الخبر وما وراء الخبر

عندما تصبحُ الهزيمةُ “فضيحةً تأريخيةً”: عن عملية عسكرية من “خوارق العادات”

42

بعدَ يومٍ من الإعلان عن عملية “نصر من الله” اليمنية الكبرى في محور نجران، وبالرغم ما مثّله ذلك الإعلان بتفاصيله الأولية من حدث “تأريخي” ضخم سجّلها كأكبر عملية عسكرية في مواجهة العدوان منذ بدايته، جاءت المعلومات الإضافية الموّثقة التي كشفتها القواتُ المسلحة، أمس الأحد، لا لتكونَ دليلاً على نجاح العملية وحسب، بل لتوضح أن الحجم الحقيقي للحدث لم يظهر في بيان أمس الأول، وبالأصح: لتؤكّـد أنه لا يمكن الإحاطة به في بيان مختصر أَو حتى مطول، إذ أكّـدت المعلومات الجديدة بما رافقها من مشاهدَ مصورة، أن العملية تتضمّنُ تفاصيلَ و”مراحلَ”، كُـلٌّ منها يشكّلُ بحَـدِّ ذاته إنجازاً غيرَ مسبوقٍ له أبعادٌ هامّةٌ توضحُ أن تسمية العملية لم تأتِ من قبيل المصادفة؛ لأَنَّ مستوى ما حدث يفوق الحسابات “البشرية” لظروف المعركة، لكن ذلك لا يتعارضُ مع التأكيد على أن تكتيكات القوات المسلحة اليمنية وصلت إلى مستوى من الحنكة والاحتراف إلى حدود صادمة جِـدًّا لتحالف العدوان، وليس المقصود هنا السعودية فحسب، بل أَيْـضاً الولايات المتحدة، وبريطانيا، اللتان ثبت أنهما تديران عمليات العدوان في الجبهة الحدودية وتشرفان على قواته بشكل مباشر.

“ليس الخبر كالمعاينة”.. ولهذا ستفرض علينا المشاهِــدُ التي عرضتها القواتُ المسلحة، أمس، والتي ستعرضها أَيْـضاً فيما بعدُ، أن نرويَ تفاصيلَ العملية اليمنية أكثر من مرة؛ لكي نستطيعَ أن نقتربَ أكثر من حجمها الحقيقي، والذي لا يزال حتى الآن مجهولاً، على الرغم من ضخامة ما توفر من التفاصيل والمشاهد.

تؤكّـد الخريطةُ التي استعرضها ناطقُ القوات المسلحة، العميد يحيى سريع، في مؤتمره الصحفي، أن “وادي آل أبو جُبارة” يمثل بالفعل “بوابةَ نجران”، إذ يشكل عمقاً جغرافياً عريضاً، يمكن أن يحضُنَ قواعدَ استراتيجيةً لانطلاق هجمات واسعة ومتزامنة لا يمكنها صدها باتّجاه الأرض السعودية، ومن هنا تصبح أهميّة المنطقة أكثر وضوحاً، وأوضح تفسيراً للحشد العسكري الهائل الذي استخدمه العدوّ السعودي لـ “تحصين” هذه المنطقة منذ سنوات، والذي حرِصَ على أن يتشكّلَ من القوات التكفيرية والعناصر الإجرامية.

وإلى جانب الخريطة، توضح المشاهدُ الحيةُ التي بثها الإعلام الحربي، أمس، أن المنطقة التي جرى فيها الاستدراج الأكبر (في المرحلة الأولى من العملية) ذات طبيعة جبلية ومطلة على مناطقَ واسعة شمالاً وجنوباً، وبالتالي فإلى جانب أهميتها بالنسبة لنجران، فقد كان العدوّ ينظر إليها كمطمع استراتيجي، فسيطرتُه على تلك المرتفعات كانت ستكفيه حمايةَ مناطقه، ثم ستمنحه ضغطاً عسكرياً على صعدة جنوباً؛ ولهذا بمُجَـرّد أن فتحَ له المجاهدون ثغرةً للتقدم، دفع بثلاثة ألوية كاملة من مرتزِقته مع فصيل من جيشه الذي لا يتواجد في بقية المناطق والمعارك، وهذا يكشف مدى النظرة الثاقبة لدى القيادة اليمنية في إعداد هذا المسرح لعملية الاستدراج منذ وقت مبكر، حيثُ أكّـد العميد يحيى سريع أن العملية جاءت بعد أشهر من المراقبة والرصد، كما كشف أن عناصر “وطنية” من داخل صفوف العدوّ كان لها دورٌ “مهمٌّ” في إنجاح العملية، وهي نقطة أُخرى في سجل مميزات التفوق العسكري اليمني الذي مثّلته هذه العملية.

خطةٌ حسبت حسابَ كُـلّ شيء

نعلمُ الآن من تصريحات العميد يحيى سريع أن عملية الاستدراج الأكبر منذ بدء العدوان أَو ما أطلق عليها “عملية الشهيد أبو عَبدالله حيدر”، لم تكن هي كُـلّ عملية “نصر من الله”، بل كانت المرحلة الأولى فقط منها، وهي نقطة مفصلية تؤكّـد أن الإنجاز العسكري اليمني الضخم، لا زال في الحقيقة أكبر مما يبدو عليه، وقد أشار سريع خلال استعراضه خريطةَ المعركة، إلى جغرافيا المرحلة الثانية من العملية وهي المنطقةُ المتداخلةُ مع نجران، الأمر الذي يعني أن ما قد تكشفه القوات المسلحة مستقبلاً حول هذه المرحلة سيكون أكثر وَقْعاً؛ كَونه أكثر توغلاً داخل العمق السعودي.

لكن حتى ذلك الوقت سنبقى مع مرحلة “الشهيد أبو عَبدالله حيدر” والتي لم تقتصر تفاصيلها على ما دار داخل الوادي من “معجزة” عسكرية، وإنما تمتدُّ إلى عمق العمق السعودي، إلى مطارات نجران وجيزان وعسير وقاعدة خالد، حيثُ كشف العميد يحيى سريع أن سلاح الجو المسيّر والقوة الصاروخية، نفّذا أكثر من 29 عملية، تضمنت إطلاق 10 صواريخ بالستية في وقت واحد، وهي العملية المسجلة حتى الآن كأكبر عملية بالصواريخ البالستية المتوسطة على العمق السعودي.

ربما تكون هذه المرة الأولى التي تكشفُ فيها القواتُ المسلحة عن تنسيقٍ بهذا الحجم ضمن عملية واحدة، تنسيق بري وجوي وبالستي، داخل أرض المعركة الرئيسية وخارجها، وهذا يوضح مجدّدا أن واضعي خطة العملية قد استفادوا إلى أقصى حَـدٍّ من التجربة القتالية ضد السعودية، وفهموا بالضبط السلوك العسكري السعودي وكيفية تعطيل نقاط قوته الرئيسية وهي “الطيرانُ الحربي”، حيثُ تركّزت الهجمات الصاروخية والجوية بشكل رئيسي على مرابض الطائرات الحربية المعادية، فيما واجهت الطائراتُ التي استطاعت الوصول إلى أجواء المعركة مواجهة شرسة من الدفاعات الجوية، الأمر الذي تسبّب في سُرعة انهيار القوات الواقعة في المصيدة، والتي شأنُها شأنُ كُـلّ قوات العدوان، تعتمدُ بشكل رئيسي على الغطاء الجوي.

اشتراكُ الدفاع الجوي في المعركة كان أَيْـضاً مؤشراً إضافياً على أن الخطة العسكرية للعملية كانت أوسعَ من كُـلّ حسابات وتوقعات العدوّ، وأنها بلغت مستوى استثنائي من التنسيق والتكامل إلى حَـدِّ محاصَرته جوياً وبرياً.

الانتصارُ المشهودُ.. الفضيحةُ الموثّقة

وكما نشرت الصحيفة سابقاً، تم تطويقُ ألوية العدوّ من ثلاثة اتّجاهات، من الوادي جنوباً، ومن البُقع شمالاً، ومن البقع شرقاً، وهو ما أكّـده ناطق القوات المسلحة، أمس، مُضيفاً أنه تم استكمال الحصار أَيْـضاً من الجهة الرابعة، هذا الطوق الاستراتيجي الذي يأتي امتداداً لخطط الرصد والاستخبارات والاستدراج والتغلب على الغطاء الجوي المعادي، ظهر بوضوح في المشاهد التي عرضتها القوات المسلحة، والتي يعود إليها الفضل في إظهار أن العملية كانت وما زالت فوق الوصف، فما شاهده الجميع عصرَ أمس، كان توثيقاً لهزيمة تدخل بها السعودية التأريخ كواحدة من أكبر القوى التي تعرضت للفضيحة العسكرية في الميدان.

لم يسبقْ أن وثّقت أية عدسة أَسْرَ ذلك العدد من المقاتلين الذين عرضتهم مشاهدُ الإعلام الحربي (والذين يُقَدَّر عددُهم بأكثرَ من 2000 أسير في هذه المرحلة فقط)، ولم يسبق أن شوهد فرارٌ بذلك الكم من المدرعات والآليات من معركة واحدة.. جنود سعوديون خرجوا من الدبابات رافعي أيديهم بالاستسلام، ومرتزِقة بالمئات ألقوا أسلحتَهم ومشَوا في طوابير لتسليم أنفسهم، ومدرعات انقلبت بنفسها، وآليات أحيطت بمجاهدين يصبُّون عليها الرصاص من كُـلّ جانب، ثم كان هناك الآليات التي أحرقت بالولّاعة أَيْـضاً.

قال الناطق العسكري: إن ما تم عرضُه ليس إلا جزء قليل من تفاصيل المرحلة الأولى من عملية “نصر من الله”، لكنه كان في الواقع جزءاً كافياً لتوضيح سيل ضخم من الحقائق، ملخصُها أن السعودية والقوات الأمريكية والبريطانية التي تدير العمليات في الحدود، وكُلُّ من يرتبط بهم، تعرضوا لصفعة تأريخية ستبقى شاهداً بارزاً على أن قوى الهيمنة العالمية فشلت في إخضاع اليمن، وفشلت حتى في الخروج “بماء الوجه” فما حدث في “وادي آل أبو جُبارة” جفّف الدماءَ في عروق تلك القوى، وليس فقط الماء الذي نزَفَ من وجهها منذ وقت طويل.

الجزئيةُ الأكثرُ بشاعةً في تلك الفضيحة، كانت المحاولاتُ الحثيثةُ لطيران العدوان لاستهداف قواته الفارة والمستسلمة، حيثُ عرضت المشاهدُ عدة غارات شنها عليهم في لحظات السقوط والانهيار، كما لو أنه سيمحو آثارَ الهزيمة بقتلهم، وبحسب المتحدث العسكري ومعلوماتٍ خَاصَّة حصلت عليها الصحيفة فقد سقط أكثرُ من 400 مرتزِق بتلك الغارات، وقد وثّقت المشاهدُ جثثَ عدد منهم.

لن ينتهيَ الكلامُ إذَا ما قرّرنا حَصْرَ تفاصيلَ ما ورد في “الجزء القليل” من المشاهد التي عرضها الإعلام الحربي، أمس؛ لذَلكَ سنختم بالإشارة إلى أن ظهورَ وزير الدفاع في أرض المعركة واعتلاءَه مدرعات الجيش السعودي كان هو الآخر نقطة مهمة توضح إلى أن العملية أُديرت بشكل مباشر من قِبَلِ قيادات الصف الأول في القوات المسلحة اليمنية، وهو ما يجدّدُ التأكيدَ على أن العملية خُطِّط لها بشكل استثنائي لتكونَ برهاناً على أن القدرات العسكرية التخطيطية والتنفيذية باتت بالمستوى الذي يؤكّـد إمْكَانية “الحسم العسكري”، وليس فقط إجبار تحالف العدوان على وقف عدوانه.