الخبر وما وراء الخبر

 في ذكرى وفاة أستاذنا الجليل / محمد العصار العدني رحمة الله عليه

80

بقلم / أ٠د٠ عبدالعزيز صالح بن حبتور

في أزمنة الحروب والأزمات والكوارث – وهذا حالنا في اليمن المنكوب بعدوان وحشي ظالم من قبل حُكام المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة الأعْرَابيتين – يكون التواصل والاتصال و تبادل المعلومات شبه منعدم عَدَا عن تلك التي تكون قائمة في إطار شبكة محدودة من العلاقات والتواصل وأحياناً تكون مُنغلقةً تماماً ، حتى مع وجود ذلك الانفجار المعرفي الإعلامي الهائل الذي نعيشه اليوم بتفاصيله الواسعة عبر شبكة الانترنت ومنصات التواصل الاجتماعي ، لكن بسبب ما وربما بسبب ترتيب الأولويات في اختيار هذا أو ذاك من نوع المعلومة المُنتقاة لطبيعة علاقاتنا الإنسانية والحياتية معاً ، يحدث شيء من ذلك الانقطاع.
بمدخلٍ كهذا وددت أن أستميح العذر من قارئنا اللبيب مقدماً و الاعتذار له على طبيعة تناولنا لهذا الموضوع الذي وددت طرقه من زاوية إنسانية وأخلاقية بحتة ، لأنني علمت مؤخراً وعن طريق الصدفة بأن أستاذنا العزيز محمد عبدالله غالب العصار رحمة الله عليه قد وافاه الأجل في جمهورية مصر العربية منذ مدة وتحديداً في يوم السبت 23ديسمبر 2017م ، ولأنه لزاماً عليَّ أن أسجل شَيْئا عنه للتاريخ وللأجيال ولشخصه الكريم ، ولأنه إنسان عزيز ومؤثر بشخصيته التربوية والإنسانية وحتى الثقافية الذي تركه منقوشاً في نفسي مُنذ أن كنت طالباً لديه بكلية الاقتصاد والإدارة – جامعة عدن ، نعم حين سمعت نبأ وفاته مؤخراً ، أحدث هذا الخبر الحزين صدمة موجعة في ذاتي ونفسيتي معاً ، باعتباره قريبا إلى نفسي برغم بعد المسافة وعدم تكرار الزيارات بيننا .
زملائي وأنا عرفناه أستاذاً متميزاً في كلية الاقتصاد والإدارة جامعة عدن ، نتذكره كأستاذ محاضر لنا في تخصص مساق مبادئ المحاسبة ، ومساق مفردات العلوم الاقتصادية و المحاسبية باللغة الانجليزية ، يتذكره جميع الزملاء بهدوئه ورصانته وثقافته المدنية العميقة اللافتة ، وأتذكر انه حينما شغل منصب نائب عميد الكلية للشؤون الأكاديمية لست سنوات ونيف أعطى لهذا الموقع أي المنصب مكانة وهيبة وحضورا لافتا ، علماً بأن شغله للمنصب في ( زمن العنف الثوري المتطرف ) كان محفوفاً بالمخاطر والتحديات ، وهي فترة حساسة من تاريخ اليمن الجنوبي الساخن أي الفترة من 1976 و حتى عام تخرجنا في عام 1982م .
تعمقت وتوثقت علاقتنا ومعرفتنا بأستاذنا الجليل محمد العصار حينما كنّا معاً أعضاء في مجلس الكلية وهو أعلى موقع لإصدار القرارات وتحديد سياساتها الأكاديمية والعلمية والطلابية والإدارية ، هو باعتباره نائباً للعميد وأنا ممثلاً للمجلس الطلابي بالكلية ، و يتذكره زملائي وإنا حينما كنّا طلاباً في قاعة محاضراته عن تميز شخصيته بالهدوء التام والسكينة الواثقة من نفسه حينما يُظهِر ذاته في تناولاته وأحاديثه وتعاملاته وحتى محاضراته ، أمتلك روحاً وثقافة مدنية متوازنة ميزته عن جميع أقرانه في جميع مراحل حياته الأسرية والدراسية والمهنية العامة ، كان رفيق حياته ودربه الدائم عبارة عن { كتاب } يقلب صفحاته ويتنقل عبر أبوابه وفصوله في عقل وفكر كاتبه ليتعلم منه أي فكرة وحكمة جديدة ، وكان يغوص في لحظات تأمل طويلة يبتعد فيها عن ضجيج وصخب الحياة التي كان يتعمد الابتعاد النسبي عنها.
انتسب الفقيد لأسرة عدنية ميسورة ومستورة الحال وامتلكت سمعة طيبة بين أبناء عدن ، كانت مهنتهم الأولى في العمل التجاري هو في امتلاكهم لعددٍ من ( المعامل ) ، عبارة عن معاصر السمسم (الجلجل ) ومن هذه المهنة الشاقة حققوا منها فائضا من التراكم النقدي مكنهم من الانطلاق في تجارة الأراضي والعقارات الكبيرة بضاحية الشيخ عثمان والمنصورة ، وقد ورد في سجلات مستعمرة عدن — إبان عهد الاحتلال البريطاني — بأن والده الشيخ الحاج / عبدالله غالب العصار كان من بين أعضاء جمعية رجال المال والأعمال في المستعمرة وساهم مساهمة سخية في الأعمال الخيرية لنهضة وتطوير مدينة عدن ، ولديه من الأراضي و العقارات والأملاك المتنوعة أنواع عديدة منها الدكاكين والمقاهي والعمارات والأراضي ، هكذا وردت في السجلات والأرشيف البريطاني ، ومع سيطرة النظام الشمولي { التوتاليتاري } البوليسي على مدينة عدن وجنوب اليمن برمته تعرضت أملاك الحاج عبدالله العصار كغيره من رجال المال والأعمال للمصادرة والتأميم والسلب من قبل نظام الجبهة القومية ( الوطني ) ، وبقيت جميع أملاكه منهوبة مُصادرة منذ العام 1973م وحتى قيام دولة الوحدة اليمنية المباركة في العام 1990م ، يوم ذاك ومن بين مبادئ قيام دولة الوحدة اليمنية إعادة الأموال والعقارات والأراضي الزراعية المؤممة والمصادرة الى أصحابها وملاكها الأصليين وتم بالفعل إعادة الدكاكين والمحلات التجارية فحسب الى أصحابها وبقيت الأراضي والعمارات مؤممة على حالها وسابق عهدها بسبب أنها مسكونة من قبل مواطنين فقراء.
هذا هو التاريخ المسكوت عنه بقصد من قبل جماعات خفية ، وهدفها هو في محاولة لطمس وإخفاء معالم جرم مشهود تم اقترافه في وضح النهار ( التأميم ) وهي محاولة من هؤلاء لدفن الحق القانوني لهؤلاء الملاك باعتباره حقا بيّنا وظاهرا لا لَبْس أو غموض فيه أو يشوبه ، هذا التاريخ لن يُغيب عن المشهد ولن تخفيه ضجيج الغوغاء ، ولا الارتماء في أحضان الدول المُعتدية على الشعب اليمني ، أما لو فُتحت بقية الملفات الحقوقية والإنسانية والأخلاقية فلن تقوم لهؤلاء قائمة إلى قيام الساعة.
نعود إلى أستاذنا الجليل محمد العصار الذي عُرف عنه بأنه كان منبعا للخير والعطاء الدائم لأقاربه والمحيطين به من ذوي العلاقة والنسب ، فقد كان يتميز بنقاء الروح ، وسخاء النفس ، ودائم الكرم لمن احتاج إليه وقصده ، نعم انه التميز الإنساني الجميل في زمن طغيان تفضيل الذات بنرجسية مُفرطة .
رحم الله فقيد الحركة الثقافية والعلمية التنويرية في عدن واليمن عموماً ، وتغمده الله بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته والهم أهله وذويه وطلابه ومريديه الصبر والسلوان ، إنا لله وإنا إليه من الراجعون ، والله اعلم منا جميعاً.

وفوق كُلّ ذي عِلمٍ

رئيس مجلس الوزراء

صنعاء في يوليو 2019م