الخبر وما وراء الخبر

واشنطن بعد «مفاجأة» التفاوض مع «أنصار الله»: ليس بمقدورنا حماية السعودية!.

37

في موقف لافت في توقيته وسياقه والآثار المترتبة عليه، أدلى رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال جوزيف دانفورد، بتصريحات مثيرة حول حماية شركاء بلاده في منطقة الخليج والشرق الأوسط، إذ قال دانفورد، في لقاء متلفز، إن «لدينا اتفاقاً يسمح لنا بوجود قوات كافية في المنطقة لردع أي هجوم إيراني ضد أميركا أو الأميركيين»، مستدركاً بالقول: «ولكن بوضوح، ليست لدينا قوة ردع لاعتراض هجمات على شركائنا في المنطقة. يمكنك أن ترى السعودية والإمارات تعرضتا أخيراً لاعتداءات». لم يكشف دانفورد، في تصريحه، ما هو غير معلوم، بقدر ما عبّر عن سياسة بلاده حيال المنطقة بشكل عام، مُقرّاً بمحدودية خيارات واشنطن وحرصها على عدم الاستمرار في التورط في الإقليم عموماً واليمن خصوصاً.

صدور هذا الموقف من أعلى الهرم العسكري يعني أنه يعبّر عن توجه رسمي لدى القوات المسلحة، وليس توصية منها للقيادة السياسية. وسوف يكون له، بكل تأكيد، صداه لدى الحلفاء في منطقة الخليج، ومن الطبيعي أن ينتاب معه الملوكَ والأمراءَ القلقُ على المستقبل القاتم الذي ينتظرهم. كما يفهم منه وجود الكثير من المحاذير الأميركية، والتي باتت واضحة وملموسة من خلال توجهات الرئيس دونالد ترامب. وبشكل أكثر تحديداً، من شأن تصريحات رئيس الأركان الأميركي في هذا التوقيت أن تؤدي إلى تظهير أكبر للضعف السعودي في اليمن، خصوصاً أنها تنطوي على رسالة ضمنية إلى الحلفاء بأنه في أي مفاوضات مقبلة لن تحصلوا على أكثر مما حصلتم عليه.

في مقابل ذلك، تؤشر مواقف دانفورد إلى اعتراف أميركي ضمني بقوة اليمن، وإقرار بانقلاب الموازين لصالح صنعاء التي أصبحت أمام مسار جديد. وهي تعني، أيضاً، أن الخيارات الدراماتيكية والرهانات المفاجئة التي طالما وعد «التحالف» بها باتت من الماضي، ليَثبت مجدداً أن القيادة السياسية اليمنية تتقن إدارة المواجهة مع النظام السعودي، وتعتمد التدرج في رفع مستوى الخيارات وفق رؤية شاملة للوضع اليمني المحلي والظروف الإقليمية والدولية. وقبل كل شيء، تجلّي التصريحات الأميركية حضور صمود الشعب اليمني واستعداده للتضحية لدى أعدائه، الذين باتوا يبدون حرصهم على عدم الاستمرار في التورط في الحرب بسبب الأكلاف المرتفعة جداً لهذا التورط.

وجود حركة «أنصار الله» في شمال اليمن بات أمراً حتمياً لدى الجميع

ويرى المطلعون على التوجه الأميركي الجديد أن من المتسالم عليه لدى الأطراف الدوليين والإقليميين والمحليين أن وجود حركة «أنصار الله» في شمال اليمن (أي ما يعرف بالهضبة) بات أمراً حتمياً لدى الجميع، وكل ما ستحاول واشنطن فعله في أي مفاوضات مقبلة هو السعي إلى تحييد الحركة عن محور المقاومة مقابل تقديم إغراءات كبيرة لها، بما فيها شراكة فاعلة في حكم اليمن، وإبقاء البلاد موحدة، فضلاً عن تقديم تعويضات مجزية عن الأضرار التي لحقت بالبلاد من جراء الحرب. ومن هنا، تمكن قراءة إعلان مساعد وزير الخارجية الأميركي للشرق الأدنى، ديفيد شينكر، خلال زيارته السعودية أخيراً، عن أن واشنطن تجري محادثات مع «أنصار الله» بهدف إيجاد حل «مقبول من الطرفين». وهذا يثبت أن الولايات المتحدة لم تكن جادّة في جولات التفاوض السابقة، وفي مجمل المسار السياسي والتفاوضي، وأنها في الحقيقة كانت تراهن مع حلفائها على عامل الوقت، والخطط العسكرية والضغوط السياسية، واستخدام الأساليب البشعة (التجويع والحصار والمجازر) لتطويع اليمن. وعليه، ليست اليقظة الأميركية نابعة من خشية من تفاقم الوضع الإنساني، بل إقرار بأن استمرار الحرب لم يعد يجدي نفعاً، سواء لها أو للأطراف الإقليميين الرئيسيين في «التحالف».

وتأتي المواقف الأميركية المستجدّة في وقت يعكف فيه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على تجميع أوراقه لانتخابات عام 2020، والتي ستبدأ حملاتها الانتخابية الرسمية الشهر المقبل. وفي هذا السياق أيضاً، يندرج التنبّه إلى الحرب المنسية على اليمن، علّ ترامب يستطيع أن يقدّم بذلك إنجازاً انتخابياً إلى جمهوره، أو على الأقل يسحب الورقة الإنسانية التي طالما أُشهرت في وجهه من قِبَل أعضاء في الكونغرس في الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري»، علماً بأن حرب اليمن دخلت بقوة في البازار السياسي الداخلي الأميركي، حيث صوّت الكونغرس مرتين لصالح إيقاف المساعدات الأميركية لـ«التحالف»، قبل أن يستخدم ترامب «الفيتو» لإبطال القرارين.

وعلى رغم الصراحة الأميركية في التبرّؤ من الحرب وإعلان السعي إلى إنهائها، إلا أن شينكر سعى بوضوح، من الرياض، إلى طمأنة الأخيرة إلى أن واشنطن ستراعي مصالحها في أي مفاوضات مع صنعاء، وأن الأمن السعودي سيكون من الأولويات في تلك المفاوضات، خصوصاً أن الحرب توسّعت دائرتها لتطال كامل التراب السعودي، وتصاعدت مساراتها بحيث أصبحت منظومات الصواريخ والطائرات المسيرة اليمنية تهديداً للأمن القومي للمملكة.