الخبر وما وراء الخبر

 “فلسطين مش للبيع” بين اتفاقيات “أوسلو” و”ورشة البحرين”

66

راعدة عسيران :

توحّدت الشعارات، وتوحّد الشعب الفلسطيني لمواجهة ورشة البحرين التصفوية. هتف الجميع أن “فلسطين مش للبيع”. طغى هذا الإجماع الوطني (لم يسمع صوت فلسطينيي 48 حول ما يسمى صفقة القرن ولا ورشة البحرين، باستثناء بعض المثقفين) على الإعلام العربي وشبكات التواصل الاجتماعي، وبثت الهتافات في المظاهرات واللافتات المرفوعة في القدس وغزة ورام الله ونابلس، التي ترفض “بيع فلسطين”.

لا شك أن المشروع الأمريكي الأخير لتصفية القضية الفلسطينية، في شقيه السياسي والاقتصادي، يمثل ذروة الغطرسة والعنجهية، ولكن تلك هي طبيعة الولايات المتحدة منذ تأسيسها. بعد التدمير الممنهج للأمم الهندية وسحق شعوبها، شنّت الحروب على الدول المجاورة لها (اقتطاع ولاية تكساس وشن الحرب على المكسيك مثلا) والبعيدة عنها (الفليبين ثم فيتنام وكمبوديا وكوريا والعراق) ودبّرت انقلابات عسكرية (التشيلي مثلا) لتوسيع وحماية مصالحها، ما يعني أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية لم تكن يوما مع الشعوب وحريتها، بل حاولت وما زالت تحاول إخضاع العالم لإرادتها ونفوذها بأموالها وجيوشها. ومن هذا المواقع المعادي للشعوب وحريتهم، تستمر الإدارة الأميركية حربها المعلنة والخفية ضد الأمة وشعوبها، ومصالحها، وضد الشعب الفلسطيني بالذات.

الحرب الخفية التي تشنها الولايات المتحدة ضد شعوب الأمة تحمل اسم “المساعدات” و”التنمية” و”حرية الرأي” و”إشاعة الديمقراطية” و”التقدّم العلمي”، وقد تغلغل النفوذ الأميركي في دولنا عن طريق “الوكالة الأميركية للتنمية” (USAID) وغيرها من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، التابعة للدول الغربية، الأميركية والأوروبية، اليسارية واليمينية.

من خلال هذه المنظمات “السخية”، يتم تحويل المجتمع من مجتمع مقاوم الى مجتمع خاضع ومستهلك للشعارات والمصطلحات والمفاهيم الغربية، ويتم إخضاع شعوب الأمة الى احتياجات السوق العالمي، باسم “العالم قرية واحدة”، تُنهب الخيرات الوطنية بواسطة رجال أعمال وشركات محلية، تعمل لصالح “العالمية”. تهيئ الحرب الخفية الأجواء الفكرية والاجتماعية لتقبّل الكيان الصهيوني بيننا والرضوخ للهيمنة السياسية والاقتصادية الغربية، والأميركية خاصة.

في فلسطين المحتلة، تخلّى جزء من القيادة الرسمية عن الأراضي المحتلة ما قبل ال1967 لصالح المستوطنين، بموجب اتفاقيات أوسلو، بحجة “الواقعية” وموازين القوى الدولية، من أجل كسب شرعية دولية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية (المحتلة)، بما فيها “القدس الشرقية”، وقطاع غزة.

بعد حوالي ثلاثة عقود على هذه الاتفاقيات، أبتلع المستوطنون أراضي الضفة الغربية و”القدس الشرقية”، التي لم يتم بيعها (فلسطين مش للبيع) بل تم التفاوض حولها وحول استبدال أراضٍ سرقها المستوطنون بالضفة الغربية بأراضٍ سرقها المستوطنون بعد 1948 في المثلث والنقب. وفي أراضي السلطة الفلسطينية التي تسمى “دولة فلسطين”، تحاول المنظمات الدولية إخضاع الفلسطينيين لنظرتها السياسية المناهضة لعملية التحرير والعلاقة مع الأمة وشعوبها، والمؤيدة لمسار التسوية مع المستوطن المحتل، عن طريق التمويل، فتتدخّل في المناهج التعليمية لتحريفها عن مفاهيم التحرير والحرية والمعاداة للصهيونية والامبريالية، وتقيم الورش التطبيعية مع المستوطنين، أكانت ترفيهية أم ثقافية أم اجتماعية.

اقتصاديا، لقد تم إخضاع السلطة الفلسطينية الى معايير الاقتصاد النيوليبرالي، حيث يتم تدمير الاقتصاد الوطني المنتج، لصالح العدو ومناطقه الصناعية التي غرسها في الضفة الغربية ليستغلّ القوى العاملة الفلسطينية، مدعيا أنه يعمل لرفاهية وتقدّم الشعب الفلسطيني، بعد أن اجتاح مزارعه وقطع أشجاره وقتل مواشيه، وقصف منشآته الصناعية، وسرق أمواله ومياهه. تدعي ورشة البحرين أيضا أنها تعمل لازدهار المنطقة، أي فعليا ازدهار الكيان الصهيوني ومن يوافق على سيطرته، على حساب حق الشعب الفلسطيني بأرضه ومياهه وهوائه.

بناء على هذا الدمار الذي أحدثته اتفاقيات باريس الموقعة من قبل “سلطة أوسلو” عام 1994، تقترح ورشة البحرين المشاركة العربية في تمكين السيطرة الصهيونية وتوسيعها على الأرضي الفلسطينية كافة، وعلى الجولان السوري المحتل، بدلا من مشاركة أموال العرب في تمكين السلطة الفلسطينية ومشاريعها الاقتصادية المخططة على أساس وهم “حلّ الدولتين”، الفلسطينية الى جانب الكيان الصهيوني.

هل “صفقة القرن” و”ورشة البحرين” تناقضان اتفاقيات أوسلو واتفاق باريس أم هما مكملان لهما؟ الإجابة على السؤال قد يؤشر على امكانية استعادة الوحدة الفلسطينية حول شعار “فلسطين مش للبيع”. فاعتبار أن صفقة القرن مكملة لاتفاقيات أوسلو يعني أنه يجب التخلص منها لاستعادة الوحدة السياسية الفلسطينية والعودة الى البدايات، كما تساءل الاستاذ زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: ” فهل نتوقفُ جميعاً فلسطينيينَ وعرباً، ونعيدُ تقييمَ كلِّ شيءٍ، ونعودُ إلى البداياتِ، ونقولُ نحن شعبٌ وقعَ عليهِ ظلمٌ تاريخيٌّ، وعليهِ أن يدفعَ هذا الظلمَ مهما كانَتِ التضحياتُ؟”

أما اعتبار “صفقة القرن” و”ورشة البحرين” متناقضتان لاتفاقيات أوسلو واتفاق باريس فيعني بالمقابل

تشبّث “فريق أوسلو” بالطريق المسدود ووهم “حلّ الدولتين”، ومواصلة “التنسيق الأمني” مع المحتل ضد المقاومة والمقاومين، والاستمرار في المشاريع المشبوهة التي تكرّس الانقسام بين من يريد مقاومة المحتل ومن يريد التفاوض معه في ظلّ “حلّ الدولتين”، الذي تخلى عن الحق الفلسطيني على فلسطين التاريخية.

لقد قسّمت اتفاقيات أوسلو الشعب الفلسطيني وأرض فلسطين، وشرذمت قواه وفتحت أبواب التطبيع العربي والفلسطيني مع المحتل، بخلاف “صفقة القرن” وملحقاتها، التي أنتجت شروط استعادة الوحدة السياسية تحت شعار: “فلسطين مش للبيع” (كل فلسطين) وفتحت آفاق العمل الوحدوي.

لم تبدّد بعد “صفقة القرن” كل الأوهام المتعلقة بالموقف الأميركي والغربي عموما، كما لم تنتج بعد حراكا شعبيا عربيا واسعا معاديا للتدخل الأميركي والغربي في منطقتنا، حيث ما زالت بعض الأنظمة العربية المناهضة لصفقة القرن وملحقاتها تعتبر أن هذه الصفقة تخصّ الشعب الفلسطيني وحده، وليس شعوب الأمة، ما يجعلها تصرّح أنها تقبل ما يقبل به الفلسطيني وترفض ما يرفضه، أي ما يقبل به “فريق أوسلو” وما يرفضه، وكأن الهيمنة الأميركية والغربية على هذه الدول، على اقتصادها وقراراتها السياسية غير مرتبطة بما تدبّره لهذه المنطقة بشكل عام. فلذلك جاء توضيح الاستاذ زياد النخالة: “نختارُ طريقَ المقاومةِ والكفاحِ المسلحِ، والتمسكَ بفلسطينَ كاملةً، حتى لا نتركَ مجالاً للذينَ يتسترونَ ببعضِنا تحتَ مقولةِ “ما يقبلُهُ الفلسطينيونَ نقبلُ بهِ”.

توحّد الشعب الفلسطيني حول شعار “فلسطين مش للبيع” ووحّد شعوب الأمة حوله. ولكن، ما المقصود ب”فلسطين” ؟ فلسطين التاريخية، من البحر الى النهر؟ أم ما تبقى من فلسطين بعد اتفاقيات أوسلو؟

وكالة القدس للانباء