقشة الوضع في إدلب وفي سوريا. وفي حيثيات المذكرة التي قدمھا، أورد أن الجيش التركي في إدلب أمام مخاطر كبيرة، وأمام إحتمال الدخول في حرب مع الجيش السوري، داعياً إلى مناقشة مجمل السياسة السورية للرئيس، وكيفية حماية الجنود الأتراك من المخاطر. وانطلقت على إثر ذلك نقاشات حادة حول خيارات تركيا في سوريا، عكست انتقادات لسياسة إردوغان والمستنقع الذي أوقع بلاده فيه فعلاً.

ومؤخراً وصل الى أنقرة المبعوث الأميركي الخاص الى سوريا جميس جيفري ضمن زيارة لتركيا وألمانيا لبحث التطورات في سوريا والمنطقة. واشنطن التي كررت إعلان تأييدھا لتركيا على لسان العديد من مسؤولي إدارة الرئيس دونالد ترامب، قررت على ما يبدو الإفادة من فرصة الشقاق الذي ظھر في جدار العلاقات التركية – الروسية، لإعادة أنقرة إلى كنف سياساتھا الإقليمية، خصوصا في سوريا.

من ناحيته، يقول باراك بارفي كبير الباحثين في معھد واشنطن، إن أردوغان يدرك بشكل متزايد أن اتفاقاته مع روسيا بشأن سوريا محكوم عليھا بالفشل. ومع ذلك، فھو يحتاج إلى دعم روسي لضمان عدم قيام الحكومة السورية بشن ما وصفها بـ”ھجمات انتقامية” عندما تستعيد سيطرتھا على حدودھا مع تركيا. لكنه سيستمر في التنسيق عن كثب مع بوتين لأنه حليفه الوحيد في الصراع. ويعتقد البعض أن انقلاب العلاقة الروسية – التركية يعود إلى التغييرات التي أحدثھا القرار الأميركي بتصفية (الشهيد) قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الإيراني، في رسالة إلى محور آستانة بأن إيران وروسيا وتركيا مطالبة بتغيير سياساتھا في المنطقة، خصوصا تركيا التي تطالبھا واشنطن بحسم خياراتھا في علاقاتھا مع حلف “الناتو” وموقعھا فيه، حسب تعبيره.

التعاطي الروسي مع تركيا مختلف إلى حد ما عن تعاطيه مع طهران، فهناك المراھنات والمخاطر كبيرة للغاية، لكن يبقى أكثر ما يعقد الأمر عاملان:

– العامل الأول: الاختلاف في علاقات كل منھما مع دمشق، بالنسبة لروسيا، دمشق ھي صديقة وشريكة، أما بالنسبة لتركيا فھي في الواقع خصم، بينما تعتبر دمشق تركيا دولة محتلة واجتاحت أراضيھا بشكل غير قانوني.

– العامل الثاني: الاختلافات في مواقف الأطراف تجاه عدد من المنظمات الكردية النافذة في سوريا، وبالدرجة الأولى حزب “الاتحاد الديمقراطي و”وحدات حماية الشعب”، أنقرة تعتبر ھذه المنظمات إرھابية ومصدر تھديد مباشر لأمنھا القومي، بينما روسيا لا تشاركھا ھذا التقييم، فقد حافظت في وقت سابق على علاقات حميمة مع قادة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، وحاولت ربطھم بعملية التفاوض في إطار التسوية السورية.

لكن الأمر في إدلب معقد، فهي آخر معارك الحرب السوریة، وھي التي تحدد مستقبل سوریا السیاسي وما إذا كان لتركیا دور وحصة فیھا، وھي التي تحدد مستقبل سوریا الجغرافي وما إذا كان المشروع التركي لإقامة منطقة آمنة حدودیة سیُكتب له النجاح وسیكون من ضمن مشروع لتقسیم سوریا تشتغل عليه الولایات المتحدة التي تتصرف على أساس أن سوریا الدولة المركزیة قد انتھت.

وللمرة الأولى بدأت تصدر عن تركیا تصریحات وإشارات تنتقد وتھاجم روسیا وتحمِّلھا المسؤولیة عن استھداف المدنیین، وتدعوھا الى “كبح جماح” الرئيس الأسد ووقف ھجوم الجیش السوري، وللمرة الأولى تنتھي مباحثات تركیة – روسیة امتدت على ثلاث جولات الى خلاف ولا تصل الى نتیجة. ومن الواضح أن أردوغان یمارس سیاسة حافة الھاویة، عبر التھویل والتصعید المدروس والھادف الى الضغط على روسیا، وسوریا أیضا، لخفض سقفھما من التصعید العسكري الأخیر والاكتفاء بما تحقق، وانسحاب الجیش السوري الى ما قبل “خطوط سوتشي”.

بالمقابل، بدت موسكو عازمة على مواجھة أي اختبار تركي للقوة أو للصبر، ومنع أي محاولات لتغییر الواقع المیداني، وخاصة فیما یتعلق بالسیطرة على المناطق المؤثرة على الطرق الدولیة والرئیسیة حلب دمشق، وحلب اللاذقیة.

أردوغان یضغط على بوتین مستخدما ورقة التھدید بالحرب وعملیة عسكریة واسعة من جھة، وورقة اللجوء الى واشنطن والتلویح بالانتقال الى الضفة المقابلة من جھة ثانیة، مراھنا على أن موسكو ستھرع إلیه لعقد اتفاقیة جدیدة تحت التھدید، وھنا یقع أردوغان في خطأ مزدوج: خطأ الوقوع في الفخ الأمیركي الذي یوصله الى مواجھة عسكرية مع الروس والجیش السوري، وخطأ تقدیر موقف بوتین الذي لدیه حساباته ومصالحه الخاصة والمتعارضة مع حسابات ومصالح تركیا في إدلب وشمال سوریا.

من الواضح أن لا مخرج عسكریا للأزمة وأن الحل سیكون في نھایة المطاف سیاسیا. فما یحصل الیوم لن یتحول الى حرب مفتوحة بین الأتراك والسوریین بالنظر الى صلابة القوة التي یقیمھا بوتین مع الرئيس الأسد، وحرصه أیضا على العلاقة التي بناھا مع إردوغان.

في النهاية، يراهن أردوغان على دعم داخلي في مسألة تتعلق بالأمن القومي التركي، وعلى أن حلف الأطلسي لن یتركه وحیداً، وأن الولایات المتحدة ستقدم له الدعم الدبلوماسي والاستخباراتي، وعلى أن بوتین لن یغامر بخسارة ما حققه مع تركیا الدولة العضو في حلف الناتو من تطویر للعلاقات الثنائیة اقتصادیا وعسكریا. بينما یراھن بوتین على أنه صاحب القدرة العسكریة الناریة، وفي یده مفتاح اللعبة والحل في سوریا، وأن المجتمع الدولي لا یمانع إضعاف تركیا الطموحة صاحبة المشروع الإقلیمي التوسعي في المنطقة. كما أنه لیس من مصلحته أن تقع حرب، وإنما من مصلحته الإبقاء على “العامل التركي” لموازنته مع العامل الإیراني، وستكون موسكو على ھذه الخلفیة أمام استحقاق إعادة النظر في توازن المصالح الذي بنته في وقت سابق بین الأطراف المختلفة، من طھران الى أنقرة الى “تل أبیب”، على أساس الواقع الجدید الذي یكون من ضمنه ترتیبات أمنیة في شمال سوریا تستجیب لقلق أنقرة، وبقاء الوجود العسكري الأمیركي في شرق الفرات رغم محدودیته، لأن الموقف الأمیركي مؤشر على الدعم الدولي الذي تحتاجه موسكو في عملیتي إعادة اللاجئین وإعادة الإعمار.